موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: أخطاءٌ شائِعةٌ


- كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يظُنُّ أو يَزعُمُ أنَّ الصَّبرَ خُلُقٌ سَلبيٌّ، وأنَّ مَعناه الاستِسلامُ والرِّضا بالواقِعِ، والكفُّ عن مُعالجةِ الأُمورِ والاحتيالِ للخُروجِ مِنَ الشَّدائِدِ والأزَماتِ، وهذا فهمٌ خاطِئٌ ووهمٌ فاسِدٌ؛ فالصَّبرُ كما يكونُ جُهدًا نَفسيًّا للتَّأبِّي على المَعاصي والابتِعادِ عنِ السَّيِّئاتِ، يكونُ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ جُهدًا عَمَليًّا إيجابيًّا فيه حَرَكةٌ وسَعيٌ، وفيه إنتاجٌ وتَحَمُّلٌ للتَّبِعاتِ وتَعَرُّضٌ لجَلائِلِ الأعمالِ ومَواقِفِ الأبطالِ [5672] ((أخلاق القرآن)) للشرباصي (1/194). .
- الصَّبرُ لا يُناقِضُ الإحساسَ بالألمِ؛ لأنَّ هذا الإحساسَ أمرٌ طَبيعيٌّ ليسَ مَعيبًا، وإنَّما المَعيبُ هو الخُضوعُ لهذا الإحساسِ والرِّضا به أو الاستِجابةُ لداعيه الذي يُغرِقُ صاحِبَه في الجَزَعِ والهَوانِ [5673] ((أخلاق القرآن)) للشرباصي (1/194). .
فلمَّا توُفِّي إبراهيمُ ابنُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَلت عَينا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَذرِفانِ، فقال له عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه: وأنت يا رَسولَ اللهِ؟! فقال: ((يا ابنَ عَوفٍ، إنَّها رَحمةٌ، ثُمَّ أتبَعَها بأُخرى، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ العَينَ تَدمَعُ، والقَلبَ يحزَنُ، ولا نَقولُ إلَّا ما يُرضي رَبَّنا، وإنَّا بفِراقِك يا إبراهيمُ لمَحزونونَ)) [5674] أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315). .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بدَمعِ العَينِ، ولا بحُزنِ القَلبِ، ولكِنْ يُعَذِّبُ بهذا -وأشارَ إلى لسانِه- أو يرحَمُ)) [5675] أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (والتَّحقيقُ أنَّ الألمَ لا يقدِرُ أحَدٌ على رَفعِه، والنُّفوسُ مَجبولةٌ على وِجدانِ ذلك، فلا يُستَطاعُ تَغييرُها عَمَّا جُبِلَت عليه، وإنَّما كُلِّف العَبدُ ألَّا يقَعَ مِنه في حالِ المُصيبةِ ما له سَبيلٌ إلى تَركِه كالمُبالغةِ في التَّأوُّه والجَزَعِ الزَّائِدِ، كأنَّ مَن فعلَ ذلك خَرَجَ عن مَعاني أهلِ الصَّبرِ، وأمَّا مُجَرَّدُ التَّشَكِّي فليس مَذمومًا حتَّى يحصُلَ التَّسَخُّطُ للمَقدورِ) [5676] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 124). .
- قد يُظَنُّ أنَّ الشَّكوى إلى اللهِ تعالى تُنافي الصَّبرَ، وهذا خَطَأٌ؛ ففي قَولِه تعالى عن يعقوبَ عليه السَّلامُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] مَعَ قَولِه سُبحانَه عنه: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] أنَّ الشَّكوى إلى اللهِ لا تُنافي الصَّبرَ الجَميلَ [5677] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/666). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (فإنَّ يعقوبَ -عليه السَّلامُ- وعَدَ بالصَّبرِ الجَميلِ، والنَّبيُّ إذا وعَدَ لا يُخلِفُ، ثُمَّ قال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسُف: 86] ، وكذلك أيُّوبُ أخبَرَ اللهُ عنه أنَّه وجَدَه صابرًا، مَعَ قَولِه: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] .
وإنَّما يُنافي الصَّبرَ شَكوى اللهِ، لا الشَّكوى إلى اللهِ. كما رَأى بَعضُهم رَجُلًا يشكو إلى آخَرَ فاقةً وضَرورةً، فقال: يا هذا، تَشكو مَن يرحَمُك إلى مَن لا يرحَمُك؟ ثُمَّ أنشَدَ:
وإذا عَرَتْك بَليَّةٌ فاصبِرْ لها
صَبرَ الكريمِ فإنَّه بك أعلَمُ
وإذا شَكوتَ إلى ابنِ آدَمَ إنَّما
تَشكو الرَّحيمَ إلى الذي لا يرحَمُ) [5678] ((مدارج السالكين)) (2/ 160). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (وقد اتَّفقوا على كراهةِ شَكوى العَبدِ رَبَّه، وشَكواه إنَّما هو ذِكرُه للنَّاسِ على سَبيلِ التَّضَجُّرِ، واللهُ أعلمُ) [5679] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 124). .
- قد يُظَنُّ أنَّ الصَّبرَ لا يكونُ إلَّا على البَلاءِ أو الشِّدَّةِ، وهذا خَطَأٌ؛ فالصَّبرُ على النِّعَمِ لا يقِلُّ عنِ الصَّبرِ على البَلاءِ؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (وما يُصيبُ الإنسانَ إن كان يسُرُّه فهو نِعمةٌ بَيِّنةٌ، وإن كان يسوؤُه فهو نِعمةٌ؛ لأنَّه يُكفِّرُ خَطاياه ويُثابُ عليه بالصَّبرِ، ومِن جِهةِ أنَّ فيه حِكمةً ورَحمةً لا يعلَمُها العَبدُ، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة: 216] الآية، وكِلتا النِّعمَتَينِ تَحتاجُ مَعَ الشُّكرِ إلى الصَّبرِ، أمَّا الضَّرَّاءُ فظاهرٌ، وأمَّا نِعمةُ السَّرَّاءِ فتَحتاجُ إلى الصَّبرِ على الطَّاعةِ فيها، كما قال بَعضُ السَّلفِ: ابتُلينا بالضَّرَّاءِ فصَبَرنا، وابتُلينا بالسَّرَّاءِ فلم نَصبرْ؛ فلهذا كان أكثَرُ مَن يدخُلُ الجَنَّةَ المَساكينَ، لكِن لمَّا كان في السَّرَّاءِ اللَّذَّةُ، وفي الضَّرَّاءِ الألمُ، اشتَهَرَ ذِكرُ الشُّكرِ في السَّرَّاءِ، والصَّبرِ في الضَّرَّاءِ؛ قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ [هود: 9] إلى قَولِه: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... [هود: 11] الآية) [5680] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 209). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (وكُلُّ ما يلقى العَبدُ في هذه الدَّارِ لا يخلو مِن نَوعَينِ: أحَدُهما يوافِقُ هَواه ومُرادَه، والآخَرُ يُخالفُه، وهو مُحتاجٌ إلى الصَّبرِ في كُلٍّ مِنهما؛ أمَّا النَّوعُ الموافِقُ لغَرَضِه فكالصِّحَّةِ والسَّلامةِ والجاهِ والمالِ وأنواعِ المَلاذِّ المُباحةِ، وهو أحوجُ شيءٍ إلى الصَّبرِ فيها مِن وُجوهٍ:
أحَدُها: ألَّا يركَنَ إليها ولا يغتَرَّ بها ولا تَحمِلَه على البَطَرِ والأشَرِ والفرَحِ المَذمومِ الذي لا يحبُّ اللهُ أهلَه.
الثَّاني: ألَّا ينهَمِكَ في نَيلِها ويُبالغَ في استِقصائِها؛ فإنَّها تَنقَلبُ إلى أضدادِها؛ فمَن بالغَ في الأكلِ والشُّربِ والجِماعِ انقَلبَ ذلك إلى ضِدِّه، وحُرِمَ الأكلَ والشُّربَ والجِماعَ.
الثَّالثُ: أن يصبرَ على أداءِ حَقِّ اللهِ فيها ولا يُضَيِّعَه؛ فيُسلَبَها.
الرَّابعُ: أن يصبرَ عن صَرفِها في الحَرامِ، فلا يُمَكِّنَ نَفسَه مِن كُلِّ ما تُريدُه مِنها؛ فإنَّها توقِعُه في الحَرامِ، فإن احتَرَزَ كُلَّ الاحتِرازِ أوقَعَته في المَكروهِ، ولا يصبرُ على السَّرَّاءِ إلَّا الصِّدِّيقونَ.
قال بَعضُ السَّلَفِ: البَلاءُ يصبرُ عليه المُؤمِنُ والكافِرُ، ولا يصبرُ على العافيةِ إلَّا الصِّدِّيقونَ، وقال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ رِضيَ اللهُ عنه: "ابتُلينا بالضَّرَّاءِ فصَبَرْنا، وابتُلينا بالسَّرَّاءِ فلم نَصبِرْ"؛ ولذلك حَذَّرَ اللهُ عِبادَه مِن فِتنةِ المالِ والأزواجِ والأولادِ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون: 9] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] ، وليسَ المُرادُ مِن هذه العَداوةِ ما يَفهمُه كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أنَّها عَداوةُ البَغضاءِ والمُحادَّةِ، بل إنَّما هي عَداوةُ المحبَّةِ الصَّادَّةِ للآباءِ عنِ الهِجرةِ والجِهادِ، وتَعلُّمِ العِلمِ، والصَّدَقةِ، وغَيرِ ذلك مِن أُمورِ الدِّينِ وأعمالِ البِرِّ... وما أكثَرَ ما فاتَ العَبدَ مِنَ الكمالِ والفلاحِ بسَبَبِ زَوجَتِه وولَدِه!) [5681] ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 63). .

انظر أيضا: