موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان: (12- 13)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غريبُ الكَلِماتِ:

تُحْشَرُونَ: تُجمَعون؛ فالحشرُ: الجمعُ مع سَوْق، وكل جمعٍ حَشْرٌ، والبعثُ والانبعاثُ، أو الجمعُ بكثرة يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 188)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 161). .
الْمِهَادُ: الفِراشُ، أو المكانُ الممهَّد المُوطَّأ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 117، 342)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُرُ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَ الكافرين بأنَّهم سيُغلَبون من قِبَلِ المؤمنين في حياتِهم الدُّنيا، وأنَّهم سيُجمَعون يومَ القيامة إلى نارِ جهنَّمَ؛ فهي الفِراشُ الَّذي فرَشوه لأنفسِهم، فبئس الفِراشُ.
ثم يقول تعالى: قد كان لكم علامةٌ ودلالةٌ واضحةٌ في أنَّ الغَلَبةَ تكونُ للمؤمنين, وأنَّ النَّصرَ حليفُهم, وأنَّ اللهَ مُعزٌّ دِينَه، ومؤيِّدٌ رسولَه، هذه العلامةُ والدَّلالة متمثِّلةٌ في طائفتينِ تَقاتَلَتا، إحداهما مؤمنة تُقاتِلُ في سبيل الله، وهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه من المسلمين، والأخرى كافرة، وهم مُشرِكو قريشٍ, وذلك في يوم بدرٍ؛ حيث كان المسلمون يرَوْن الكافرين رؤيةً ظاهرةً بأنَّهم ضِعفُهم في العددِ, حتى يحصُلَ لهم التَّوكُّلُ على الله، ويلجَؤوا إليه في طلبِ الإعانة, والله يُقوِّي بأسباب نصرِه مَن يشاءُ ممَّن تقتضي الحكمةُ نصرَه أو تأييدَه, وفي ذلك التَّأييدِ للفئةِ المسلِمةِ- مع قلَّتِها- عبرةٌ وعِظَةٌ لِمن رُزِق بصيرةً نافذةً وعقلًا كاملًا يوصِّلانِه إلى معرفةِ حِكَمِ اللهِ وأفعالِه.

تفسير الآيتين:

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: سَتُغْلَبُونَ قراءتان:
1- قراءة (سَيُغْلَبُونَ) على معنى أنَّ الكُفَّارَ غُيَّبٌ.
وقيل معناه: قلْ لليهود: سيُغلبُ مُشرِكو العربِ ويُحشرون إلى جَهنَّمَ، فتكونُ المخاطبةُ لليهود، وتكونُ الغلبةُ واقعةً على مُشركي قريش، والتوجيهُ الأوَّل أرجحُ لصريحِ الخِطاب قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قرأ بها حمزة والكسائي وخلف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 184). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (5/238)، ((الكشف)) لمكي (1/335)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/43). .
2- قِراءة (سَتُغْلَبُونَ) هي أمرٌ من الله لنبيِّه أنْ يُخاطِبَ الكفَّارَ بهذا، أي: قل لهم- يا محمَّدُ- مواجهًا بالخطاب: ستُغلبون وتُحشرون إلى جهنَّمَ قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 184). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (5/238)، ((الكشف)) لمكي (1/335)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/43). .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للَّذين كفروا: ستُغلَبون من قِبَلِ المؤمنين في الدُّنيا.
كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وكما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/241)، ((تفسير ابن كثير)) (2/17)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/72). .
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَتُحْشَرُونَ قِراءتان:
1- قِراءة (وَيُحْشَرُونَ) بالياء، على لفظِ الغَيبة قرأ بها حمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 184). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (5/238)، ((الكشف)) لمكي (1/335)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/43). .
2- قِراءة (وَتُحْشَرُونَ) بالتَّاء بالخِطابِ قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 184). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (5/238)، ((الكشف)) لمكي (1/335)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/43). .
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
أي: وتُجمَعون يَومَ القِيامةِ إلى النَّار ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/241)، ((تفسير ابن كثير)) (2/17)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/73). ولَمَّا كان الأمرُ كما أخبَر به اللهُ تعالى مِن كونِهم غُلبوا في الدُّنيا، وشاهَد ذلك الناسُ؛ فهذا يُصدِّق الخبرَ الأخير أنَّهم يُحشرون إلى جهنَّم، وبئس المهاد. ((الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح)) لابن تيمية (1/410). .
 كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .
وَبِئْسَ الْمِهَادُ:
وبئس الفِراشُ جهنَّمُ الَّتي تُحشَرون إليها ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/241)، ((تفسير ابن كثير)) (2/17)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/75). والمخصوص بالذمِّ محذوف؛ لدلالةِ ما قبله عليه، التقدير: وبئس المهادُ جهنمُ، وكثيرًا ما يُحذف لفَهم المعنى. ((تفسير أبي حيان)) (3/44). .
كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف: 41] .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
 قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ
 أي: قد كان لكم في المخاطَبين بهذا ثلاثةُ أقوال؛ أحدها: أنهم المؤمنون، رُوي عن ابن مسعود، والحسن. والثاني: الكفَّار، فيكون معطوفًا على الذي قبله، وهو يتخرَّج على قول ابن عبَّاس في الذي قبله. والثالث: أنَّهم اليهود، ذكره الفَرَّاء، وابن الأنباري. يُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/262)، واختارَ القول الثالث: أنَّهم اليهود: ابنُ جرير في ((تفسيره)) (5/241)، وابنُ كثير في ((تفسيره)) (2/17). قال ابنُ عاشور: (والخِطاب في قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ خِطابٌ للذين كفروا، كما هو الظَّاهر؛ لأنَّ المقام للمحاجَّة، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحُجَّة؛ فيكون من جملة المقول، ويجوز أن يكونَ الخطاب للمسلمين، فيكون استئنافًا ناشئًا عن قوله: ستُغْلَبُونَ؛ إذ لعل كثرة المخاطبين من المشركين، أو اليهود، أو كليهما، يُثير تعجُّب السامعين من غلبهم، فذكَّرهم الله بما كان يوم بدر)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/176). علامةٌ ودلالةٌ على أنَّ الغَلَبةَ تكونُ للمؤمنين، وأنَّ اللهَ مُعزٌّ دِينَه، وناصرٌ رسولَه، ومُظهِرٌ كلمتَه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/241)، ((تفسير القرطبي)) (4/24)، ((تفسير ابن كثير)) (2/17). .
فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
 أي: في طائفتينِ لقِي بعضُهما بعضًا للقتالِ فيما بينهما لا خِلافَ بين المفسِّرين أنَّ الإشارةَ بهاتين الفِئتين هي إلى يوم بدر. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/44)، ((تفسير القرطبي)) (4/25). قال ابنُ عاشور: (والالتقاء: اللِّقاء، وصِيغة الافتعال فيه للمُبالغة، واللقاء مصادفةُ الشخص شخصًا في مكان واحد، ويُطلق اللِّقاءُ على البروزِ للقتال كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ *الأنفال: 15*... وهذه الآية تحتمل المعنيين) ((تفسير ابن عاشور)) (3/176). : طائفةٍ تُقاتِلُ في سبيلِ الله، وهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه من المسلِمين، وطائفةٍ كافرةٍ، وهم مُشرِكو قُريشٍ، وذلك يومَ بَدْرٍ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/241)، ((تفسير ابن كثير)) (2/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 123). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] .
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
 أي: يرَى المسلِمون الكافرين وهذا اختيار ابن جرير في ((تفسيره)) (5/251)، والواحدي في ((التفسير الوسيط)) (1/417)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 123)، وابن عثيمين في ((تفسير سورة آل عمران)) (1/79). وقيل رأى الكفار المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم، فوقع الرعب في قلوبهم. وممن اختاره ابن عاشور في ((تفسيره)) (3/177)، والشنقيطي في ((العذب النمير)) (5/71). مثلي عدد المسلمين، رؤيةً ظاهرةً لا لَبْسَ فيها؛ حيث تَلحقُهم أبصارُهم، وإنْ كانوا أكثرَ من ذلك في حقيقةِ الأمر قال ابن كثير: (ما الجمعُ بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصَّة بدر: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا *الأنفال: 44*؟ والجواب: أنَّ هذا كان في حال، والآخَر كان في حال أخرى، فعندما عاين كلُّ الفريقين الآخَرَ رأى المسلمون المشركين مِثليهم، أي: أكثر منهم بالضِّعف؛ ليتوكَّلوا ويتوجَّهوا ويَطلُبوا الإعانةَ من ربهم عزَّ وجلَّ. ورأى المشركون المؤمنين كذلك؛ ليحصلَ لهم الرعبُ والخوفُ، والجزع والهلع، ثم لَمَّا حصَل التصافُّ والْتقَى الفريقان قلَّل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء؛ ليُقْدِم كلٌّ منهما على الآخَر)، ((تفسير ابن كثير)) (2/18). ؛ ليتوكَّلوا على اللهِ، ويَطلُبوا منه الإعانةَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (/251)، ((تفسير ابن كثير)) (2/17)، ((تفسير البغوي)) (2/14)، ((تفسير الشوكاني)) (1/438). قال الواحديُّ: (ترى الفئةُ المسلمة الفئةَ الكافرة، مِثْلَيْهِمْ، وهم كانوا ثلاثةَ أمثالهم، ولكن الله أرَى المسلمين أنَّ المشركين لا يَزيدون عن مثليهم؛ وذلك أنَّ الله كان قد أعلمَ المسلمين أنَّ المئة منهم تغلب المِئتين من الكفَّار، فأراهم المشركين على قدْر ما أعلَمهم أنَّهم يَغلبونهم لتقوى قلوبُهم) ((التفسير الوسيط)) (1/417). .
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ
 أي: واللهُ يُقوِّي بنَصرِه مَن يشاء ممَّن تَقتضي الحِكمةُ نَصْرَه أو تأييدَه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (/253, ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/417)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/80-81). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
 أي: إنَّ في تأييدِنا الفئةَ المسلِمةَ- مع قلَّتِها في العدَدِ- على الفئةِ الكافرة- مع كثرتها في العدَدِ- لَمُعتَبَرًا ومتَّعظًا لِمَن له بصيرةٌ وفهمٌ يَهتدي به إلى حِكَمِ اللهِ وأفعالِه، وقَدَرِه الجاري بنصرِ عباده المؤمنين في هذه الحياة الدُّنيا، ويومَ يقومُ الأشهادُ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (/253 )، ((تفسير ابن كثير)) (2/18). .

الفوائد التربوية :

1- في قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ... دليلٌ على أنَّه لو رجَع المسلِمون إلى دِينهم حقًّا في العقيدةِ والقولِ والعملِ والأخلاقِ والآداب، وجميعِ أمور الدِّين، لحصَلَتْ لهم الغَلَبةُ على الكفَّار، ويَشهَدُ لهذا تاريخُ المسلِمينَ؛ حيث ملَكوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/75 ). .
2- من قوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُؤخَذُ أنَّ القتالَ لا يكون سببًا للنصرِ إلَّا إذا كان في سبيلِ الله؛ إخلاصًا، وموافقةً للشَّرع، واجتنابًا للمحارِمِ، فإذا تمَّتْ هذه الأمورُ الثَّلاثةُ، فهذا هو الَّذي في سبيلِ الله يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/83 ). .
3- إذا كان القتالُ في سبيلِ الله، توجَّهَتْ إليه النَّفسُ بكلِّ ما فيها من قوَّةٍ وشُعورٍ، وما تستطيعُه من تدبيرٍ واستعدادٍ، مع ثقةٍ قويَّةٍ بأن وراءَ قوتها معونةَ اللهِ وتأييدَه يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/194). .
4- النَّصرُ ليس بكثرةِ العَدَدِ، ولا بقوَّة العُدَدِ، ولكنَّه من الله؛ لأنَّ اللهَ لَمَّا ضرَب هذا المَثَلَ قال: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/82). ؛ فالنَّاظرُ إلى مجرَّدِ الأسبابِ الظَّاهرة يجزم بأنَّ غلَبةَ الفئةِ القليلة للفئة الكثيرة مِن المُحالات، ولكن وراءَ هذا السَّبب المُشاهَدِ بالأبصار، سببٌ أعظمُ منه، لا يُدرِكُه إلَّا أهلُ البصائر والإيمانِ والتَّوكُّلِ، وهو نصرُ اللهِ، وإعزازُه لعباده المؤمنين يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 123). .
5- انتفاءُ العِبرةِ يدلُّ على ضَعْفِ البَصيرةِ أو عدَمِها بالكلِّيَّةِ, فإذا وجَد الإنسانُ من نفْسِه عدمَ اعتبارٍ واتِّعاظٍ بما يجري، فليعلَمْ أنَّه ضعيفُ البَصيرةِ؛ لقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/84). .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- من قولِ الله تعالى لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قُلْ يُعلَم أنَّه عبدٌ تُوجَّه إليه الأوامرُ؛ فهو عبدٌ لا يُعْبَد، ورسولٌ لا يُكَذَّب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/74). .
2- ضَرْبُ الأمثالِ بالأمورِ الواقعةِ أبلغُ في التَّصديقِ والطُّمأنينةِ، فينبغي للواعظِ والدَّاعي إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يضرِبَ المَثَلَ للمدعوِّين بالأمورِ الواقعة؛ لأنَّ ذلك أبلغُ, يؤخَذُ ذلك من قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/81). .
3- لا أُلفةَ بين المؤمنين والكافرين؛ لقوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، فمَن حاوَل أنْ يجمَعَ بين المؤمنين والكافرين، فقد حاوَل الجمعَ بين النَّارِ والماء يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/83). .
4- الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ في قولِه: تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فأضاف الفِعلَ إليها يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/84)، فالجَبْريَّةُ يقولون: إنَّه لا يُضافُ الفِعلُ إلى الفاعل إلَّا على سبيل المجاز، كما نقول: أكلتِ النَّارُ الحطَبَ. .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ:
- استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقال من النَّذارة إلى التهديد، ومِن ضَرب المَثل لهم بأحوالِ سَلفِهم في الكُفر إلى ضربِ المَثل لهم بسابقِ أحوالهم المؤذِنة بأنَّ أمرَهم صائرٌ إلى زوال، وأنَّ أمْر الإسلام ستندكُّ له صُمُّ الجبال يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/175). .
- وجِيء في هذا التهديدِ بأطنبِ عِبارةٍ وأبلغِها؛ لأنَّ المقام مقامُ إطناب؛ لمزيد الموعظةِ، والتذكير بوصْف يومٍ كان عليهم، وهم يَعلمون هذا اليومَ وهو يومُ بدرٍ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/175). .
- وقوله تعالى: لِلَّذِينَ كَفَرُوا: فيه العدولُ عن الضَّمير (لـَهُم) إلى الاسم الظَّاهِر لِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ لاستقلالِ هذه النَّذارة، وللإفصاحِ عن التَّشنيعِ بهم في هذا الإنذارِ؛ حتى يُعادَ استحضارُ وصْفِهم بالكفر بأصرحِ عبارة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/175) و(9/342). وهذا الوجه بناءً على القولِ بأنَّ المراد بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هم المذكورون في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ...، أمَّا على القول بأنَّ المراد بهم المشركون خاصَّةً، فليس فيه هذا الوجه. ، وأيضًا لكون ما سيَذكره بَعدَه مُرتَّبًا على هذه الصِّفة.

2- قوله تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيةٌ في فِئَتَينِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ:
- قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةً فيه تأكيدٌ؛ لأنَّه جوابُ قسمٍ محذوفٍ وهو من تمامِ القولِ المأمورِ به؛ جيءَ به لتقريرِ مَضمونِ ما قَبْله وتحقيقِه   يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/12). .
- وتقديمُ الظَّرْف لَكُمْ على فاعلِ كان آيَةٌ؛ للاعتناءِ بما قُدِّم، والتشويقِ إلى ما أُخِّر- على القول بأنَّ كَانَ تامَّةً- وترك تأنيثُ الفعل فلم يقُلْ: (كانت)؛ لأنَّ آيَةٌ تأنيثُها غيرُ حقيقيٍّ، وقيل: ردَّها إلى البيان، أي: قد كانَ لكم بيانٌ، فذَهَب إلى المعنى وترَك اللَّفظَ، ويجوزُ أنْ تكونَ كَانَ ناقصةً، والظرفُ لَكُمْ خبرٌ، ولتوسُّطه بينَ كَانَ وبين اسمِها آيَةٌ تُرِك التأنيتُ   يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (4/24)، ((تفسير أبي السعود)) (2/12). .
- وفيه من لطائفِ البَلاغة: الاحتباكُ، وذلِك في قوله تعالى: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ؛ حيث حذَف مِن كلِّ جملةٍ من الجُملتين المتقابلتين شيئًا إيجازًا، وذكَر في الجملةِ الأخرى ما يدلُّ عليه، والتقدير: فِئةٌ مؤمنةٌ تُقاتِلُ في سبيل الله، وفِئةٌ أُخرى كافرةٌ تُقاتِل في سبيلِ الشَّيطان   يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/263)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/466). .
3- قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ:
- فيه إيثارُ صِيغة الجمعِ في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ؛ للدَّلالة على شُمول الرؤيةِ لكلِّ واحدٍ من آحاد الفئة.
- وفيه تأكيدٌ بالمصدر المؤكَّد رَأْيَ، وهو نص في أنَّ الرؤية بَصَريَّةٌ   يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/53). ، والقاعدةُ أنَّ التأكيدَ بالمصدر يَنفي احتمالَ المجاز ينظر ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (1/453). .
- وقوله: رَأْيَ العَينِ فيه احتراسٌ؛ لئلَّا يُعتقد أنَّه من رُؤيةِ القَلْبِ   يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/54). .
4- قوله : لَعِبْرَةً: التنكيرُ للتَّعظيم، أي: عِبْرة عظيمة، وموعِظة جسيمة يُنظر: ((فتح البيان في مقاصد القرآن)) (2/196) .