موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيتان (43-44)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

وَلَتَنَازَعْتُمْ: أي: وَلاختَلَفتُم، والتَّنازُع: التَّجاذُبُ والتَّخاصُمُ والتَّجادُلُ، وأصلُ (نزع) يدُلُّ على قَلعِ شَيءٍ [588] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/218، 415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 798)، ((تفسير القرطبي)) (8/22). .

مشكل الإعراب:

قوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا
يُرِيكَهُمُ: (يُري) [589] أصلُه (رأى - يَرَى)، وعند دخولِ هَمزةِ التَّعديةِ أصبح (أَرَى - يُرِي)، فإن كان الفِعلُ متعديًا لمفعولٍ به واحدٍ (وهو رأى البَصَرية) تعدَّى بالهمزةِ إلى مفعولينِ، وإن كان متعديًا إلى مفعولينِ كـ (رأى) العِلميَّةِ، أو الحُلميَّةِ- على رأيٍ- تعدَّى بالهمزةِ إلى ثلاثةِ مَفاعيلَ، وأبطَلَ (أبو حيان) تعدِّيَها إلى ثلاثةِ مَفاعيلَ بجوازِ حَذفِ الثَّالِثِ في هذا البابِ اقتصارًا- أي مِن غَيرِ دَليلٍ- تقولُ: رأيتُ زيدًا في النَّومِ، وأراني اللهُ زيدًا في النَّومِ، ولو كانت تتعَدَّى لثلاثةٍ لِمَا حُذِفَ اقتصارًا؛ لأنَّه خبَرٌ في الأصلِ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/330)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/615). فِعلٌ مُضارِعٌ مَرفوعٌ، والكاف في محلِّ نَصبٍ، مَفعولٌ به أوَّلُ. و(هم) في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به ثانٍ، و(قَلِيلًا) حالٌ- على القَولِ بأنَّ الرُّؤيا المناميَّةَ تتعدَّى لمفعولٍ به واحدٍ، كالرُّؤيةِ البَصَريَّةِ- أو مفعولٌ به ثالثٌ- على القَولِ بأنَّ الرُّؤيا المناميَّةَ تتعدَّى لاثنينِ كالرُّؤيةِ العِلميَّةِ، و(كَثِيرًا) كـ(قَلِيلًا) إعرابًا.
يُرِيكُمُوهُمْ: الرُّؤيةُ هنا بصريَّةٌ لا غيرُ؛ لأنَّها كانت في اليَقَظةِ. وعلى ذَلك فالكافُ في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ به أوَّلُ، والميمُ للجَمعِ، وقد أُشبِعَت ضَمَّتُها إلى الواوِ، و (هم) في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به ثانٍ. و(قَلِيلًا) حالٌ لا غيرُ [590] يُنظر: ((تفسير الزمخشري))، ((تفسير أبي حيان)) (5/330)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/615)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعَّاس (1/431). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: اذكُر- يا مُحمَّدُ- حين أراك اللهُ في نَومِك جيشَ الكُفَّارِ في بَدرٍ قليلًا، فأعلَمْتَ أصحابَك بما رأيتَ، فَقَوِيتْ قُلوبُهم على قتالِ الكُفَّارِ، ولو أراكهم اللهُ في نَومِك كثيرًا، فأخبَرْتَ المُسلمينَ بذلك؛ لَجَبُنوا وتنازَعوا في قتالِ المُشركينَ، ولكِنَّ اللهَ سلَّم من ذلك؛ إنَّه عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ.
وتأكيدًا لما حصَل مِن بُشرَى الرُّؤيا فقد أراكم الله في الواقعِ جيشَ الكفَّارِ قليلًا؛ لتتشَجَّعوا على قِتالِهم، وقلَّلَكم في أعيُنِهم لِيَستَهينوا بقتالِكم؛ لِيقضيَ اللهُ أمرًا مُقدَّرًا لا بدَّ مِن وُقوعِه؛ مِن قتالِ بعضِكم بعضًا يومَ بَدرٍ، وانتصارِ المسلمينَ، وإهلاكِ الكافرينَ، وإلى الله وَحدَه تُرجَعُ الأمورُ.

تفسير الآيتين:

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً.
أي: اذكُر حين [591] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/534)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/22)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/70). أراك اللهُ في نَومِك- يا مُحمَّدُ- جيشَ الكافرينَ في بدرٍ، وهم قليلٌ، فأخبَرتَ المُسلمينَ برؤياك، فَقَوِيَت قُلوبُهم على قتالِ الكافرينَ [592] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/208، 209)، ((تفسير ابن كثير)) (4/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/70، 71). قال ابنُ عطية: (تظاهرت الرِّواياتُ أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ في رُؤيا رآها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، رأى فيها عددَ الكُفَّارِ قليلًا، فأخبَرَ بذلك أصحابَه، فقَوِيَت نفوسُهم، وحَرَصوا على اللِّقاءِ). ((تفسير ابن عطية)) (2/534). .
وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ.
أي: ولو أراكَ اللهُ عَددَ الكافرينَ في منامِك كثيرًا، وأخبرتَ المُسلمينَ بذلك؛ لَجَبُنوا وخافوا، واختَلَفوا في قتالِ المُشرِكينَ [593] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/209)، ((تفسير ابن عطية)) (2/535)، ((تفسير ابن كثير)) (4/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/24)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/71، 72). .
وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ.
أي: ولكنَّ اللهَ سلَّم المسلمينَ مِن الفَشَلِ والتَّنازُعِ؛ بسبَبِ ما أراك في نَومِك مِن قِلَّةِ عَددِ الكافرينَ، فقَوِيَت قلوبُهم، وتجرَّؤوا على قتالِ عَدُوِّهم [594] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/209، 211)، ((البسيط)) للواحدي (10/177)، ((تفسير القرطبي)) (8/22)، ((تفسير ابن كثير)) (4/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/72). .
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بما تُخفيه الصُّدورُ؛ مِن الإيمانِ والكُفرِ، والوساوسِ وغيرِ ذلك، لا يخفَى عليه شيءٌ سُبحانَه [595] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/209)، ((تفسير ابن عطية)) (2/535)، ((تفسير ابن كثير)) (4/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/72). .
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى ما نشأ عن رُؤيَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قِلَّتِهم، وما كان ينشأُ عن رؤيتِه الكثرةَ لو وقَعَت؛ أتبَعَه ما فعل مِن اللُّطفِ في رؤيتِهم بأنفُسِهم يقظةً [596] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/290). .
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً.
أي: واذكروا حين [597] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/72). أراكُم اللهُ في اليقظةِ- أيُّها المؤمنونَ- جيشَ الكافرينَ قليلًا عندَ اللقاءِ؛ لِتَتشجَّعوا على قتالِهم [598] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/211)، ((تفسير ابن كثير)) (4/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/72، 73). قال ابنُ عطية: (هذه الرُّؤيةُ هي في اليَقَظةِ بإجماعٍ). ((تفسير ابن عطية)) (2/535). وقال الشِّنقيطي: (هذا رأيٌ في العينِ تَصديقًا لِرُؤياه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((العذب النمير)) (5/72). .
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (لقد قُلِّلوا في أعيُنِنا يومَ بَدرٍ، حتى قُلْتُ لرَجُلٍ إلى جانِبي: تُراهم سبعينَ؟ قال: لا، بل هم مئةٌ، حتى أخَذْنا رجُلًا منهم فسَأَلْناه، قال: كنَّا ألفًا) [599] أخرجه ابن أبي شيبة (36698 )، وابن جرير في ((التفسير)) (6690 )، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (5/1710)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (10/147) (10269). قال ابنُ حجر في ((المطالب العالية )) (4/387): (إسنادُه صحيحٌ، إن كان أبو عبيدةَ سَمِعَه من أبيه). وقال ابنُ رجب: (وأبو عبيدة، وإن لم يسمَعْ من أبيه، إلا أنَّ أحاديثه عنه صحيحةٌ، تلقَّاها عن أهلِ بَيتِه الثِّقات العارفين بحديث أبيه: قاله ابنُ المديني وغيره). ((فتح الباري)) (7/342). .
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ.
أي: وقَلَّلَكم في أعيُنِ الكافرينَ؛ لِيَرَوكم أقَلَّ ممَّا أنتم عليه، فيَستَهينوا بقتالِكم [600] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/26). قال ابن كثير: (ومعنى هذا أنَّه تعالى أغرى كُلًّا من الفريقينِ بالآخَرِ، وقلَّلَه في عَينِه؛ ليَطمَعَ فيه، وذلك عند المواجَهةِ، فلما الْتَحَم القتالُ وأيَّدَ اللهُ المؤمنينَ بألفٍ مِن الملائكةِ مُردِفينَ، بقِيَ حزبُ الكفَّارِ يرى حزبَ الإيمانِ ضِعفَيه، كما قال تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [آل عمران: 13] ، وهذا هو الجمعُ بين هاتينِ الآيتين؛ فإنَّ كلًّا منها حقٌّ وصِدقٌ، ولله الحمدُ والمنة). ((تفسير ابن كثير)) (4/70). .
لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً.
أي: خيَّل اللهُ لكُلِّ فَريقٍ قِلَّةَ الفَريقِ الآخَرِ؛ لأجلِ أن يقَعَ ما قدَّره مِن قتالِ بَعضِهم بعضًا في بدرٍ، وانتصارِ المُسلمينَ، وإهلاكِ الكافرينَ [601] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/212)، ((البسيط)) للواحدي (10/180)، ((تفسير ابن كثير)) (4/70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/26)، ((العذب النمير)) للشنقيطي(5/73). قال الشنقيطي: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ بذلك أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا في عِلْمِه، وأزَلِه، مُنَفَّذًا في وَقْتِه لا محالةَ؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ وعلا يقضي ويُقَدِّرُ، فيُقَدِّرُ كُلَّ ما شاء ثمَّ يقضيه مُنجَزًا في أوقاتِه، في أماكِنِه، على هَيئَتِه وصُوَرِه التي سبَقَ بها عِلْمُه). ((العذب النمير)) (5/73). .
وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ.
أي: وإلى اللهِ تعالى وَحدَه تَصيرُ جَميعُ أمورِ الخَلائقِ، فيحكُم فيهم بحُكمِه العَدلِ [602] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/213)، ((تفسير القرطبي)) (8/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 322)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/73، 74). قال الشنقيطي: (وقد صار إليه هذا الأمرُ، وآل إليه، فنفذَ فيه مشيئته وقُدرَته، وهيَّأ الأسبابَ، حتى هَزَمَ الكفرةَ، وقَتلَ صناديدَهم ورؤساءَهم، وكسَرَ شَوكتَهم على أيدي أوليائِه المسلمين، ونصَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه، وأيَّدَهم بنَصرِه، وهذا قضاؤُه وقَدَرُه جلَّ وعلا، واللهُ يُهيئُ الأسبابَ، ولو شاء فعَلَ بلا سببٍ، إلَّا أنَّه اقتضت حِكمَتُه أن يُرتِّبَ المسبَّباتِ على أسبابٍ، ويُسبِّبَ للأشياءِ جلَّ وعلا، سبحانه وتعالى). ((العذب النمير)) (5/74). .
كما قال تعالى: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] .

الفوائد التربوية:

في قول الله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تنبيهٌ على أنَّ أمورَ الدُّنيا غيرُ مَقصودةٍ، وإنَّما المرادُ منها ما يَصلُحُ أن يكونَ زادًا لِيَومِ المَعادِ [603] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/488). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا إذا قيل: كيف يريهم الله قليلًا في منامه، ورؤيا الأنبياءِ حَقٌّ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعلَمُ أنَّهم حوالَي ألف؟ والجوابُ: أنَّ رُؤيا النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حقٌّ، وتأويلَها حَقٌّ؛ لأنَّ معنى رؤياه أنَّ اللهَ قَلَّلَ كُلًّا مِن الطَّائِفَتينِ في عينِ الأُخرَى في اليَقظةِ، وهو معنى قَولِه: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [604] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/70). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ لَمَّا كان الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَحميًّا مِن الفَشلِ، معصومًا مِن النَّقائِصِ؛ أسنَدَ الفَشلَ إلى من يُمكِنُ ذلك في حَقِّه، فقال تعالى: لَفَشِلْتُمْ [605] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/330). .
3- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا فيه أنَّ القَضاءَ والقَدَرَ قائمانِ بِسُنَنِه تعالى في الأسبابِ والمُسَبَّبات، فهو لو شاء لخَلَقَ في القلوبِ والأذهانِ ما أراده بتأثيرِ مَنامِ الرَّسولِ، وبتقليلِ كُلٍّ مِن الجَمعينِ في أعيُنِ الآخَرِ، مِن غيرِ أن يُرَتِّبَهما على هذينِ السَّبَبينِ، ولكنَّه ناط كلَّ شَيءٍ بِسَببٍ، وخلقَ كلَّ شَيءٍ بِقَدَرٍ [606] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/19). .
4- قال الله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ هذا مِن بَديعِ صُنعِ اللهِ تعالى؛ إذ جعَلَ للشَّيءِ الواحِدِ أثَرَينِ مُختَلِفينِ، وجعَلَ للأثرَينِ المُختَلِفينِ أثرًا مُتَّحِدًا، فكان تخيُّلُ المسلمينَ قِلَّةَ المشركينَ مُقَوِّيًا لِقُلوبِهم، وزائدًا لِشَجاعَتِهم، ومُزيلًا للرُّعبِ عنهم، فعَظُم بذلك بأسُهم عند اللِّقاء؛ لأنَّهم ما كان لِيَفُلَّ من بأسِهم إلَّا شُعورُهم بأنَّهم أضعَفُ مِن أعدائِهم عَددًا وعُددًا، فلمَّا أُزيلَ ذلك عنهم بِتَخييلِهم قِلَّةَ عَدُوِّهم، خَلُصَت أسبابُ شِدَّتِهم ممَّا يُوهِنُها، وكان تخيُّلُ المُشركينَ قِلَّةَ المسلمين- أي كَونَهم أقَلَّ ممَّا هم عليه في نَفسِ الأمرِ- بَردًا على غَلَيانِ قُلوبِهم مِن الغَيظِ، وغارًّا إيَّاهم بأنَّهم سيَنالونَ التغَلُّبَ عليهم بأدنى قِتالٍ، فكان صارِفًا إيَّاهم عن التأهُّبِ لقِتالِ المُسلِمينَ، حتى فاجأهم جَيشُ المُسلمينَ، فكانت الدَّائرةُ على المُشرِكينَ، فنتج عن تخيُّلِ القِلَّتَينِ انتصارُ المُسلمينَ [607] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/26). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
- قوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا أُسنِدَت الإراءةُ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّ رُؤيا النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحيٌ بمَدْلولِها [609] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/330)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/22). .
- وفي قولِه: يُرِيكَهُمُ جاء التعبيرُ بصِيغة المُضارِع؛ لاسْتِحضارِ حالةِ الرُّؤيا العجيبةِ [610] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/23). .
- قولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ مفعولُ سَلَّمَ ومُتعلَّقُه محذوفان إيجازًا؛ إذ دلَّ عليه قولُه: لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ والتَّقديرُ: سَلَّمَكم من الفَشلِ والتَّنازُعِ بأنْ سلَّمكم مِن سببِهما، وهو إراءتُكم واقعَ عددِ المشركينَ [611] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/24). .
- وقولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ فيه وضْعُ الظَّاهِر موضِعَ المُضمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: ولكنَّه سلَّم-؛ وذلك لقَصْدِ زِيادةِ إسنادِ ذلك إلى اللهِ، وأنَّه بعنايته، واهتمامًا بهذا الحادثِ [612] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/24). .
- قولُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تذييلٌ للمِنَّةِ، أي: أَوْحى إلى رَسولِه بتلك الرُّؤيا الرَّمزيَّةِ؛ لعِلْمِه بما في الصُّدورِ البشريَّةِ من تأثُّر النُّفوسِ بالمشاهداتِ والمحسوساتِ أَكْثرَ ممَّا تتأثَّر بالاعتقاداتِ [613] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/25). .
2- قَولُه تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا فيه تَكرارُ قوله: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا حيثُ ذَكَره في الآيةِ المتقدِّمةِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال: 42] ، وليس ذلِك محضَ تَكرارٍ؛ فالمقصودُ مِن ذِكرِه في الآيةِ المُتقدِّمةِ هو أنَّه تعالى فَعَل تِلك الأفعالَ ليَحصُلَ استيلاءُ المؤمنين على المشرِكينَ، على وجهٍ يكونُ مُعجزِةً دالَّةً على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمقصودُ مِن ذِكرِه هاهنا: أنَّه تَعالَى قلَّلَ عَددَ المؤمنِينَ في أعينِ المُشرِكين؛ فبَيَّن هاهنا أنَّه إنَّما فَعَل ذلِك ليَصيرَ ذلك سببًا لئلَّا يُبالِغَ الكُفَّارُ في تَحصيلِ الاستعدادِ والحذَرِ؛ فيصيرُ ذلك سببًا لانكسارِهم [614] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/487)، ((تفسير الشربيني)) (1/573). .
- قوله: الْتَقَيْتُمْ الالتقاءُ افتعالٌ من اللِّقاءِ، وصيغةُ الافتعالِ فيه دالَّة على المُبالَغةِ [615] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/27). .
- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ خُولِفَ الأسلوبُ في حكايةِ إراءةِ المُشركينَ، وحكايةِ إراءةِ المُسلمينَ؛ لأنَّ المُشركينَ كانوا عددًا كثيرًا، فناسب أن يَحكيَ تقليلَهم بإراءَتِهم قليلًا، المؤذنة بأنَّهم ليسُوا بالقَليلِ. وأمَّا المُسلمونَ فكانوا عددًا قليلًا بالنِّسبةِ لعَدُوِّهم، فكان المناسِبُ لِتَقليلِهم: أن يُعَبِّرَ عنه بأنَّه (تقليلٌ)، المؤذِن بأنَّه زيادةٌ في قِلَّتِهم [616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/28). .
- قولُه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَذييلٌ معطوفٌ على ما قَبْلَه عطفًا اعتراضيًّا، وهو اعتراضٌ في آخِر الكلامِ [617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/28). ، وفي هذا التَّذييلِ تنبيهٌ على أنَّ الحَوْلَ بأجمعِه للهِ تعالى، وأنَّ كلَّ أمرٍ فله وإليه [618] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/535). .
- والتعريفُ في قولِه: الْأُمُورُ للاستغراقِ، أي: جميعُ الأشياءِ [619] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/28). .