موسوعة التفسير

سورةُ المُمْتَحَنةِ
الآيتان (12-13)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غريب الكلمات:

يُبَايِعْنَكَ: البَيعةُ والمُبايَعةُ: العهدُ على الطَّاعةِ والنُّصْرةِ، وما يأخُذُه الإمامُ على رعيَّتِه مِن المَواثيقِ بالسَّمعِ والطَّاعةِ. يُقالُ: بايَعَ السُّلطانَ: إذا تضمَّنَ بَذْلَ الطَّاعةِ بما رضَخ له، والبَيعُ والمُبايَعةُ مأخوذانِ مِن مَدِّ الباعِ؛ لأنَّ المُتبايِعَينِ للسِّلعةِ كلٌّ منهما يمُدُّ باعَه للآخَرِ ويُعاقِدُه عليها، وكذلك مَن بايَع الإمامَ ونحوَه فإنَّه يمُدُّ باعَه إليه ويُعاهِدُه ويُعاقِدُه على ما يُبايِعُه عليه، وقيل: المُبايَعةُ مُفاعَلةٌ مِن البَيعِ؛ لأنَّ صاحِبَها باع نفْسَه لله [303] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 155)، ((تفسير ابن عطية)) (5/129)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/248)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 158). .
بِبُهْتَانٍ: أي: افتِراءٍ وكَذِبٍ يَبهَتُ سامِعَه لِفَظاعَتِه، يُقالُ: بَهَت فُلانٌ فُلانًا: إذا كَذَب عليه، وأصلُه مِن قولِهم: بُهِت الرَّجُلُ: إذا تحيَّرَ؛ فالبُهتانُ كَذِبٌ يُحيِّرُ الإنسانَ لعِظَمِه، ثمَّ جُعِل كلُّ باطلٍ يُتحيَّرُ مِن بطلانِه بُهتانًا، وكانت المرأةُ تلتَقِطُ الوَلَدَ فتَقولُ لزَوجِها: هذا وَلَدي منك، فذلك البُهتانُ المُفتَرَى هنا [304] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 122)، ((تفسير ابن جرير)) (22/594)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /307)، ((المفردات)) للراغب (ض: 148)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 401). .
يَفْتَرِينَهُ: أي: يَتعَمَّدْنَ كَذِبَه، يُقالُ: افتَرَى فُلانٌ على فُلانٍ: إذا قذَفَه بما ليس فيه، والافتِراءُ: اختِلاقُ الكَذِبِ، وأصلُه: مِنْ فَرْيِ الجِلْدِ، أي: قَطْعِه، فقِيلَ للكَذِبِ: افتِراءٌ؛ لأنَّ الكاذِبَ يَقطَعُ به على التَّقديرِ مِن غيرِ تحقيقٍ [305] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31)، ((تفسير ابن جرير)) (22/594)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/496)، ((المفردات)) للراغب (ص: 635)، ((تفسير القرطبي)) (11/99)، ((تفسير ابن كثير)) (8/100)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 293). .

المعنى الإجمالي:

يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بمبايعةِ المؤمناتِ، ويُبيِّنُ ما تمَّت عليه المبايعةُ، فيقولُ: يا أيُّها النَّبيُّ إذا جاءك المؤمِناتُ يُبايِعْنَك على ألَّا يَعبُدْنَ أحَدًا غَيرَ اللهِ تعالى، ولا يَسرِقْنَ، ولا يَزنِينَ، ولا يَقتُلْنَ أولادَهنَّ خَوفًا مِنَ الفَقرِ أو غَيرِه، ولا يُلْحِقْنَ بأزواجِهنَّ أولادًا مِن غَيرِهم، ولا يَعصِينَك -يا محمَّدُ- فيما تأمُرُهنَّ به مِن طاعةِ اللهِ، وتَرْكِ مَعصيتِه؛ فبايِعْهنَّ على الوَفاءِ بتلك الشُّروطِ، واطلُبْ لهنَّ مِنَ اللهِ المغفرةَ؛ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.
ثمَّ يَنهَى الله تعالى في خاتمةِ هذه السُّورةِ عن موالاةِ الكافرينَ، كما نهَى عنها في أوَّلِها، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَتوَلَّوُا الكافِرينَ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم لكُفرِهم، وقد يَئِسوا مِن ثوابِ اللهِ ورَحمتِه في الآخِرةِ كما يَئِسَ الكُفَّارُ الموتَى في القُبورِ مِن ثوابِ الله ورحمتِه.

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذه الآيةُ تَكملةٌ لامتحانِ النِّساءِ المُتقدِّمِ ذِكرُه في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الآيةَ [الممتحنة: 10] ، وبَيانٌ لتَفصيلِ آثارِه؛ فكأنَّه يقولُ: فإنْ عَلِمْتُموهنَّ مُؤمناتٍ فلا تَرجِعوهنَّ إلى الكُفَّارِ، وبيِّنوا لهنَّ شرائعَ الإسلامِ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/164). .
وأيضًا لَمَّا خاطَبَ اللهُ سُبحانَه المؤمِنينَ الَّذين لهم موضِعُ الذَّبِّ والحمايةِ والنُّصرةِ بما وطَّن به المؤمِناتِ في دارِ الهِجْرةِ، فوَقَع الامتحانُ وعُرِفَ الإيمانُ- أمَرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ الحُكمِ بإيمانِهنَّ بمُبايعَتِهنَّ [307] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/522). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا.
أي: يا أيُّها النَّبيُّ إذا جاءك المؤمِناتُ يُبايِعْنَك على ألَّا يَعبُدْنَ أحَدًا غَيرَ اللهِ تعالى [308] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/440)، ((تفسير ابن كثير)) (8/99)، ((تفسير الشوكاني)) (5/257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). قال ابنُ عطيَّةَ: (سَمَّاهنَّ الْمُؤْمِنَاتُ بحَسَبِ الظَّاهِرِ مِن أمْرِهن،َّ ورفضُ الإشراكِ هو محضُ الإيمانِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/299). وقال الألوسي: (المبايعةُ وَقَعت غيرَ مَرَّةٍ؛ وقَعَت في مكَّةَ بعدَ الفَتحِ، وفي المدينةِ). ((تفسير الألوسي)) (14/274). .
عن أُمَيْمةَ بِنتِ رُقَيْقةَ التَّيْميَّةِ، قالت: ((أتَيْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نِسوةٍ مِن المُسلِمينَ لِنُبايِعَه، فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، جِئْنا لِنُبايعَك على ألَّا نُشرِكَ باللهِ شَيئًا، ولا نَسرِقَ، ولا نَزنيَ، ولا نَقتُلَ أولادَنا، ولا نأتيَ ببُهتانٍ نَفتريه بيْنَ أيدِينا وأرجُلِنا، ولا نَعصيَك في مَعروفٍ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فيما استطَعْتُنَّ وأطَقْتُنَّ. قالت: قُلْنا: اللهُ ورَسولُه أرحَمُ بنا مِن أنفُسِنا، بايِعْنا يا رَسولَ اللهِ. قال: اذهَبْنَ؛ فقد بايَعْتُكنَّ، إنَّما قولي لِمِئَةِ امرأةٍ كقَولي لامرأةٍ واحِدةٍ. قالت: ولم يُصافِحْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَّا امرأةً)) [309] أخرجه من طُرُقٍ: الترمذيُّ (1597)، وابنُ ماجه (2874) مختصرًا، والنَّسائيُّ (4181)، وأحمدُ (27007) واللَّفظُ له. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وصَحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (4553)، وابنُ القطَّانِ في ((الوهم والإيهام)) (5/516)، وابنُ حجر في ((موافقة الخُبْر الخَبَر)) (1/527)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (4181)، وصَحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((تفسيره)) (8/122)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (44/558). قال ابنُ عطيَّة: (الإجماعُ على أنَّه لم تَمَسَّ يَدُه يَدَ امرأةٍ أجنبيَّةٍ قَطُّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/299). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((شَهِدتُ الصَّلاةَ يومَ الفِطرِ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبي بكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، فكُلُّهم يُصَلِّيها قبْلَ الخُطبةِ، ثمَّ يَخطُبُ بَعْدُ، فنَزَل نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكأنِّي أنظُرُ إليه حينَ يُجلِّسُ الرِّجالَ بيَدِه [310] أي: يأمُرُهم بالجلوسِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/172). ، ثمَّ أقبَلَ يَشُقُّهم، حتَّى أتَى النِّساءَ معَ بلالٍ، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ حتَّى فَرَغ من الآيةِ كُلِّها، ثمَّ قال حينَ فَرَغ: أنتُنَّ على ذلك؟ فقالت امرأةٌ واحدةٌ لم يُجِبْه غَيرُها: نَعَمْ يا رَسولَ اللهِ. قال: فتَصَدَّقْنَ، وبَسَطَ بِلالٌ ثَوبَه، فجَعَلْنَ يُلقِينَ الفَتَخَ [311] الفَتَخُ: خَواتيمُ كِبارٌ تُلبَسُ في الأيدي، ورُبَّما وُضِعَت في أصابِعِ الأرْجُلِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/408). والخواتيمَ في ثَوبِ بِلالٍ)) [312] رواه البخاري (4895) واللَّفظُ له، ومسلم (884).  .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال لنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في مجلِسٍ: ((تُبايِعوني على ألَّا تُشرِكوا باللهِ شَيئًا، ولا تَسرِقوا، ولا تَزنُوا، ولا تَقتُلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببُهتانٍ تَفتَرونَه بيْن أيديكم وأرجُلِكم، ولا تَعصُوا في معروفٍ، فمَنْ وفَى منكم فأجْرُه على اللهِ، ومَن أصاب مِن ذلك شيئًا فعُوقِبَ في الدُّنيا فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصاب مِن ذلك شيئًا فستَرَه اللهُ فأمْرُه إلى اللهِ؛ إن شاء عاقَبَه، وإن شاء عفا عنه. فبايَعْناه على ذلك)) [313] رواه البخاري (7213) واللَّفظُ له، ومسلم (1709).  .
وَلَا يَسْرِقْنَ.
أي: ولا يأخُذْنَ مالَ أحدٍ خُفيةً بغَيرِ استِحقاقٍ [314] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/440)، ((تفسير ابن كثير)) (8/99)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/522). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((دخَلَتْ هِندُ بِنتُ عُتبةَ امرأةُ أبي سُفيانَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ لا يُعطيني مِنَ النَّفَقةِ ما يَكفيني ويَكفي بَنيَّ إلَّا ما أخذْتُ مِن مالِه بغيرِ عِلْمِه، فهل علَيَّ في ذلك مِن جُناحٍ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذي مِن مالِه بالمعروفِ ما يكفيكِ ويكفي بَنِيكِ)) [315] رواه البخاريُّ (5364)، ومسلمٌ (1714) واللَّفظُ له. .
وَلَا يَزْنِينَ.
أي: ولا يقَعْنَ في الزِّنا بتَمكينِ أحَدٍ مِن وَطْئِهنَّ بغَيرِ عَقدٍ صَحيحٍ [316] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). .
قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] .
وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ.
أي: ولا يَقتُلْنَ أبناءَهنَّ وبَناتِهنَّ خَوفًا مِنَ الفَقرِ أو غَيرِه [317] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/440)، ((تفسير ابن عطية)) (5/299)، ((تفسير الشربيني)) (4/270). قال ابنُ كثير: (هذا يَشملُ قَتْلَه بعدَ وُجودِه، كما كان أهلُ الجاهليَّةِ يَقتُلونَ أولادَهم خَشيةَ الإملاقِ، ويَعُمُّ قَتْلَه وهو جنينٌ، كما قد يفعَلُه بعضُ الجَهَلةِ مِن النِّساءِ، تَطرَحُ نَفْسَها لئلَّا تَحبَلَ؛ إمَّا لغَرَضٍ فاسِدٍ، أو ما أشبَهَه). ((تفسير ابن كثير)) (8/100). .
وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.
أي: ولا يُلْحِقْنَ بأزواجِهنَّ أولادًا مِن غَيرِهم [318] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/306)، ((تفسير ابن جرير)) (22/594)، ((تفسير ابن كثير)) (8/100). وممَّن قال بهذا المعنى المذكورِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزمخشريُّ، والبِقاعي، ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/306)، ((تفسير ابن جرير)) (22/594)، ((تفسير الزمخشري)) (4/520)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/523)، ((تفسير ابن عطية)) (5/299). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/594)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/141). قال القرطبي: (هذا عامٌّ في الإتيانِ بولدٍ وإلحاقِه بالزَّوجِ وإن سبَق النَّهيُ عن الزِّنا). ((تفسير القرطبي)) (18/72). وقال ابنُ عطية: (الإتيانُ بالبُهتانِ: قال أكثَرُ المفسِّرينَ: معناه أن تَنسُبَ إلى زَوجِها ولَدًا ليس هو له، واللَّفظُ أعَمُّ من هذا التَّخصيصِ؛ فإنَّ الفِريةَ بالقَولِ على أحدٍ مِن النَّاسِ بعظيمةٍ لَمِنْ هذا، وإنَّ الكَذِبَ فيما اؤتُمِنَّ فيه مِن الحَملِ والحَيضِ لَفِريةٌ وبُهتانٌ، وبَعضٌ أقوى مِن بعضٍ، وذلك أنَّ بَعضَ النَّاسِ قال: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ: يُرادُ به اللِّسانُ والفَمُ؛ في الكَلامِ والقُبلةِ ونَحوِه، وبيْنَ الأرجُلِ: يُرادُ به الفُروجُ، وولَدُ الإلحاقِ، ونحوُه). ((تفسير ابن عطية)) (5/299). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/74). وقال الواحدي: (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ؛ وذلك أنَّ المولودَ إذا وضَعَتْه الأمُّ، سقَط بيْن يدَيْها ورِجليها، وليس المعنى نَهْيَهُنَّ مِن أنَّ يأتينَ بولدٍ مِن الزِّنا، فيَنسُبْنَه على الأزواجِ؛ لأنَّ الشَّرطَ بنَهيِ الزِّنا قد تقدَّم). ((الوسيط)) (4/287). .
وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ.
أي: ولا يَعصِينَك -يا محمَّدُ- فيما تأمُرُهنَّ به مِن طاعةِ اللهِ، وتَرْكِ مَعصيتِه؛ كأمْرِك لهنَّ بتَركِ النِّياحةِ وشَقِّ الجُيوبِ والتَّبَرُّجِ ووَصلِ الشَّعرِ والخَلوةِ بالرِّجالِ الأجانِبِ، وغَيرِ ذلك [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/594)، ((تفسير ابن عطية)) (5/299)، ((تفسير القرطبي)) (18/74)، ((تفسير ابن كثير)) (8/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). قال الْكِيَا الهَرَّاسي: (قولُه تعالى: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ هو عُمومٌ في جميعِ طاعاتِ اللهِ تعالى). ((أحكام القرآن)) (4/410، 411). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) للجَصَّاص (5/333)، ((تفسير الزمخشري)) (4/520)، ((تفسير الإيجي)) (4/304)، ((تفسير الألوسي)) (14/274). وقال ابن رجب: (دخَل في قولِه: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ الانتهاءُ عن جميعِ المعاصي. ويَدخُلُ فيها أيضًا القيامُ بجميعِ الطَّاعاتِ، على رأيِ مَن يَرى أنَّ النَّهيَ عن شَيءٍ أمْرٌ بضِدِّه). ((فتح الباري)) (1/77). .
قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80] .
وعن أمِّ عَطيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أخَذَ علينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ البَيعةِ ألَّا نَنُوحَ)) [320] رواه البخاريُّ (1306) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (936). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ليس مِنَّا مَن ضرَبَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودَعا بدَعوى الجاهِليَّةِ [321] دَعْوى الجاهِليَّةِ هي: النِّياحةُ ونَدْبُ الميِّتِ، والدُّعاءُ بالوَيلِ وشِبْهِه، والمرادُ بالجاهِليَّةِ: ما كان في الفَترةِ قبْلَ الإسلامِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/110). ) [322] رواه البخاريُّ (1297)، ومسلمٌ (103). .
فَبَايِعْهُنَّ.
أي: إذا جاءك -يا محمَّدُ- المؤمِناتُ يُبايِعْنَك، فبايِعْهنَّ على الوَفاءِ بتلك الشُّروطِ [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/601)، ((تفسير ابن عطية)) (5/299)، ((تفسير الرازي)) (29/524)، ((تفسير القاسمي)) (9/212)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). قال ابنُ جُزَي: (هذه المبايَعةُ للنِّساءِ غيرُ مَعمولٍ بها اليومَ؛ لأنَّه أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّه ليس للإمامِ أن يَشتَرِطَ عليهنَّ هذا؛ فإمَّا أن تكونَ مَنسوخةً ولم يُذكَرِ النَّاسِخُ، أو يكونَ تَرْكُ هذه الشُّروطِ لأنَّها قد تقَرَّرَتْ وعُلِمَت مِن الشَّرعِ بالضَّرورةِ؛ فلا حاجةَ إلى اشتِراطِها). ((تفسير ابن جزي)) (2/369). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/74). .
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإنسانُ محلَّ النُّقصانِ؛ رجَّاهنَّ سُبحانَه بقولِه [324] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/524). :
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.
أي: واطلُبْ -يا محمَّدُ- مِنَ اللهِ أن يَغفِرَ للمُؤمِناتِ المُبايِعاتِ ذُنوبَهنَّ وتَقصيرَهنَّ [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/601)، ((تفسير القاسمي)) (9/212)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ بالغُ المَغفِرةِ لذُنوبِ عِبادِه، بالغُ الرَّحمةِ بهم [326] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/601)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/525)، ((تفسير الشوكاني)) (5/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى ما أَمَر به نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المبايِعاتِ، بعدَ أن عَدَّ الَّذين آمنوا أصلًا في امتحانِ المُهاجِراتِ، فعُلِمَ مِن ذلك أنَّ توَلِّيَ النِّساءِ -مع أنَّه لا ضَرَرَ فيهِنَّ بقِتالٍ ونَحْوِه- لا يَسوغُ إلَّا بعدَ العِلمِ بإيمانِهنَّ، وكان الخَتمُ بصِفَتَيِ الغُفرانِ والرَّحمةِ رُبَّما جرَّأ على مُحاباةِ المؤمنينَ لبَعضِ الكُفَّارِ مِن أزواجٍ أو غَيرِهم؛ لقَرابةٍ أو غيرِها، لعِلَّةٍ يُبدِيها الزَّوجُ، أو غيرِ ذلك مِن الأمورِ- كرَّر سُبحانَه الأمرَ بالبَراءةِ مِن كلِّ عَدُوٍّ؛ ردًّا لآخِرِ السُّورةِ على أوَّلِها، تأكيدًا للإعراضِ عنهم، وتنفيرًا مِن توَلِّيهم، كما أفهَمَتْه آيةُ المبايَعةِ، وآيةُ الامتحانِ [327] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/526، 527). .
وأيضًا بعدَ أن استقصَتِ السُّورةُ إرشادَ المُسلِمينَ إلى ما يَجِبُ في المعامَلةِ مع المُشرِكينَ، جاء في خاتِمَتِها الإرشادُ إلى المعامَلةِ مع قَومٍ لَيسُوا دونَ المُشرِكينَ في وُجوبِ الحَذَرِ منهم، وهم اليَهودُ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/169). . وذلك على قولٍ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَتوَلَّوُا الكافِرينَ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم بسَبَبِ كُفرِهم، فتَتَّخِذوهم أولياءَ لكم [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/602)، ((تفسير القرطبي)) (18/76)، ((تفسير ابن كثير)) (8/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). قيل: المرادُ بهم: اليهودُ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابنُ جُزَي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/307)، ((تفسير ابن جرير)) (22/602)، ((تفسير القرطبي)) (18/76)، ((تفسير ابن جزي)) (2/369)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/169). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/521). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والحسَنُ، وابنُ زَيدٍ، ومقاتلٌ. يُنظر: ((تفسير عبد الرزاق)) (3/295)، ((تفسير ابن جرير)) (22/604)، ((تفسير ابن أبي زَمَنِين)) (4/381)، ((الوسيط)) للواحدي (4/289). قال ابن جُزَي: (لأنَّ الغضَبَ قد صار عُرفًا لليهودِ؛ كقولِه: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] ). ((تفسير ابن جزي)) (2/369). وقيل: هم كُفَّارُ قُرَيشٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/300). وقيل: المرادُ: جميعُ أصنافِ الكُفَّارِ وطوائفِهم. وممَّن ذهب إلى هذا العمومِ: ابنُ كثير، وأبو السعود، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/103)، ((تفسير أبي السعود)) (8/241)، ((تفسير الشوكاني)) (5/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). قال البقاعي: (عامٌّ في كُلِّ مَنِ اتَّصَف بذلك، يَتناوَلُ اليهودَ تناوُلًا أوَّلِيًّا). ((نظم الدرر)) (19/ 527). .
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ.
أي: قد يَئِسوا مِن ثوابِ اللهِ ورَحمتِه في الآخِرةِ [330] قال الرَّسْعَني: (قَدْ يَئِسُوا يعني: القومَ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم مِنَ الْآَخِرَةِ أي: مِن ثوابِ الآخرةِ بسَبَبِ كُفرِهم بمحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم يَعرِفونَه كما يَعرِفونَ أبناءَهم، هذا قَولُ جمهورِ العُلَماءِ). ((تفسير الرسعني)) (8/105). كما يَئِسَ الكُفَّارُ الموتى في قُبورِهم مِن ثَوابِ اللهِ ورَحمتِه؛ لأنَّهم وقفُوا على حقيقةِ الحالِ [331] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/308)، ((تفسير ابن جرير)) (22/605)، ((تفسير البغوي)) (5/78)، ((تفسير أبي السعود)) (8/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). ممَّن ذهب إلى القَولِ المذكور: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والبغويُّ، وأبو السعود، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، وعِكْرِمةُ، والكلبيُّ، وابنُ زَيدٍ، ومنصور بن المعتمر. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/604)، ((تفسير ابن كثير)) (8/103). وقوله تعالى: مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ -على هذا القَولِ- بيانٌ للكُفَّارِ، فـ (مِنْ) بيانيَّةٌ، أى: كما يَئِسَ الكُفَّارُ الَّذين قُبِروا. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/521)، ((تفسير الشوكاني)) (5/258). وقيل: المعنى: كما يَئِس الكفَّارُ الأحياءُ مِن أمواتِهم الَّذين في القُبورِ أن يَرجِعوا أحياءً، وأن يُبعَثوا؛ لأنَّهم لا يُوقِنونَ بالبَعْثِ. وممَّن اختاره: الثعلبيُّ، والزمخشري، والرَّسْعَني، وأبو حيَّان، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/299)، ((تفسير الزمخشري)) (4/521)، ((تفسير الرسعني)) (8/105)، ((تفسير أبي حيان)) (10/161)، ((تفسير العليمي)) (7/37)، ((تفسير الشوكاني)) (5/258). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/602)، ((تفسير ابن كثير)) (8/103). ومِنْ على هذا القَولِ لابتِداءِ الغايةِ. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/311)، ((تفسير الشوكاني)) (5/258). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَدخُلُ أحدٌ الجنَّةَ إلَّا أُرِيَ مَقعَدَه مِن النَّارِ لو أساءَ؛ لِيَزدادَ شُكرًا، ولا يَدخُلُ النَّارَ أحدٌ إلَّا أُرِيَ مَقعَدَه مِنَ الجَنَّةِ لو أحسَنَ؛ لِيَكونَ عليه حَسرةً!)) [332] رواه البخاريُّ (6569). .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أحَدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ؛ إن كان مِن أهلِ الجنَّةِ فمِن أهلِ الجَنَّةِ، وإن كان مِن أهلِ النَّارِ فمِن أهلِ النَّارِ، يُقالُ: هذا مَقعَدُك حتَّى يَبعَثَك اللهُ إليه يومَ القيامةِ)) [333] رواه البخاريُّ (1379)، ومسلمٌ (2866) واللَّفظُ له. .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أي: قد حُرِموا مِن خَيرِ الآخِرةِ، فليس لهم منها نَصيبٌ؛ فاحذَروا أن تَوَلَّوهم، فتُوافِقُوهم على شَرِّهم وكُفرِهم، فتُحرَموا خيرَ الآخِرةِ كما حُرِموا [334] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 858). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ذَكَر اللهُ عزَّ وجَلَّ ورَسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صِفةِ البَيعةِ خِصالًا شَتَّى صَرَّح فيهِنَّ بأركانِ النَّهيِ في الدِّينِ، ولم يَذكُرْ أركانَ الأمرِ، وهي سِتَّةٌ أيضًا: الشَّهادةُ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحَجُّ، والاغتِسالُ مِن الجنابةِ؛ وذلك لأنَّ النَّهيَ دائِمٌ في كُلِّ الأزمانِ وكُلِّ الأحوالِ، فكان التَّنبيهُ على اشتراطِ الدَّائِمِ آكَدَ.
وقيل: إنَّ هذه المناهِيَ كان في النِّساءِ كَثيرٌ مَن يَرتَكِبُها، ولا يَحجُزُهنَّ عنها شَرَفُ النَّسَبِ؛ فخُصَّت بالذِّكرِ لهذا [335] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/73). .
وقيل: لم يَذكُرْ في بَيعتِهنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ، والصِّيامَ والحَجَّ؛ لوُضوحِ كَونِ هذه الأمورِ ونَحوِها مِن أركانِ الدِّينِ وشَعائِرِ الإسلامِ [336] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/258). .
2- قولُه تعالى: فَبَايِعْهُنَّ تَقييدُ مُبايَعتِهنَّ بِما ذُكِرَ مِن مَجيئِهنَّ؛ لحَثِّهنَّ على المُسارعةِ إليها مع كَمالِ الرَّغبةِ فيها مِن غَيرِ دَعوةٍ لهنَّ إليها [337] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/241). .
3- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ فيه سؤالٌ: ما الفائِدةُ في قَولِه: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، وما وَجهُه؟
الجوابُ: أنَّ بطنَها الَّذي تحملُه فيه بيْنَ يديها، ومَخرجُه بينَ رِجْلَيْها [338] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/240). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/520). .
وقيل: إنَّ المرأةَ إذا التقَطَت ولَدًا فإنَّما التقَطَت بيَدِها، ومَشَت إلى أخْذِه برِجْلِها، فإذا أضافَتْه إلى زوجِها فقد أتت ببُهتانٍ تَفتريه بينَ يَدَيها ورِجْلَيها.
وقيل: الوَلَدُ إذا وضعَتْه أمُّه سَقَط بينَ يَدَيها ورِجْلَيها [339] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/524). .
وقيل: لأنَّ الثَّدْيَ بينَ يدينِ، والفَرْجَ بينَ الرِّجلَيْنِ، والمرأةُ تَضَعُ وتُرضِعُ.  وقيل غيرُ ذلك [340] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/421). .
4- إنْ قِيل: لو اقتَصَرَ على قولِه: وَلَا يَعْصِينَكَ؛ فقدْ عُلِمَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَأمُرُ إلَّا بمَعروفٍ؟
فالجوابُ: نبَّهَ بذلك على أنَّ طاعةَ المَخلوقِ في مَعصيةِ الخالقِ جَديرةٌ بغايةِ التَّوقِّي والاجتنابِ [341] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/520)، ((تفسير البيضاوي)) (5/207)، ((تفسير أبي السعود)) (8/240). ؛ لئلَّا يترخَّصَ أحدٌ في طاعةِ السَّلاطينِ إذا لم تكُنْ طاعةً لله تعالى؛ إذ شَرَطَ في طاعةِ خيرِ العالَمِينَ أن يأمُرَ بالمعروفِ، وكذلك لا يجِبُ طاعةُ أئمَّةِ العِلمِ فيما يتعَلَّقُ بالأغراضِ المتأوَّلةِ، ولا يَسوغُ لِمُسلمٍ اتِّباعُهم [342] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/410، 411). ، فالآيةُ فيها دَلالةٌ على أنَّ طاعةَ أُولي الأمرِ إنَّما تَلزَمُ في المعروفِ، كما ثَبَتَ في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ)) [343] أخرجه البخاريُّ (7145)، ومسلمٌ (1840) مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه. ، ونظيرُ هذا قولُه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ، وهو لا يدعو إلَّا إلى ذلك، والتَّقييدُ هنا لا مَفهومَ له؛ فإنَّه لا يَقَعُ دعاءٌ لغيرِ ذلك، ولا أَمرٌ بغَيرِ مَعروفٍ [344] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/61). ! وقيل: التَّقييدُ به لقصْدِ التَّوسعةِ عليهنَّ في أمْرٍ لا يَتعلَّقُ بالدِّينِ [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/167). .
فقولُه تعالى: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الطَّاعةَ لا تكونُ إلَّا في معروفٍ، فلا يُطاعُ مخلوقٌ إلَّا في معروفٍ، ولا يُطاعُ في معصيةِ الخالقِ عزَّ وجلَّ. وقد استنبَط هذا المعنى مِن هذه الآيةِ طائفةٌ مِن السَّلفِ. فلو كان لأحدٍ مِن البشَرِ أن يُطاعَ بكلِّ حالٍ، لَكان ذلك للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلمَّا خُصَّتْ طاعتُه بالمعروفِ، مع أنَّه لا يأمُرُ إلَّا بما هو معروفٌ؛ دل على أنَّ الطَّاعةَ في الأصلِ لله وحْدَه، والرَّسولُ مُبلِّغٌ عنه، وواسِطةٌ بيْنَه وبيْن عِبادِه؛ ولهذا قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [346] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/77). [النساء: 80] .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- جُملةُ يُبَايِعْنَكَ يَجوزُ أنْ تكونَ حالًا مِن المؤمناتِ، على معْنى: يُرِدْنَ المُبايَعةَ، وهي المذكورةُ في هذه الآيةِ، وجوابُ (إذا) فَبَايِعْهُنَّ. ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ يُبَايِعْنَكَ جَوابَ إِذَا، ومعْنى إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ، أي: الدَّاخلاتُ في جَماعةِ المؤمنينَ على الجُملةِ والإجمالِ، لا يَعْلَمْنَ أُصولَ الإسلامِ، وبيَّنه بقَولِه: يُبَايِعْنَكَ، فهو خبَرٌ مُرادٌ به الأمرُ، أي: فلْيُبايِعْنَك، وتكونَ جُملةُ فَبَايِعْهُنَّ تَفريعًا لجُملةِ يُبَايِعْنَكَ، وليُبْنى عليها قولُه: وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/166). .
- وقال هنا: إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ، ولم يقُلْ: فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] ، كما قال في المُهاجِراتِ؛ قيل: ذلك لأنَّ الامتحانَ حاصلٌ بقولِه تَعالى: عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ إلى آخِرِه. أو لأنَّ المُهاجِراتِ يأْتِين مِن دارِ الحرْبِ، فلا اطِّلاعَ لهُنَّ على الشَّرائعِ، فلا بُدَّ مِن الامتحانِ، وأمَّا المؤمناتُ فهُنَّ في دارِ الإسلامِ، وعُلِّمْنَ الشَّرائعَ، فلا حاجةَ إلى الامتحانِ [348] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/524). .
أو لأنَّ المقصودَ بامتحانِ المُهاجِراتِ التَّحقُّقُ مِن أنَّ انتِقالَها إلى المدينةِ ليس لغرَضٍ دُنيويٍّ ويَنبني عليه عدمُ ردِّها إلى الكفَّارِ، بخِلافِ البَيعةِ هنا؛ فهي لا تختصُّ بالمُهاجِراتِ.
- قولُه: وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ أي: بعدَ وُجودِهم أو وهُم أجِنَّةٌ. وقيل: أراد وَأْدَ البناتِ الَّذي كان يَفعَلُه أهلُ الجاهليَّةِ، ثمَّ هو عامٌّ في كلِّ نوعٍ مِن قتلِ الولدِ وغيرِه [349] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/524)، ((تفسير ابن كثير)) (8/100). ، وأُسنِدَ القَتلُ إلى النِّساءِ وإنْ كان بَعضُه يَفعَلُه الرِّجالُ؛ لأنَّ النِّساءَ كنَّ يَرْضَينَ به، أو يَسكُتْنَ عليه [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/166). .
- وقولُه: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يَتعلَّقُ بقولِه: يَأْتِينَ، وهذا مِن الكلامِ الجامعِ لِمَعانٍ كثيرةٍ؛ فالبُهتانُ حَقيقتُه: الإخبارُ بالكذبِ، وهو مَصدرٌ، ويُطلَقُ المصدرُ على اسمِ المفعولِ، كالخلْقِ بمعْنى المخلوقِ، وحقيقةُ (بيْنَ الأيدي والأرْجُلِ): أنْ يكونَ الكذبُ حاصلًا في مَكانٍ يَتوسَّطُ الأيديَ والأرجُلَ، فإنْ كان البُهتانُ على حَقيقتِه -وهو الخبرُ الكاذبُ- كان افتِراؤُه بيْن أيدِيهنَّ وأرْجُلِهنَّ: أنَّه كذِبُ مُواجَهةٍ في وجْهِ المكذوبِ عليه، كقولِها: يا فُلانةُ، زَنَيتِ مع فُلانٍ، أو سرَقْتِ حَلْيَ فُلانةَ؛ لتَبْهَتَها في مَلأٍ مِن النَّاسِ، أو أنتِ بنتُ زِنًا، أو نحوِ ذلك. وإنْ كان البهتانُ بمعْنى المكذوبِ، كان معْنى افترائِه بيْن أيدِيهنَّ وأرجُلِهنَّ كِنايةً عن ادِّعاءِ الحمْلِ؛ بأنْ تَشرَبَ ما يَنفُخُ بَطْنَها، فتُوهِمَ زَوجَها أنَّها حاملٌ، ثمَّ تُظهِرَ الطَّلْقَ وتأْتيَ بولدٍ تَلتقِطُه وتَنسُبُه إلى زَوجِها؛ لئلَّا يُطلِّقَها، أو لئلَّا يَرِثَه عَصَبتُه، فهي تُعظِّمُ بطْنَها وهو بيْن يَدَيها، ثمَّ إذا وصَلَ إبَّانُ إظهارِ الطَّلْقِ وَضَعَت الطِّفلَ بيْن رِجْلَيْها وتَحدَّثت وتَحدَّثَ النَّاسُ بذلك؛ فهو مَبهوتٌ عليه، فالافتراءُ هو ادِّعاؤها ذلك تأكيدًا لمعْنى البُهتانِ.
وإنْ كان البُهتانُ مُعبَّرًا به عن الباطِلِ الشَّبيهِ بالخبَرِ البُهتانِ، كان بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ مُحتمِلًا للكِنايةِ عن تَمكينِ المرأةِ نفْسَها مِن غيرِ زَوجِها يُقبِّلُها أو يَجُسُّها، فذلك بيْن يَدَيْها، أو يَزْني بها، وذلك بيْن أرْجُلِها [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/166، 167). .
وقيل: إنَّ ذِكرَ اليدَيْنِ والرِّجلَيْنِ على طريقِ التَّأكيدِ، مِثلُ قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182] يعني: بما كسَبْتُم، وذِكرُ الأيدي على طَريقِ التَّأكيدِ [352] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/421). .
- وتَخصيصُ الأُمورِ المَعدودةِ بالذِّكرِ في حَقِّهنَّ؛ لكَثرةِ وُقوعِها فيمَا بيْنَهنَّ، معَ اختصاصِ بَعضِها بِهنَّ [353] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/241). .
- ووَجهُ التَّرتيبِ في الأشياءِ المذكورةِ، وتقديمِ بعضِها على بعضٍ في الآيةِ؛ مِن وُجوهٍ:
منها: أنَّه قَدَّم الأقبَحَ على ما هو الأدنى منه في القُبحِ، ثمَّ كذلك إلى آخِرِه.
ومنها: أنَّه قدَّم مِن الأشياءِ المذكورةِ ما هو الأظهَرُ فيما بَيْنَهم [354] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/524). .
وقيل: لَمَّا كان الشِّرْكُ بَذْلَ حَقِّ المَلِكِ لِمَن لا يستَحِقُّه؛ أتْبَعَه أخْذَ مالِ المالِكِ بغَيرِ حقٍّ؛ لاقتضاءِ الحالِ لذلك بتمَكُّنِ المرأةِ مِن اختلاسِ مالِ الزَّوجِ، وعُسْرِ تحَفُّظِه منها، فقال: وَلَا يَسْرِقْنَ، وأتبَعَ ذلك بَذْلَ حَقِّ الغَيرِ لغَيرِ أهْلِه، فقال: وَلَا يَزْنِينَ، أي: يمكِّنَّ أحدًا مِن وَطْئِهنَّ بغَيرِ عَقدٍ صَحيحٍ، ولَمَّا كان الزِّنا قد يكونُ سَبَبًا في إيجادِ أو إعدامِ نَسَمةٍ بغيرِ حَقِّها؛ أتبَعَه إعدامَ نَسَمةٍ بغيرِ حَقِّه، فقال: وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ، ولَمَّا ذَكَر إعدامَ نَسَمةٍ بغيرِ حَقٍّ ولا وَجهٍ شَرْعيٍّ؛ أتبَعَه ما يَشملُ إيجادَ نَسَمةٍ بغيرِ حِلٍّ، فقال: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ، أي: وَلَدٍ مِن غيرِ الزَّوجِ، يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أي: بالحَمْلِ في البُطونِ وَأَرْجُلِهِنَّ أي: بالوَضعِ مِن الفُروجِ -على قولٍ-، وهذا شامِلٌ لِما كان مِن شُبْهةٍ أو لُقَطةٍ، ولَمَّا حَقَّق هذه الكبائِرَ العظيمةَ؛ تعظيمًا لأَمْرِها لعُسْرِ الاحتِرازِ منها، وأكَّد النَّهيَ عن الزِّنا مُطابَقةً وإلزامًا لِما يَجُرُّ إليه مِن الشُّرورِ؛ القَتْلِ فما دُونَه، وغَلَّظ أمْرَ النَّسَبِ لِما يَتفرَّعُ عليه مِن إيقاعِ الشُّبُهاتِ، وانتِهاكِ الحُرُماتِ- عمَّ في النَّهيِ، فقال: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [355] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/522-524). .
- قيل: قدَّمَ المنهِيَّاتِ على المأموراتِ المستفادةِ مِن المعروفِ في قوله: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ؛ لأنَّ التخَلِّيَ عن الرَّذائِلِ مُقَدَّمٌ على التَّحلِّي بالفضائِلِ؛ لأنَّ دَرْءَ المَفاسِدِ أَولى مِن جَلبِ المصالحِ [356] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/524). .
- وقولُه: فَبَايِعْهُنَّ جَوابُ (إذا) تَفريعٌ على يُبَايِعْنَكَ، أي: فاقْبَلْ مِنهنَّ ما بايَعْنَكَ عليه؛ لأنَّ البَيعةَ عِندَه مِن جانبينِ؛ ولذلك صِيغَت لها صِيغةُ المُفاعَلةِ [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/168). .
- قولُه: وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، أي: فيما فَرَطَ منْهنَّ في الجاهليةِ ممَّا خُصَّ بالنَّهيِ في شُروطِ البَيعةِ وغيرِ ذلك؛ ولذلك حُذِفَ المفعولُ الثَّاني لفِعلِ (اسْتَغْفِرْ) [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/168). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أي: مُبالِغٌ في المَغفرةِ والرَّحمةِ. وهو تَعليلٌ للأمرِ بالاستِغفارِ [359] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/241)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/71). .
2- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ
- هو كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لاختِتامِ السُّورةِ بمِثلِ ما ابتَدَأَها مِن النَّهيِ عن اتِّخاذِ الكفَّارِ أولياءَ [360] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/71). ؛ تأكيدًا لتَركِ مُوالاتِهم، وتنفيرًا للمُسلِمينَ عن تولِّيهم، وإلقاءِ الموَدَّةِ إليهم [361] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/161). .
- على القولِ بأنَّ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم هم اليهودُ، وإذ قد كانوا لا يُنكِرون الدَّارَ الآخرةَ؛ كان معْنى يأْسِهم مِن الآخِرةِ هو اليأسُ مِن خيرِ الآخرةِ وثَوابِها؛ لِعِنادِهم الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم المَنعوتَ في كتابِهم، المؤيَّدَ بالآياتِ البَيِّناتِ، والمُعجِزاتِ الباهِراتِ. ويحتملُ أنْ يُرادَ به الإعراضُ عن العمَلِ للآخِرةِ، فكأنَّهم في إهمالِ الاستِعدادِ لها آيِسُون منها. ووجْهُ تَشبيهِ إعراضِهم هذا بيَأْسِ الكفَّارِ مِن أصحابِ القُبورِ: شِدَّةُ الإعراضِ، وعدَمُ التَّفكُّرِ في الأمْرِ؛ شُبِّهَ إعراضُهم عن العمَلِ لنفْعِ الآخِرةِ بيَأْسِ الكفَّارِ مِن حَياةِ المَوتى والبَعثِ، وفيه تَشنيعُ المُشبَّهِ. ومِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ على هذا الوجْهِ مُتعلِّقٌ بـ يَئِسُوا، والكفَّارُ: المشركون.
ويجوزُ أنْ يكونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ بَيانًا للكُفَّارِ، أي: الَّذين هم أصحابُ القبورِ، أي: الكفَّارُ الموتى، الَّذين هَلَكوا ورَأَوا أنْ لا حظَّ لهم في خَيرِ الآخرةِ؛ فشَبَّهَ إعراضَ اليهودِ عن الآخِرةِ بيَأْسِ الكُفَّارِ مِن نَعيمِ الآخرةِ، ووَجْهُ الشَّبَهِ: تَحقُّقُ عدَمِ الانتفاعِ بالآخرةِ، والمعْنى: كيَأْسِ الكُفَّارِ الأمواتِ، أي: يأسًا مِن الآخِرةِ، والمُشبَّهُ به مَعلومٌ للمُسلِمينَ بالاعتقادِ؛ فالكلامُ مِن تَشبيهِ المحسوسِ بالمعقولِ [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/169، 170). .
ويجوزُ أن تكونَ مِنْ لابتِداءِ الغايةِ، والمعنى: أنَّ هؤلاء القومَ المغضوبَ عليهم قد يَئِسوا مِن الآخرةِ كما يَئِسوا مِن مَوتاهم أن يُبعَثوا ويَلقوهم في دارِ الدُّنيا، فالمرادُ بالكفَّارِ أولئك القومُ، ووُضِع الظَّاهرُ مَوضِعَ ضَميرِهم؛ تسجيلًا لكفرِهم، وإشعارًا بعِلَّةِ يأسِهم [363] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/521)، ((تفسير البيضاوي)) (5/207)، ((تفسير أبي حيان)) (10/161)، ((تفسير أبي السعود)) (8/241)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/71). .
- وفي هذه الآيةِ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالاستِطرادِ [364] الاستطراد: خروجُ المتكلِّمِ مِن الغرضِ الَّذي كان يتكلَّمُ فيه إلى غيرِه لِمُناسَبةٍ بيْنَهما، ثمَّ ترْكُه والعودةُ إلى ما كان فيه، كأنَّ المتكلِّمَ لم يَقصِدْه، وإنَّما عرَض عُروضًا. يُنظر: ((خزانة الأدب)) لابن حِجَّة الحموي (1/102)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/373، 374)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 115). ؛ وهو فنٌّ رَفيعٌ مِن فُنونِ البَيانِ؛ فقدْ ذمَّ اليهودَ واستَطْرَدَ ذَمَّهم بذَمِّ المشركين على نَوعٍ حَسَنٍ مِن النِّسبةِ [365] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/521)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/71). .