موسوعة التفسير

سورةُ الطُّورِ
الآيات (17-21)

ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

فَاكِهِينَ: أي: ناعِمينَ مُستَمتِعينَ، وأصلُ (فكه): يدُلُّ على طِيبٍ واستِطابةٍ [94] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((تفسير ابن جرير)) (24/226)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/446)، ((المفردات)) للراغب (ص: 644). .
هَنِيئًا: أي: طَيِّبًا، مُستَساغًا، لا يُكَدِّرُه شَيءٌ، والهَنيءُ: الطَّيِّبُ المُساغُ الَّذي لا يُنغِّصُه شَيءٌ، وأصلُ (هنأ): يدُلُّ على إصابةِ خَيرٍ مِن غيرِ مَشقَّةٍ [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/611)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/68)، ((البسيط)) للواحدي (6/319)، ((المفردات)) للراغب (ص: 846)، ((تفسير القرطبي)) (17/65). .
بِحُورٍ عِينٍ: الحَوراءُ: البَيضاءُ، أو: الشَّديدةُ بَياضِ العَينِ الشَّديدةُ سوادِها، والعِينُ: جَمعُ عَيناءَ، وهي: الواسِعةُ العَينَينِ مِنَ النِّساءِ [96] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/115) و(4/199)، ((البسيط)) للواحدي (20/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 262) و (ص: 599). .
أَلَتْنَاهُمْ: أي: نَقَصْناهم وظَلَمْناهم، وأصلُ (ألت): يدُلُّ على نَقصٍ [97] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((تفسير ابن جرير)) (21/581)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 81)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/130)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 372)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 393)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 175). .
رَهِينٌ: أي: مُرتَهَنٌ بكَسبِه، مأخوذٌ بعَمَلِه؛ إمَّا خَلَّصَه وإمَّا أوبَقَه، ورَهينٌ: فَعيلٌ بمعنى مَفعولٍ؛ مِنَ الرَّهنِ: وهو الحَبسُ [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/452)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((تفسير القرطبي)) (19/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/51). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مخبرًا عن حالِ المتَّقينَ السُّعداءِ بعدَ أن بيَّن حالَ الكافرينَ الأشقياءِ: إنَّ الَّذين اتَّقوُا اللهَ بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نَواهيه: في بَساتينَ ونَعيمٍ عَظيمٍ في الآخِرةِ، فَرِحينَ مَسرورينَ بما أعطاهم رَبُّهم في الجنَّةِ مِنَ النَّعيمِ، وقد نجَّاهم اللهُ مِن عذابِ النَّارِ، ويُقالُ لهؤلاء المُتَّقينَ: كُلُوا واشرَبوا مُتهَنِّئينَ بلا أذًى ولا نَكَدٍ ولا كَدَرٍ؛ بسَبَبِ ما كنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِنَ الصَّالحاتِ، مُتَّكِئينَ على سُرُرٍ مَصفوفةٍ، وزوَّجْناهم بنِساءٍ بِيضٍ، شَديدٍ سوادُ أعيُنِهنَّ وبَياضُها، عظيماتِ الأعيُنِ معَ حُسنِها واتِّساعِها.
ثمَّ يُخبِرُ الله تعالَى عن أنواعٍ أُخرَى مِن تكريمِه لعبادِه المؤمنينَ، وفضلِه وكَرَمِه عليهم، وإحسانِه إليهم، فيقولُ: والَّذين آمَنوا ألحَقْنا بهم أولادَهم الَّذين اتَّبَعوهم على الإيمانِ، فجعَلْناهم معهم في دَرَجاتِهم في الجنَّةِ وإنْ لم يَعمَلوا بعَمَلِ آبائِهم، وما نَقَصْنا الآباءَ مِن أُجورِ أعمالِهم الصَّالِحةِ شَيئًا حينَ جعَلْنا ذُرِّيَّتَهم معهم في الجنَّةِ.
ثمَّ يُخبِرُ الله تعالى عن مقامِ عدلِه بعدَ أن أخبَر عن مقامِ فضلِه وكرمِه، فيقولُ: كُلُّ إنسانٍ مُرتَهَنٌ بعَمَلِه، لا يُحمَلُ عليه ذنْبُ غَيرِه مِنَ النَّاسِ، سواءٌ كان أبًا أو ابنًا.

تفسير الآيات:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى عُقوبةَ المُكَذِّبينَ؛ ذكَرَ نَعيمَ المُتَّقينَ؛ لِيَجمَعَ بيْنَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، فتكونَ القُلوبُ بيْنَ الخَوفِ والرَّجاءِ [99] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 814). .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17).
أي: إنَّ الَّذين اتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعَذابَه، بامتِثالِ ما أمَرَ به، واجتِنابِ ما نهى عنه: في بَساتينَ ونَعيمٍ عَظيمٍ في الآخِرةِ [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/577)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 272)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/45). .
فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ فَكِهِينَ قيلَ: بمعنى: فَرِحينَ أو مُعجَبِينَ. وقيل: بمعنى: يتفَكَّهونَ، أي: يَستَطيبونَ ويَسْتَحْلونَ [101] قرأ بها أبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/354). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير السمعاني)) (5/271)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/527، 528)، ((الدر المصون)) للسمين (9/623). ويُنظر أيضًا: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/446). .
2- قِراءةُ فَاكِهِينَ بألفٍ بعد الفاءِ، قيل: بمعنى: أصحابِ فاكِهةٍ. وقيل: ناعِمينَ. وقيل: القِراءتانِ بمعنًى واحدٍ، مِثلُ: حاذِرينَ وحَذِرينَ [102] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/354، 355). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير السمعاني)) (5/271)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/527)، ((الدر المصون)) للسمين (9/623). .
فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ.
أي: مُعجَبينَ بما أعطاهم رَبُّهم في الجنَّةِ مِنَ النَّعيمِ، ومُتَمتِّعينَ به، فَرِحينَ مَسرورينَ بذلك [103] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/91)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/63)، ((تفسير ابن عطية)) (5/188)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 272، 273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/45)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 184). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ في الجُملةِ: الفرَّاءُ، والزَّجَّاجُ، وابنُ عطية، وابن القيِّم، والسعديُّ، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. وذهب أبو عُبَيدةَ، وابنُ جَرير، والقُرطبيُّ إلى أنَّ معنى فَاكِهِينَ أي: عندَهم فاكِهةٌ كثيرةٌ، كقَولِ العَرَبِ لِمَن عِندَه تَمرٌ كثيرٌ، أو لَبَنٌ كثيرٌ: رجُلٌ تامِرٌ، ولابِنٌ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/232)، ((تفسير ابن جرير)) (21/577)، ((تفسير القرطبي)) (17/65). وقال ابنُ كثير: (أي: يَتفكَّهونَ بما آتاهم اللهُ مِنَ النَّعيمِ مِن أصنافِ المَلاذِّ؛ مِن مآكِلَ ومَشارِبَ، ومَلابِسَ ومَساكِنَ ومَراكِبَ وغَيرِ ذلك). ((تفسير ابن كثير)) (7/431). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/410). .
وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المتنَعِّمُ قد تكونُ نِعمتُه بعدَ عَذابٍ؛ بَيَّنَ أنَّهم لَيسُوا كذلك [104] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/13). .
وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ.
أي: وقد نجَّاهم اللهُ مِن عذابِ النَّارِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/577)، ((تفسير ابن كثير)) (7/431)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/46). .
كما قال تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11] .
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَن باشَرَ النِّعمةَ وجانَبَ النِّقْمةَ في هَناءٍ عَظيمٍ؛ قال مُترجِمًا لذلك [106] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/13). :
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19).
أي: يُقالُ للمُتَّقينَ: كُلُوا مِن طَعامِ الجنَّةِ، واشرَبوا مِن شَرابِها، مُتهَنِّئينَ بذلك بلا أذًى ولا تنغيصٍ، ولا نَكَدٍ ولا كَدَرٍ؛ بسَبَبِ ما كنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِنَ الصَّالحاتِ [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/578)، ((تفسير القرطبي)) (17/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/46)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 184، 185). .
كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات: 41 - 44] .
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20).
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ.
أي: مُتَّكِئينَ على سُرُرٍ قد جُعِلَت صُفوفًا [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/578)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 273، 274)، ((تفسير ابن كثير)) (7/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 186، 187). قال ابنُ عاشور: (أي: يُقالُ لهم: كُلُوا واشرَبوا حالَ كَونِهم متَّكِئينَ، أي: وهم في حالِ إِكلةِ أهلِ التَّرفِ المعهودِ في الدُّنيا؛ فقد كان أهلُ الرَّفاهيةِ يأكُلونَ متَّكِئينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/47). !
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا اجتَمَع لهم مِن نَعيمِ القَلبِ والرُّوحِ والبَدَنِ ما لا يَخطُرُ بالبالِ، ولا يَدورُ في الخَيالِ؛ مِن المآكِلِ والمشارِبِ اللَّذيذةِ، والمجالِسِ الحَسَنةِ الأنيقةِ- لم يَبْقَ إلَّا التَّمَتُّعُ بالنِّساءِ اللَّاتي لا يَتِمُّ سُرورٌ بدونِهنَّ؛ فذَكَر اللهُ أنَّ لهم مِنَ الأزواجِ أكمَلَ النِّساءِ أوصافًا وخَلْقًا وأخلاقًا؛ ولهذا قال [109] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 815). :
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ.
أي: وزوَّجْنا [110] قيل: المرادُ: قرَنَّاهم بهم. وممَّن قال بهذا المعنى: مكِّي، وابنُ الجوزي، والقرطبيُّ، والنسفي، والعُلَيمي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7123)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/94)، ((تفسير القرطبي)) (17/65)، ((تفسير النسفي)) (3/ 384)، ((تفسير العليمي)) (6/420)، ((تفسير الشوكاني)) (5/116)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/47). وقال ابنُ القَيِّم: (وعلى هذا فـ «زَوَّجْناهم» عندَ هؤلاءِ مِنَ الاقتِرانِ والشَّفعِ، أي: شَفَعْناهم وقَرَنَّاهم بهِنَّ. وقالت طائِفةٌ منهم مجاهِدٌ: زوَّجْناهم بهِنَّ، أي: أنكَحْناهم إيَّاهُنَّ. قُلتُ: وعلى هذا فتَلويحُ فِعلِ التَّزويجِ قد دَلَّ على النِّكاحِ، وتعديتُه بالباءِ المتضَمِّنةِ معنى الاقتِرانِ والضَّمِّ؛ فالقَولانِ واحِدٌ. واللهُ أعلَمُ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 274). المتَّقينَ بنِساءٍ بِيضٍ، شَديدٍ سوادُ أعيُنهِنَّ وبَياضُها [111] قيل: الحُورُ جَمعُ حَوراءَ: وهي المرأةُ البيضاءُ النَّقيَّةُ البياضِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسَّمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/145)، ((تفسير السمرقندي)) (3/352)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/ 296)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 987). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/296). قال النَّحَّاس: (وفي قراءةِ عبدِ اللهِ: «كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعِيسٍ عِينٍ»، ومعناه: البِيضُ، يقالُ: جمَلٌ أعيَسُ: إذا كان أبيَضَ يَضرِبُ إلى الشُّقرةِ). ((معاني القرآن)) (6/416). وقال القرطبي: (والحُورُ: البِيضُ، في قَولِ قَتادةَ والعامَّةِ، جمعُ حَوراءَ، والحوراءُ: البَيضاءُ الَّتي يُرى ساقُها مِن وراءِ ثِيابِها، ويَرى النَّاظِرُ وَجهَه في كَعبِها كالمرآةِ؛ مِن دِقَّةِ الجِلدِ وبَضاضةِ البَشَرةِ [أي: رِقَّتِها ونُعومتِها] وصَفاءِ اللَّونِ). ((تفسير القرطبي)) (16/152). وقيل: الحَوراءُ: الشَّديدةُ بَياضِ بَياضِ العَينِ، والشَّديدةُ سَوادِ سَوادِ العَينِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: أبو عُبَيدةَ، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/246)، ((تفسير ابن جزي)) (2/312). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ السَّابقَينِ، فقال: هي البيضاءُ، القويَّةُ بياضِ بياضِ العَينِ، وسَوادِ سَوادِها: ابنُ عطيَّة، وابنُ القيِّم، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/188)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 219)، ((تفسير العليمي)) (6/420). قال ابن القيِّم: (حوراءُ: إذا اشتَدَّ بَياضُ أَبيَضِها، وسَوادُ أسوَدِها، ولا تُسَمَّى المرأةُ حَوراءَ حتَّى يكونَ مع حَوَرِ عَينِها بياضُ لَونِ الجَسَدِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 219). وقيل: المرادُ: أنَّ الطَّرْفَ يَحارُ فيهِنَّ؛ مِن حُسنِهنَّ وجمالِهنَّ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 775، 815). وممَّن ذهب إلى نحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهِدٌ، وزَيدُ بنُ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/65)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 218). وقد ردَّ ابنُ جريرٍ هذا المعنى، فقال: (هذا الَّذي قاله مجاهِدٌ مِن أنَّ الحُورَ إنَّما معناها: أنَّه يَحارُ فيها الطَّرْفُ، قولٌ لا معنَى له في كلامِ العَرَبِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/65). ، عظيماتِ الأعيُنِ معَ حُسنِها واتِّساعِها [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/578)، ((تفسير القرطبي)) (17/65)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 274، 275)، ((تفسير ابن كثير)) (7/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 187). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ العِينَ: جمْعُ عَيناءَ، وهي العظيمةُ العَينِ في حُسنٍ وسَعةٍ: ابنُ جرير، ومكِّي، وابنُ عطية، وابن جُزَي، وجلال الدين المحلِّي، والعُلَيمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/578)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7123)، ((تفسير ابن عطية)) (5/188)، ((تفسير ابن جزي)) (2/312)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 697)، ((تفسير العليمي)) (6/420)، ((تفسير القاسمي)) (9/51). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالعِينِ حِسانُ الأعيُنِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والسمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/145)، ((تفسير السمرقندي)) (3/352)، ((تفسير السمعاني)) (5/132). قال ابنُ القيِّم: (والعِينُ: جَمعُ عَيناءَ، وهي العَظيمةُ العَينِ مِن النِّساءِ ... والصَّحيحُ: أنَّ العِينَ: اللَّاتي جَمَعَت أعيُنهُنَّ صِفاتِ الحُسنِ والْمَلَاحةِ، قال مُقاتلٌ: العِينُ: حِسانُ الأعيُنِ، ومِن محاسِنِ المرأةِ اتِّساعُ عَيْنِها في طُولٍ. وضِيقُ العَينِ في المرأةِ مِن العُيوبِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 219). قال ابنُ عاشور: (هُنَّ النِّساءُ اللَّاتي كُنَّ أزواجًا لهم في الدُّنيا إنْ كُنَّ مُؤمِناتٍ، ومَن يَخلُقُهنَّ اللهُ في الجنَّةِ لنِعمةِ الجنَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/48). .
كما قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس: 55، 56].
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21).
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ وَأَتْبَعْنَاهُمْ بنِسبةِ الفِعلِ إلى اللهِ تعالى، بمعنى: أتْبَعْنا أولادَهم بهم [113] قرأ بها أبو عَمرٍو البَصْريُّ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/377). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/33)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 682)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/167). .
2- قِراءةُ وَاتَّبَعَتْهُمْ بنِسبةِ الفِعلِ إلى الذُّرِّيَّةِ، بمعنى: اتَّبَعَ الأولادُ آباءَهم على الحَقِّ، فآمَنوا به مِثلَهم [114] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/377). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/33)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 333)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/167). قال ابن زنجلة: (قَولُه: وَاتَّبَعَتْهُمْ وَأَتْبَعْنَاهُمْ يَتداخَلانِ تَداخُلَ يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ ويَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى إذا أتْبَعَهم ذرِّيَّتَهم اتَّبَعَتْهم). ((حجة القراءات)) (ص: 682). .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
أي: والَّذين آمَنوا ألحَقْنا بِهم أولادَهم الَّذين اتَّبَعوهم على الإيمانِ، فجعَلْناهم معهم في دَرَجاتِهم في الجنَّةِ، وإنْ لم يَعمَلوا كعَمَلِ آبائِهم [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/583)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/65، 66)، ((تفسير ابن عطية)) (5/189)، ((تفسير الرازي)) (28/208، 209)، ((تفسير ابن جزي)) (2/312)، ((تفسير ابن كثير)) (7/432، 433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815). وممَّن ذهب إلى المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وابنُ عطيَّة -ونَسَبه للجُمهورِ-، والرازيُّ، وابن جُزَي، وابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: المصادر السابقة. قال الشوكاني: (ومعنى هذه الآيةِ: أنَّ اللهَ سُبحانَه يَرفَعُ ذُرِّيَّةَ المؤمِنِ إليه، وإن كانوا دونَه في العَمَلِ؛ لتَقَرَّ عَينُه، وتَطِيبَ نفْسُه، بشَرطِ أن يكونوا مؤمِنينَ، فيختَصُّ ذلك بمَن يتَّصِفُ بالإيمانِ مِن الذُّرِّيَّةِ، وهم البالِغونَ دونَ الصِّغارِ؛ فإنَّهم وإن كانوا لاحِقينَ بآبائِهم فبدليلٍ آخَرَ غيرِ هذه الآيةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/117). وذهب الواحديُّ، والخازِنُ، والبِقاعي، والعُلَيمي إلى شُمولِ الذُّرِّيَّةِ لِمَن أدرَكَ العَمَلَ ومَن لم يُدرِكْه، فتَشملُ الصِّغارَ والكِبارَ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/186)، ((تفسير الخازن)) (4/199)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/14)، ((تفسير العليمي)) (6/421). قال الواحدي: (لأنَّ الكِبارَ يَتَّبِعونَ الآباءَ بإيمانٍ منهم، والصِّغارَ يتَّبِعونَ الآباءَ بإيمانٍ مِن الآباءِ، والوَلَدُ يُحكَمُ له بالإسلامِ تَبَعًا لوالِدِه). ((الوسيط)) (4/186). وقال مقاتل: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ يعني: مَن أدرَك العمَلَ مِن أولادِ بني آدمَ المؤمنينَ فعَمِلَ خَيرًا فهم مع آبائِهم في الجنَّةِ، ثمَّ قال: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ يعني: الصِّغارَ الَّذين لم يَبلُغوا العمَلَ مِن أولادِ المؤمِنينَ فهم معهم وأزواجهم في الدَّرجةِ؛ لِتَقَرَّ أعينُهم). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/145). وقد رجَّح ابنُ القَيِّم وابنُ عثيمين أنَّ المرادَ بالذُّرِّيَّةِ في الآيةِ: الصِّغارُ دونَ الكِبارِ. يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 396، 398)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 187). قال ابنُ القيِّم: (اختلَف المفَسِّرون في الذُّرِّيَّةِ في هذه الآيةِ: هل المرادُ بها الصِّغارُ أو الكِبارُ أو النَّوعانِ؟ على ثلاثةِ أقوالٍ، واختِلافُهم مبنيٌّ على أنَّ قَولَه: بِإِيمَانٍ حالٌ مِن الذُّرِّيَّةِ والتَّابِعينَ، أو المؤمِنينَ المتبوعينَ... واختِصاصُ الذُّرِّيةِ هاهنا بالصِّغارِ أظهَرُ؛ لئَلَّا يلزَمَ استِواءُ المتأخِّرينَ بالسَّابِقينَ في الدَّرَجاتِ، ولا يلزَمُ مِثلُ هذا في الصِّغارِ؛ فإنَّ أطفالَ كُلِّ رجُلٍ وذُرِّيَّتَه معه في دَرَجتِه. واللهُ أعلَمُ). ((حادي الأرواح)) (ص: 396، 398). .
وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان رُبَّما خِيفَ أن يُنقَصَ الآباءُ بسَبَبِ إلحاقِ ذُرِّيَّاتِهم بهم شَيئًا مِن دَرَجاتِهم؛ قال [116] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/15). :
وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ.
أي: وما نَقَصْنا الآباءَ مِن أُجورِ أعمالِهم الصَّالِحةِ شَيئًا حينَ جعَلْنا ذُرِّيَّتَهم معهم في الجنَّةِ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/584)، ((تفسير القرطبي)) (17/67)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 276)، ((تفسير الشوكاني)) (5/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/50)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 187). !
كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ عن مَقامِ الفَضلِ، وهو رَفعُ دَرَجةِ الذُّرِّيَّةِ إلى مَنزِلةِ الآباءِ مِن غَيرِ عمَلٍ يَقتَضي ذلك؛ أخبَرَ عن مَقامِ العَدلِ، وهو أنَّه لا يُؤاخِذُ أحدًا بذَنْبِ أحَدٍ، بل كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ أي: مُرتَهَنٌ بعَمَلِه، لا يُحمَلُ عليه ذنْبُ غَيرِه مِنَ النَّاسِ، سواءٌ كان أبًا أو ابنًا [118] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/434). .
وأيضًا لَمَّا كان رُبَّما تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّ أهلَ النَّارِ كذلك يُلحِقُ اللهُ بهم أبناءَهم وذُرِّيَّتَهم؛ أخبَرَ أنَّه ليس حُكمُ الدَّارَينِ حُكمًا واحِدًا؛ فإنَّ النَّارَ دارُ العَدلِ، ومِن عَدلِه تعالى ألَّا يُعَذِّبَ أحدًا إلَّا بذَنْبٍ [119] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 815). .
كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ.
أي: كُلُّ نفْسٍ تَنالُ جَزاءَها وَفْقَ ما عَمِلَت في الدُّنيا، وكُلُّ إنسانٍ يُعاقَبُ بذُنوبِه، ولا يُؤاخَذُ بذَنْبِ غَيرِه ولو كان مِن أقارِبِه [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/118)، ((تفسير ابن كثير)) (7/434)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815). قيل: هذه الآيةُ في المُشرِكينَ، وأمَّا المؤمِنُ فهو غيرُ مَحبوسٍ ولا مُرتَهَنٌ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمعانيُّ، والخازن، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/145)، ((تفسير السمعاني)) (5/274)، ((تفسير الخازن)) (4/200)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/454). قال السمعاني: (هذا في المُشرِكينَ، ومعناه: أنَّ الكُفَّارَ مَحبوسونَ في النَّارِ بعَمَلِهم، وأمَّا المؤمِنُ فهو غيرُ محبوسٍ ولا مُرتَهَنٍ؛ فإنِ ارتُهِنَ بعَمَلِه فلا بُدَّ أن يَدخُلَ النَّارَ). ((تفسير السمعاني)) (5/274). وقال الشنقيطي: (قَولُه تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ظاهِرُ هذه الآيةِ الكريمةِ العُمومُ في جميعِ النَّاسِ، وقد بَيَّن تعالى في آياتٍ أُخَرَ أنَّ أصحابَ اليَمينِ خارِجونَ مِن هذا العُمومِ، وذلك في قَولِه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ [المدثر: 38 - 41]). ((أضواء البيان)) (7/454). وقيل: الآيةُ شامِلةٌ للجَميعِ: المؤمِنِ والكافِرِ. وهو ظاهِرُ اختيارِ البِقاعي، وقال به ابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/15، 16)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/51). قال البِقاعي: (كُلُّ امْرِئٍ أي: مِنَ الَّذين آمَنوا والمتَّقينَ وغَيرِهم بِمَا كَسَبَ أي: مِن وَلَدٍ وغَيرِه رَهِينٌ أي: مُسابِقٌ ومُخاطِرٌ ومَطلوبٌ، وآخِذٌ شَيئًا بَدَلَ كَسْبِه، ومُوفًّى على قَدرِ ما يَستَحِقُّه، ومُحتَبَسٌ به إن كان عاصِيًا، فمَنْ كان صالحًا كان آخِذًا بسَبَبِ صلاحِ وَلَدِه؛ لأنَّه كَسْبُه، ولا يُؤخَذُ به ذلًّا وهو حَسَنٌ في نَفْسِه؛ لأجْلِ الحُكمِ بإيمانِه سواءٌ كان حقيقةً أو حُكمًا، وكُلُّ حَسَنٍ مُرتَفِعٌ؛ فلذلك يَلتَحِقُ بأبيه، وأمَّا الإساءةُ فقاصِرةٌ على صاحِبِها يُؤخَذُ بها ويُرهَنُ بذَنْبِه، ولا يُؤخَذُ بذَنْبِ غَيرِه، والحاصِلُ أنَّ المعاليَ الَّتي هي كالحياةِ تَفيضُ مِن صاحبِها على غَيرِه فتُحيِيه، والمساوئَ الَّتي هي كالموتِ لا تتعَدَّى صاحِبَها). ((نظم الدرر)) (19/15، 16). وقال ابنُ عاشور: (كُلُّ امْرِئٍ يَعُمُّ أهلَ الآخرةِ كُلَّهم، وليس المرادُ كُلَّ امرئٍ مِنَ المتَّقينَ خاصَّةً. والمعنى: انتفى إنقاصُنا إيَّاهم شيئًا مِن عَمَلِهم؛ لأنَّ كُلَّ أحَدٍ مَقرونٌ بما كَسَب، ومُرتَهَنٌ عِندَه، والمتَّقون لَمَّا كَسَبوا العَمَلَ الصَّالحَ كان لازِمًا لهم مُقتَرِنًا بهم، لا يُسلَبونَ منه شيئًا، والمرادُ بما كَسَبوا: جزاءُ ما كَسَبوا؛ لأنَّه الَّذي يَقتَرِنُ بصاحِبِ العَمَلِ، وأمَّا نَفْسُ العَمَلِ فقد انقضَى في إبَّانِه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/51). .
كما قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18] .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ هذا فَضلُه تعالى على الأبناءِ ببَركةِ عَمَلِ الآباءِ، وأمَّا فَضلُه على الآباءِ ببَرَكةِ دُعاءِ الأبناءِ، فعن أبي هُرَيرةَ رَضيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيَرفَعُ الدَّرَجةَ للعَبدِ الصَّالِحِ في الجنَّةِ، فيَقولُ: يا رَبِّ، أنَّى لي هذه؟! فيقولُ: باستِغفارِ وَلَدِك لك )) [121] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/433). والحديث أخرجه ابنُ ماجه (3660)، وأحمدُ (10610) واللَّفظُ له. قوَّى إسنادَه الذهبيُّ في ((المهذب)) (5/2650)، وصحَّحه ابنُ كثير في ((تفسير ابن كثير)) (7/434) وقال: (وله شاهدٌ في صحيحِ مسلمٍ)، والبوصيريُّ في ((مصباح الزجاجة)) (4/98) وقال: (رجالُه ثِقاتٌ)، وحسَّنه العِراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (1/413)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16/357)، والحديث حسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3660). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ جُمِعَتِ الجنَّاتُ في الآيةِ لأنَّها أنواعٌ، ذَكَر اللهُ في سورةِ (الرَّحمنِ) أربعةَ أنواعٍ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، ثمَّ قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 62] هذه الجِنَانُ الأربعُ تختَلِفُ بما جاء في وَصفِها في سورةِ (الرَّحمنِ) [122] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 184). .
2- قال اللهُ عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ في قَولِه تعالى: وَنَعِيمٍ مُناسَبةٌ: أنَّ الجَّنَة وإن كانت مَوضِعَ السُّرورِ، لكِنَّ النَّاطورَ [123] النَّاطورُ: حافِظُ الكَرْمِ والنَّخلِ والزَّرعِ، وهي لفظةٌ أعجميَّةٌ، وليسَت بعَرَبيَّةٍ مَحْضةٍ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (14/243). قد يكونُ في البُستانِ الَّذي هو غايةُ الطِّيبةِ، وهو غَيرُ مُتنَعِّمٍ؛ فقَولُه: وَنَعِيمٍ يُفيدُ أنَّهم فيها يَتنَعَّمونَ كما يكونُ المتفَرِّجُ لا كما يكونُ النَّاطورُ [124] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/206). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ هذه الجُملةُ خَبَريَّةٌ مؤكَّدةٌ بـ «إنَّ»، والتَّوكيدُ أسلوبٌ مِن أساليبِ اللُّغةِ العربيَّةِ، مُستعمَلٌ عندَ العَرَبِ، وهذا القرآنُ نَزَلَ بلُغةِ العَرَبِ، وإلَّا ففي الواقعِ فإنَّ خَبَرَ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يَحتاجُ إلى توكيدٍ؛ لأنَّه أصْدَقُ القَولِ، فالرَّبُّ عزَّ وجلَّ إذا أخبَرَ بخبَرٍ فإنَّه لا يحتاجُ إلى أنْ يُؤَكِّدَ؛ لأنَّ خَبَرَ اللهِ صِدْقٌ، لكنْ لَمَّا كان القرآنُ العظيمُ نَزَلَ بلسانٍ عربيٍّ، صار جاريًا على ما كان يَعرِفُه العَرَبُ في لُغتِهم، فهنا أَكَّدَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذه الجُملةَ [125] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 183). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ بيانُ أسبابِ التَّنعيمِ على التَّرتيبِ؛ فأوَّلُ ما يكونُ: المَسكَنُ -وهو الجنَّاتُ-، ثمَّ الأكلُ والشُّربُ، ثمَّ الفُرُشُ والبُسُطُ، ثمَّ الأزواجُ، فهذه أمورٌ أربعةٌ ذَكَرها اللهُ على التَّرتيبِ، وذكَرَ في كُلِّ واحدٍ منها ما يدُلُّ على كَمالِه [126] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/206). .
5- قال اللهُ تعالى: فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ في قَولِه عزَّ وجَلَّ: فَاكِهِينَ مُناسَبةٌ؛ أنَّ المتنَعِّمَ قد تكونُ آثارُ التَّنَعُّمِ على ظاهِرِه وقَلبُه مَشغولٌ، فلمَّا قال: فَاكِهِينَ دَلَّ على غايةِ الطِّيبةِ [127] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/206). .
6- قَولُ الله تعالى: فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ فيه أنَّ الفَكِهَ قد يكونُ خَسيسَ النَّفْسِ فيَسُرُّه أدنى شَيءٍ، ويَفرَحُ بأقَلِّ سَبَبٍ؛ فقال: فَاكِهِينَ لا لدُنُوِّ هِمَمِهم، بل لعُلُوِّ نِعَمِهم؛ حيثُ هي مِن عندِ رَبِّهم [128] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/206). .
7- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فوقاهم مِمَّا يَكرَهونَ، وأعطاهم ما يُحِبُّونَ؛ جَزاءً وِفاقًا؛ لأنَّهم تَرَكوا ما يَكرَهُ، وأَتَوا بما يُحِبُّ؛ فكان جزاؤُهم مُطابِقًا لأعمالِهم [129] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 273). !
8- في قَولِه تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أنَّ عَمَلَهم في الدُّنيا سَبَبٌ في تمَتُّعِهم بنَعيمِ الجنَّةِ في الآخِرةِ، وجاء في الحديثِ: ((لا يَدخُلُ أحدٌ منكم الجنَّةَ بعملِه)) [130] أخرجه البخاريُّ (5673)، ومسلمٌ (2816)، وأحمدُ (7479) واللَّفظُ له، مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. ، ولا مُعارَضةَ بيْنَ النَّصَّيْنِ؛ إذِ الدُّخولُ بفضلٍ مِن الله، وبعدَ الدُّخولِ يكونُ التَّوارُثُ، وتكونُ الدَّرَجاتُ، ويكونُ التَّمتُّعُ بسببِ الأعمالِ. فكلُّهم يَشترِكون في التَّفضُّلِ مِن الله عليهم بدُخولِ الجنَّةِ، ولكنَّهم بعدَ الدُّخولِ يَتفاوَتون في الدَّرَجاتِ بسببِ الأعمالِ [131] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/403، 404). .
ويُجابُ أيضًا: بأنَّه لا مُناقَضةَ بيْنَ ما جاء به القرآنُ وما جاءت به السُّنَّةُ؛ إذِ المُثبَتُ في القرآنِ ليس هو المنفيَّ في السُّنَّةِ، والتَّناقُضُ إنَّما يكونُ إذا كان المُثبَتُ هو المَنفيَّ! وذلك أنَّ اللهَ تعالى قال: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43] ، وقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] ، وقال: أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 19] ، وقال: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 22 - 24] ، فبيَّن بهذه النُّصوصِ أنَّ العملَ سببٌ للثَّوابِ، والباءُ للسَّببِ، ولا رَيْبَ أنَّ العملَ الصَّالحَ سببٌ لِدُخولِ الجنَّةِ، واللهُ قدَّر لعبدِه المؤمنِ دُخولَ الجنَّةِ بما يُيَسِّرُه له مِن العملِ الصَّالحِ، كما قدَّر دُخولَ النَّارِ لِمَن يَدخُلُها بعمَلِه السَّيِّئِ.
 أمَّا الحديثُ فقد نفى ما قد تَتوَهَّمُه النُّفوسُ مِن أنَّ الجزاءَ مِن الله عزَّ وجلَّ على سبيلِ المُعاوَضةِ والمُقابَلةِ كالمُعاوَضاتِ الَّتي تكونُ بيْنَ النَّاسِ في الدُّنيا [132] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/145- 148). .
9- قَولُه تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا فِعلُ أمْرٍ، وهذا الأمرُ ليس تكليفًا، وإنَّما الأمرُ هنا للتَّكريمِ، أي: يُقالُ لهم: كُلُوا مِن كلِّ ما في الجنَّةِ مِن النَّعيمِ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 184). .
10- في قَولِه تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا إخبارٌ عن دَوامِ ذلك لهم بما أفهَمَه قَولُه تعالى: هَنِيئًا؛ فإنَّهم لو عَلِموا زَوالَه وانقِطاعَه لَنَغَّصَ عليهم ذلك نَعيمَهم، ولم يكُنْ هناءً لهم [134] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 273). !
11- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في قَولِه تعالى: هَنِيئًا إشارةٌ إلى خُلُوِّهما عمَّا يكونُ فيهما من المفاسِدِ في الدُّنيا:
منها: أنَّ الآكِلَ يخافُ مِنَ المَرَضِ، فلا يَهنَأُ له الطَّعامُ.
ومنها: أنَّه يخافُ النَّفادَ، فلا يَسخُو بالأكلِ. والكُلُّ مُنتَفٍ في الجنَّةِ؛ فلا مَرَضَ، ولا انقِطاعَ؛ فإنَّ كُلَّ أحَدٍ عِندَه ما يَفضُلُ عنه، ولا إثمَ ولا تَعَبَ في تحصيلِه؛ فإنَّ الإنسانَ في الدُّنيا رُبَّما يَترُكُ لَذَّةَ الأكلِ؛ لِما فيه مِن تهيئةِ المأكولِ بالطَّبخِ، والتَّحصيلِ مِنَ التَّعبِ أو المِنَّةِ، أو ما فيه مِن قَضاءِ الحاجةِ واستِقذارِ ما فيه؛ فلا يَتهَنَّأُ، وكُلُّ ذلك في الجنَّةِ مُنتَفٍ [135] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/206). .
12- في قَولِه تعالى: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ شُمولٌ لكُلِّ العَمَلِ: عَمَلِ الجوارحِ، والقَلبِ، واللِّسانِ؛ فعَمَلُ الجوارِحِ: الأفعالُ، كالرُّكوعِ، والسُّجودِ، وعَمَلُ اللِّسانِ: الأقوالُ، كالأذكارِ، وعَمَلُ القلوبُ: كالخَوفِ، والرَّجاءِ، والتَّوكُّلِ، وما أَشبَهَ ذلك؛ فكلُّ هذه تُسَمَّى أعمالًا [136] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 186). .
13- في قَولِه تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ذكَرَ سُبحانَه وتعالى في السُّرُرِ أُمورًا:
منها: الاتِّكاءُ، فإنَّه هَيئةٌ تختَصُّ بالمُنعَّمِ والفارِغِ الَّذي لا كُلْفةَ عليه، ولا تكَلُّفَ لديه؛ فإنَّ مَن يكونُ عِندَه مَن يَتكَّلَفُ له: يَجلِسُ له، ولا يتَّكِئُ عِندَه، ومَن يكونُ في مُهِمٍّ: لا يتفَرَّغُ للاتِّكاءِ؛ فالهَيئةُ دَليلُ خَيرٍ، والمتكِئُ تدُلُّ هيئتُه على أنَّه في سُرورٍ، وانشراحٍ، وطُمأنينةٍ.
ومنها: الجَمعُ في قَولِه: سُرُرٍ؛ وذلك لأمْرَينِ: أظهَرُهما: أن يكونَ لكُلِّ واحدٍ سُرُرٌ؛ لأنَّ قَولَه: مَصْفُوفَةٍ يدُلُّ على أنَّه لواحدٍ؛ لأنَّ سُرُرَ الكُلِّ لا تكونُ في مَوضِعٍ واحِدٍ مُصطَفَّةً.
ومنها: لَفظُ السَّريرِ، فيه حُروفُ السُّرورِ، بخِلافِ التَّخْتِ [137] التَّخْتُ: مَكانٌ مُرتفِعٌ للجلوسِ أو للنَّومِ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/82). وغَيرِه.
ومنها: مَصْفُوفَةٍ فهي دليلٌ على أنَّه لمجَرَّدِ العِظَمِ؛ فإنَّها لو كانت مُتفَرِّقةً لَقيلَ: في كُلِّ مَوضِعٍ واحِدٌ؛ ليتَّكِئَ عليه صاحِبُه إذا حضَرَ في هذا الموضِعِ [138] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/207)، ((تفسير ابن عادل)) (18/126)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 186). .
14- قال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ هو نِعمةٌ جَمَع اللهُ بها للمُؤمِنينَ أنواعَ المسَرَّةِ؛ بسَعادتِهم بمُزاوَجةِ الحُورِ، وبمؤانَسةِ الإخوانِ المُؤمِنينَ، وباجتِماعِ أولادِهم ونَسْلِهم بهم؛ وذلك أنَّ في طَبعِ الإنسانِ التَّأنُّسَ بأولادِه، وحُبَّه اتِّصالَهم به [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/49). .
15- قال اللهُ تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ذَكَر مجالِسَهم وهَيئاتِهم فيها، وفي ذِكْرِ اصطِفافِها تَنبيهٌ على كَمالِ النِّعمةِ عليهم بقُرْبِ بَعضِهم مِن بَعضٍ، ومُقابَلةِ بعضِهم بَعضًا، كما قال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة: 16] ؛ فإنَّ مِن تمامِ اللَّذَّةِ والنَّعيمِ أنْ يكونَ مع الإنسانِ في بُستانِه ومَنزلِه مَن يُحِبُّ مُعاشَرتَه، ويُؤْثِرُ قُربَه، ولا يكونُ بعيدًا منه، قد حِيلَ بيْنَه وبيْنَه، بل سريرُه إلى جانِبِ سَريرِ مَن يُحِبُّه [140] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 273). !
16- في قَولِه تعالى: مَصْفُوفَةٍ وَصَف اللهُ السُّرُرَ بأنَّها مَصفوفةٌ؛ لِيَدُلَّ ذلك على كَثرتِها، وحُسنِ تَنظيمِها، واجتِماعِ أهلِها، وسُرورِهم بحُسنِ مُعاشَرتِهم، ولُطفِ كَلامِ بَعضِهم لبَعضٍ [141] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 815). .
17- في قَولِه تعالى: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ذِكرُ أُمورٍ تَدُلُّ على كَمالِ الحالِ:
أحدُها: أنَّه تعالى هو المُزَوِّجُ، وهو يَتولَّى الطَّرَفَينِ، يزوِّجُ عِبادَه بإمائِه، ومَن يكونُ كذلك لا يَفعَلُ إلَّا ما فيه راحةُ العبادِ والإماءِ.
ثانيها: قال: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ، ولم يَقُل: «وزوَّجناهم حُورًا»، مع أنَّ لفظَ التَّزويجِ يتعَدَّى فِعلُه إلى مفعولينِ بغيرِ حَرفٍ، يقال: «زَوَّجْتُكَها»، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب: 37] ؛ وذلك إشارةٌ إلى أنَّ المَنفَعةَ في التَّزويجِ لهم، وإنَّما زُوِّجوا لِلَذَّتِهم بالحُورِ، لا لِلَذَّةِ الحُورِ بهم؛ وذلك لأنَّ المفعولَ بغيرِ حَرفٍ يُعَلَّقُ الفِعلُ به، كذلك التَّزويجُ تعَلَّقَ بهم ثمَّ بالحُورِ؛ لأنَّ ذلك بمعنى: جعَلْنا ازْدِواجَهم بهذا الطَّريقِ، وهو الحُورُ [142] ويُنظر ما يأتي في البلاغة (ص: 274 - 275) .
ثالِثُها: عَدَمُ الاقتصارِ على الزَّوجاتِ، بل وصَفَهنَّ بالحُسنِ، واختار الأحسَنَ مِن الأحسَنِ؛ فإنَّ أحسَنَ ما في صورةِ الآدَميِّ وَجهُه، وأحسَنَ ما في الوَجهِ العَينُ [143] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/207). .
18- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ تأمَّلْ كيفَ أتَى بالواوِ العاطفةِ في اتِّباعِ الذُّرِّيَّةِ، وجَعَل الخبرَ عن المؤمِنينَ الَّذين هذا شَأنُهم؛ فجَعَل الخبرَ مُستحَقًّا بأمْرَينِ:
أحدُهما: إيمانُ الآباءِ، والثَّاني: اتِّباعُ ذُرِّيَّتِهم لهم، وذلك لا يقتضي أنَّ كلَّ مؤمنٍ يَتَّبِعُه كلُّ ذُرِّيَّةٍ له، ولو أُريدَ هذا المعنى لَقيل: «والَّذين آمنوا تَتَّبِعُهم ذرِّيَّاتُهم»، فعَطفُ الاتِّباعِ بـ «الواوِ» يقتضي أنْ يكونَ المعطوفُ بها قَيدًا وشَرطًا في ثُبوتِ الخبَرِ، لا حصولَه لكلِّ أفرادِ المبتدأِ [144] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 396). .
19- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ سُؤالٌ عن وَجهِ الجَمعِ مع قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ الآيةَ [لقمان: 33] ؛ فإنَّ هذه الآيةَ تدُلُّ بظاهِرِها على أنَّ يومَ القيامةِ لا يَنفَعُ فيه والِدٌ وَلَدَه، وأمَّا الآيةُ الشَّاهِدُ فهي تدُلُّ على رَفعِ دَرَجاتِ الأولادِ بسَبَبِ صَلاحِ آبائِهم حتَّى يكونوا في دَرَجةِ الآباءِ، مع أنَّ عَمَلَهم -أي: الأولادِ- لم يُبَلِّغْهم تلك الدَّرَجةَ؛ إقرارًا لعُيونِ الآباءِ بوُجودِ الأبناءِ معهم في مَنازِلِهم من الجَنَّةِ، وذلك نَفعٌ لهم!
الجوابُ: وَجهُ الجَمعِ أُشيرَ إليه بالقَيدِ الَّذي في هذه الآيةِ، وهو قَولُه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، وعَيَّنَ فيها النَّفعَ بأنَّ إلحاقَهم بهم في دَرَجاتِهم هو بقَيدِ الإيمانِ، فهي أخَصُّ مِنَ الآيةِ الأُخرى، والأخَصُّ لا يُعارِضُ الأعَمَّ، وعلى قَولِ مَن فَسَّرَ الآيةَ بأنَّ معنى قَولِه: لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ لا يَقضي عنه حَقًّا لَزِمَه، ولا يَدفَعُ عنه عذابًا حَقَّ عليه؛ فلا إشكالَ في الآيةِ [145] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 182). .
20- ثَمَّ سُؤالٌ عن وَجهِ الجَمعِ بيْنَ قَولِه تعالى هنا: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ مع قَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] ؛ فإنَّ هذه الآيةَ الكَريمةَ تدُلُّ على أنَّه لا يَنتَفِعُ أحَدٌ بعَمَلِ غَيرِه، وأمَّا الآيةُ الشَّاهِدُ فهي تدُلُّ على أنَّ بَعضَ النَّاسِ رُبَّما انتفَعَ بعَمَلِ غَيرِه؛ فرَفْعُ دَرَجاتِ الأولادِ -سواءٌ قُلْنا: إنَّهم الكِبارُ أو الصِّغارُ- نَفعٌ حاصِلٌ لهم، وإنَّما حَصَل لهم بعَمَلِ آبائِهم لا بعَمَلِ أنفُسِهم.
والجوابُ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ آيةَ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى إنَّما دَلَّت على نَفيِ مِلكِ الإنسانِ لغَيرِ سَعْيِه، ولم تدُلَّ على نَفيِ انتِفاعِه بسَعيِ غَيرِه؛ لأنَّه لم يَقُلْ: «وأنْ لن ينتَفِعَ الإنسانُ إلَّا بما سعى»، وإنَّما قال: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ وبيْنَ الأمرينِ فَرقٌ ظاهِرٌ؛ لأنَّ سَعيَ الغَيرِ مِلكٌ لِساعيه، إنْ شاء بَذَلَه لِغَيرِه فانتَفَع به ذلك الغَيرُ، وإنْ شاء أبقاه لنَفْسِه، وقد أجمَعَ العُلَماءُ على انتِفاعِ المَيِّتِ بالصَّلاةِ عليه، والدُّعاءِ له، والحَجِّ عنه، ونحوِ ذلك مِمَّا ثبت الانتِفاعُ بعَمَلِ الغَيرِ فيه.
الثَّاني: أنَّ إيمانَ الذُّرِّيَّةِ هو السَّبَبُ الأكبَرُ في رَفعِ دَرَجاتِهم؛ إذ لو كانوا كُفَّارًا لَما حَصَل لهم ذلك؛ فإيمانُ العبدِ وطاعتُه سَعيٌ منه في انتِفاعِه بعَمَلِ غَيرِه مِنَ المُسلِمينَ، كما وقَعَ في الصَّلاةِ في الجَماعةِ؛ فإنَّ صلاةَ بَعضِهم مع بَعضٍ يَتضاعَفُ بها الأجرُ زيادةً على صَلاتِه مُنفَرِدًا، وتلك المُضاعَفةُ انتِفاعٌ بعَمَلِ الغَيرِ سعَى فيه المصَلِّي بإيمانِه وصلاتِه في الجَماعةِ، وهذا الوَجهُ يُشيرُ إليه قَولُه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ.
الثَّالِثُ: أنَّ السَّعيَ الَّذي حَصَل به رَفعُ دَرَجاتِ الأولادِ ليس للأولادِ، كما هو نَصُّ قَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، ولكِنَّه مِن سَعيِ الآباءِ؛ فهو سَعيٌ للآباءِ أقَرَّ اللهُ عُيونَهم بسَبَبِه؛ بأنْ رَفَع إليهم أولادَهم لِيَتمتَّعوا في الجنَّةِ برُؤيتِهم، فالآيةُ تُصَدِّقُ الأُخرَى، ولا تُنافيها؛ لأنَّ المقصودَ بالرَّفعِ إكرامُ الآباءِ لا الأولادِ؛ فانتِفاعُ الأولادِ تَبَعٌ، فهو بالنِّسبةِ إليهم تفَضُّلٌ مِنَ اللهِ تعالى عليهم بما ليس لهم، كما تفَضَّل بذلك على الوِلدانِ، والحُورِ العِينِ، والخَلقِ الَّذين يُنشِئُهم للجَنَّةِ [146] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 224). .
21- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أنَّ غَيرَ المكلَّفِ قد يُرحَمُ؛ فإنَّ أطفالَ المؤمِنينَ معَ آبائِهم في الجنَّةِ [147] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (3/239). .
22- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ اللهَ سُبحانَه يُلحِقُ ذُرِّيَّةَ المؤمِنينَ بهم في الجنَّةِ، وأنَّهم يكونونَ معهم في دَرَجتِهم، ومع هذا فلا يُتوهَّمُ نُزولُ الآباءِ إلى دَرَجةِ الذُّرِّيَّةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يَلِتْهم -أى: لم يَنقُصْهم- مِن أعمالِهم مِن شَيءٍ، بل رفَعَ ذُرِّيَّاتِهم إلى دَرَجاتِهم مع توفيرِ أُجورِ الآباءِ عليهم، ولَمَّا كان إلحاقُ الذُّرِّيَّةِ بالآباءِ فى الدَّرَجةِ إنَّما هو بحُكمِ التَّبَعيَّةِ لا بالأعمالِ، رُبَّما تَوَهَّم مُتوَهِّمٌ أنَّ ذُرِّيَّةَ الكُفَّارِ يُلحَقونَ بهم فى العَذابِ تَبَعًا وإنْ لم يكُنْ لهم أعمالُ الآباءِ، فقَطَع تعالى هذا التَّوَهُّمَ بقَولِه تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [148] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 396). .
23- في قَولِه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ذَكَر «الإيمانَ»؛ لئلَّا يُتَوَهَّمَ أنَّ الاتِّباعَ هو في نَسَبٍ أو تَربيةٍ، أو حُرِّيَّةٍ أو رِقٍّ، أو غَيرِ ذلك [149] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/392). .
24- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أنَّ مِن تمامِ نَعيمِ أهلِ الجنَّةِ أنْ ألحَقَ اللهُ بهم ذُرِّيَّتَهم الَّذين اتَّبَعوهم بإيمانٍ -أي: الَّذين لَحِقوهم بالإيمانِ الصَّادِرِ مِن آبائِهم -على قَولٍ-؛ فصارت الذُّرِّيَّةُ تَبَعًا لهم بالإيمانِ، ومِن بابِ أَولى إذا تَبِعَتهم ذُرِّيَّتُهم بإيمانِهم الصَّادِرِ منهم أنفُسِهم، فهؤلاء المذكورون يُلحِقُهم اللهُ بمنازِلِ آبائِهم في الجنَّةِ وإن لم يَبلُغوها؛ جزاءً لآبائِهم، وزيادةً في ثوابِهم، ومع ذلك لا يَنقُصُ اللهُ سُبحانَه الآباءَ مِن أعمالِهم شَيئًا [150] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 815). !
25- في قَولِه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ الذُّرِّيَّاتُ هنا تَصدُقُ على الآباءِ وعلى الأبناءِ، وإنَّ المُؤمِنَ إذا كان عَمَلُه أكثَرَ أُلحِقَ به مَن دُونَه في العَمَلِ ابنًا كان أو أبًا، وهو مَنقولٌ عن ابنِ عبَّاسٍ [151] يُنظر ما أخرجه عبد الرَّزَّاقِ في ((تفسيره)) (3/245) (3009)، وسعيدُ بنُ منصورٍ في ((سننه)) (7/428) (2065)، وابنُ جرير في ((تفسيره)) (21/579). وغَيرِه [152] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/114). .
26- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ على قراءةِ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فيه دَلالةٌ على تَبَعيَّةِ الوَلَدِ الصَّغيرِ لِمَن أسلَمَ مِن أَبَويه أو آبائِه [153] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 248). قال ابن العربي بعدَ أن ذكر القراءتَينِ: (القِراءتانِ لِمَعنيَينِ: أمَّا إذا كان «اتَّبَعَتْهُم» على أن يكونَ الفِعلُ لِلذُّرِّيَّةِ فيَقتضي أن يكونَ الذُّرِّيَّةُ مُستَقِلَّةً بنفْسِها، تَعقِلُ الإيمانَ، وتَتلفَّظُ به. وأمَّا إذا كان الفِعلُ واقِعًا بهم مِن الله عزَّ وجلَّ بغيرِ واسِطةِ نِسبةٍ إليهم، فيكونُ ذلك لِمَن كان مِن الصِّغَرِ في حدٍّ لا يَعقِلُ الإسلامَ، ولكنْ جعَلَ اللهُ له حُكمَ أبيه لِفَضلِه في الدُّنيا مِن العِصمةِ والحُرمةِ. فأمَّا إتْباعُ الصَّغيرِ لأبيه في أحكامِ الإسلامِ فلا خِلافَ فيه، وأمَّا تبعيَّتُه لأُمِّه فاختلَف فيه العُلماءُ). ((أحكام القرآن)) (4/167). ، فالله تعالى أتْبَعَ الوَلَدَ الوالِدَينِ في الإيمانِ، ولم يُتْبِعْه أباه في الكُفرِ، وبدليلِ أنَّ مَن أسلَمَ مِنَ الكُفَّارِ حُكِمَ بإسلامِ أولادِه، ومَن ارتَدَّ مِن المُسلِمينَ -والعياذُ باللهِ- لا يُحكَمُ بكُفرِ وَلَدِه [154] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/208). .
27- استُدِلَّ بقَولِه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ على صِحَّةِ إسلامِ الصَّبيِّ؛ فإنَّ اللهَ نَسَب الفِعلَ إليهم، فهذا يدُلُّ على أنَّهم عَقَلوه وتكَلَّموا به؛ فاعتَبَره اللهُ، وجَعَل لهم حُكمَ المُسلِمينَ، وقد احتَجَّ جماعةٌ بإسلامِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ صَغيرًا وأبواه كافِرانِ [155] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/168)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 248). .
28- في قَولِه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أنَّه مِن جُملةِ إحسانِه سُبحانَه إلى أهلِ الجنَّةِ أنَّه يَرعى المحسِنَ في المُسيءِ، ولَفظةُ أَلْحَقْنَا تَقتَضي أنَّ للمُلحَقِ بَعضَ التَّقصيرِ في الأعمالِ [156] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/571). .
29- في قَولِه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ لطيفةٌ: أنَّه قال سُبحانَه في الدُّنيا: وَأَتْبَعْنَاهُمْ على قراءةٍ، وقال في الآخِرةِ: أَلْحَقْنَا بِهِمْ؛ وذلك لأنَّ في الدُّنيا لا يُدرِكُ الصَّغيرُ التَّابِعُ مُساواةَ المَتبوعِ، وإنَّما يكونُ هو تَبَعًا والأبُ أصلًا؛ لفَضلِ السَّاعي على غَيرِ السَّاعي.
وأمَّا في الآخِرةِ فإذا أَلحَقَ اللهُ بفَضلِه وَلَدَه به جَعَل له مِنَ الدَّرَجةِ مِثلَ ما لأبيه [157] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/208). .
30- في قَولِه تعالى: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أنَّ شَفَقةَ الأُبُوَّةِ كما هي في الدُّنيا مُتوفِّرةٌ كذلك في الآخِرةِ؛ ولهذا طَيَّب اللهُ تعالى قُلوبَ عِبادِه بأنَّه لا يُوَلِّهُهم [158] الوَلَهُ: ذَهابُ العَقلِ والتَّحَيُّرُ مِن شِدَّةِ الحُزنِ، أو: ذِهابُ العقلِ لفِقْدانِ الحبيبِ، والتَّوْليهُ أنْ يُفَرَّقَ بينَ المرأةِ وولدِها. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 345)، ((لسان العرب)) لابن منظور (13/561). بأولادِهم، بل يَجمَعُ بيْنَهم [159] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/208). !
31- قال اللهُ عز وجل: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في قَولِه تعالى: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ تَطييبٌ لِقَلبِهم، وإزالةُ وَهمِ المتوَهِّمِ أنَّ ثوابَ عَمَلِ الأبِ يُوزَّعُ على الوالِدِ والوَلَدِ، بل للوالِدِ أجْرُ عَمَلِه بفَضلِ السَّعيِ، ولأولادِه مِثلُ ذلك؛ فَضلًا مِنَ اللهِ تعالى ورَحمةً [160] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/208). !
32- قَولُه تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ هذه قاعِدةٌ عامَّةٌ في جميعِ العاملِينَ: أنَّ كلَّ واحدٍ رَهينٌ بعَمَلِه، لا يَنقُصُ منه شَيءٌ، أمَّا الزِّيادةُ فهي فَضلٌ مِن اللهِ تبارك وتعالى على مَن شاء مِن عِبادِه [161] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 187). .
33- في قَولِه تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ أنَّه لَمَّا كان هذا الإلحاقُ في الثَّوابِ والدَّرَجاتِ فضلًا مِن اللهِ، فرُبَّما وَقَع في الوَهمِ أنَّ إلحاقَ الذُّرِّيَّةِ أيضًا حاصِلٌ لهم في حُكْمِ العَدلِ؛ فلمَّا اكتَسَبوا سيِّئاتٍ أوجَبَتْ عقوبةً كان كلُّ عاملٍ رَهينًا بكَسْبِه لا يَتعلَّقُ بغَيرِه شَيءٌ، فالإلحاقُ المذكورُ إنَّما هو في الفَضلِ والثَّوابِ، لا في العَدلِ والعِقابِ، وهذا نَوعٌ مِن أسرارِ القرآنِ وكُنوزِه الَّتي يَختَصُّ اللهُ بفَهمِها مَن شاء [162] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 57). ، فلا يُتَوَهَّمْ أنَّ هذا الاتِّباعَ حاصِلٌ في أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ، بل هو للمُؤمِنينَ دُونَ الكُفَّارِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بكَسْبِه، وقد يُثيبُه مِن غيرِ كَسْبٍ منه [163] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/392). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ بعْدَ أنْ ذكَرَ حالَ المُكذِّبين وما يُقالُ لهم، فمِن شأْنِ السَّامِعِ أنْ يَتساءَلَ عن حالِ أضْدادِهم، وهمُ الفريقُ الَّذين صدَّقوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما جاء به القرآنُ، وخاصَّةً إذ كان السَّامِعونَ المؤمنينَ، وعادةُ القرآنِ تَعقيبُ الإنذارِ بالتَّبشيرِ وعكْسُه؛ فلَمَّا ذكَرَ حالَ الكُفَّارِ، ذكَرَ حالَ المؤمنينَ؛ ليقَعَ التَّرهيبُ والتَّرغيبُ، وهو إخبارٌ عمَّا يَؤولُ إليه حالُ المؤمنينَ، أُخبِروا بذلك. والجُملةُ مُعترِضةٌ بيْنَ ما قبْلَها وجُملةِ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ [164] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/569)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/45). [الطور: 30]. ويَجوزُ أنْ يكونَ مِن جُملةِ القَولِ للكُفَّارِ؛ إذ ذلك زِيادةٌ في غمِّهم، وتَنكيدٌ لهم [165] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/569). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ به [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/45). .
- وتَنكيرُ جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ للتَّعظيمِ والتَّفخيمِ، أي: في أيَّةِ جنَّاتٍ وأيِّ نَعيمٍ! بمعْنى الكَمالِ في الصِّفةِ. أوْ في جَنَّاتٍ ونَعيمٍ مَخصوصةٍ بالمُتَّقينَ، خُلِقَتْ لهم خاصَّةً، عَلى أنَّ التَّنكيرَ للتَّنويعِ [167] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/410)، ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((تفسير أبي السعود)) (8/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/45). .
- وجُمِعَ جَنَّاتٍ باعتبارِ جَمْعِ المُتَّقينَ، وهي جَناتٌ كثيرةٌ مُختلِفةٌ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/347) و (17/45). .
2- قولُه تعالَى: فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
- قولُه: فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ فيه استِحضارُ الجَلالةِ بوصْفِ رَبُّهُمْ؛ للإشارةِ إلى عَظيمِ ما آتاهُم؛ إذ العَطاءُ يُناسِبُ حالَ المُعْطي. وفي إضافةِ (ربّ) إلى ضَميرِهم تقْريبٌ لهم وتَعظيمٌ [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/46). .
- قولُه: وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ المَقصودُ مِن ذِكرِ هذه الحالةِ: إظهارُ التَّبايُنِ بيْن حالِ المُتَّقينَ وحالِ المُكذِّبِين؛ زِيادةً في الامتِنانِ؛ فإنَّ النِّعمةَ تَزدادُ حُسْنَ وقْعٍ في النَّفْسِ عندَ مُلاحَظةِ ضِدِّها [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/46). .
- وأيضًا في قولِه: وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إظْهارُ الرَّبِّ في مَوقعِ الإضمارِ مُضافًا إلى ضَميرِهم؛ للتَّشريفِ والتَّعليلِ [171] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/148). ، فهو سُبحانَه المتفَضِّلُ بتَربيتِهم بكَفِّهم عن المعاصي والقاذوراتِ [172] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/13). .
3- قولُه تعالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ في مَوضعِ الحالِ، تَقديرُه: يُقالُ لهم، أو مَقولًا لهم، وهذا القولُ مُقابِلُ ما يُقالُ للمُكذِّبين: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16] [173] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/410)، ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((تفسير أبي حيان)) (9/569)، ((تفسير أبي السعود)) (8/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/46). .
- وحُذِفَ مَفعولُ كُلُوا وَاشْرَبُوا لإفادةِ التَّعميمِ، أي: كُلوا كلَّ ما يُؤكَلُ، واشْرَبوا كلَّ ما يُشرَبُ، وهو عُمومٌ عُرْفيٌّ، أي: ممَّا تَشْتَهونَ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/46). . وأيضًا تُرِك ذِكرُ المأكولِ والمَشروبِ؛ لِتَنوُّعِهما وكَثرتِهما [175] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/206). .
- والباءُ في قولِه: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَببيَّةٌ، و(ما) مَوصولةٌ، أي: بسَببِ العمَلِ الَّذي كُنتُم تَعمَلونه، وهو العمَلُ الصَّالِحُ [176] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((تفسير أبي السعود)) (8/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/46، 47). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالَى في حقِّ الكُفَّارِ: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16]، وقال في حقِّ المؤمنينَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وبيْن العِبارتَينِ بَونٌ عَظيمٌ مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: كلمةُ (إنَّما) للحصْرِ، أي: لا تُجْزَون إلَّا ذلك، ولم يَذكُرْ هذا في حقِّ المؤمِنِ؛ فإنَّه يَجْزِيه أضعافَ ما عمِلَ، ويَزِيدُه مِن فضْلِه.
الثاني: قال هنا: بِمَا كُنْتُمْ، وقال هناك: مَا كُنْتُمْ، أي: تُجْزَون عَينَ أعمالِكم؛ إشارةً إلى المُبالَغةِ في المماثَلةِ، كما تقولُ: هذا عَينُ ما عمِلْتَ، وقال في حقِّ المؤمنِ: بِمَا كُنْتُمْ، كأنَّ ذلك أمرٌ ثابتٌ مُستحَقٌّ بعمَلِكم هذا.
الثالث: ذكَرَ الجزاءَ هناك؛ وقال هاهنا: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؛ لأنَّ الجزاءَ يُنبِئُ عن الانقطاعِ؛ فإنَّ مَن أحسَنَ إلى أحدٍ فأتى بجَزائِه، لا يَتوقَّعُ المحسِنُ منه شيئًا آخَرَ [177] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/206). .
4- قولُه تعالَى: مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ
- قولُه: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ جِيءَ بالباءِ معَ أنَّ التَّزويجَ ممَّا يَتعدَّى إلى مَفعولَينِ؛ لِما في التَّزويجِ مِن معْنى الوصْلِ والإِلصاقِ والقرْنِ. أو للسَّببيَّةِ؛ إذِ المعْنى: صيَّرْناهم أزواجًا بسَببِهنَّ؛ فإنَّ الزَّوجيَّةَ لا تَتحقَّقُ بدونِ انْضِمامِهنَّ إليهمْ [178] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 536)، ((تفسير أبي السعود)) (8/148). . وقيل: الباءُ للمُصاحَبةِ، أي: جعَلْنا حورًا عينًا معهم، ولم يُعَدَّ فِعلُ (زوجناهم) إلى (بحُورٍ) بنفْسِه على المفعوليَّةِ، كما في قوله تعالى: زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب: 37] ؛ لأنَّ (زَوَّجْنا) في هذه الآيةِ ليس بمعنى: أنكَحْناهم؛ إذ ليس المرادُ عقْدَ النِّكاحِ؛ لِنُبُوِّ المرادِ عن هذا المعنى؛ فالتَّزويجُ هنا واردٌ بمعنى جعْلِ الشَّيءِ المفردِ زَوجًا -وذلك على قَولٍ في تَفسيرِها-، وليس الباءُ لتعديةِ فِعلِ (زوَّجْناهم) بتضمينِه معنى: قرَنَّا [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/47). .
5- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ
- قولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ حالِ طائفةٍ مِن أهْلِ الجنَّةِ إثرَ بَيانِ حالِ الكُلِّ، وهُم الَّذينَ شاركَتْهم ذُرِّيَّتُهم في الإيمانِ [180] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/148). . أو اعتِراضٌ بيْن ذِكرِ كَراماتِ المؤمنينَ، والواوُ اعتراضيَّةٌ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/48). .
- والتَّعبيرُ بالمَوصولِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ... إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لتَكونَ الصِّلةُ إيماءً إلى وجْهَ بِناءِ الخبَرِ الواردِ بعْدَها، أي: إنَّ سَببَ إلْحاقِ ذُرِّيَّاتِهم بهمْ في نَعيمِ الجنَّةِ هو إيمانُهم، وكَونُ الذُّرِّيَّاتِ آمَنوا بسَببِ إيمانِ آبائِهم؛ لأنَّ الآباءَ المؤمنينَ يُلقِّنون أبْناءَهم الإيمانَ [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/48). .
- ولفْظُ ذُرِّيَّتُهُمْ الأوَّلُ قُرِئَ بصِيغةِ الإفرادِ، على أنَّه فاعلُ (اتَّبَعَتْهُمْ)، وقُرِئَ أيضًا بصِيغةِ الجمْعِ مَرفوعًا ذُرِّيَّاتُهُمْ؛ للمُبالَغةِ في كثْرتِهم، والتَّصريحِ؛ فإنَّ الذُّرِّيَّةَ تقَعُ على الواحدِ والكثيرِ، فيكونُ الإنعامُ على آبائهِم بإلْحاقِ ذُرِّيَّاتِهم بهمْ، وإنْ لم يَعمَلوا مِثلَ عمَلِهم.  وقُرِئَ ذُرِّيَتَهُمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ بالنَّصبِ [183] قولُه تعالى: ذُرِّيَّتُهُمْ قرأه البَصريَّانِ -أبو عَمرٍو ويعقوبُ- وابنُ عامرٍ بألِفٍ على الجَمعِ، وقرأ الباقون بغيرِ ألِفٍ على التَّوحيدِ، وكسَرَ التَّاءَ أبو عَمرٍو وحْدَه، وضمَّها الباقونَ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/377). ،  على أنَّهما مَفعولَا (أَتْبَعْنَاهُمْ) [184] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/154)، ((تفسير أبي السعود)) (8/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/49). .
- وقولُه: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ عطْفٌ على آَمَنُوا، وقيل: إنَّه اعتِراضٌ للتَّعليلِ [185] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((تفسير أبي السعود)) (8/148). .
- والتَّنكيرُ في قَولِه: بِإِيمَانٍ قيل: إنه للنَّوعيَّةِ، أي: بما يَصدُقُ عليه حَقيقةُ الإيمانِ؛ للإِشعارِ بأنَّه يَكْفي للإِلحاقِ المُتابَعةُ في أصْلِ الإِيمانِ. ويجوزُ أنْ يُرادَ: إيمانُ الذُّرِّيَّةِ الدَّاني المَحلِّ، كأنَّه قال: بشَيءٍ مِن الإيمانِ لا يُؤهِّلُهم لدَرَجةِ الآباءِ، ألْحَقْناهم بهمْ، فهو إيمانٌ في الجُملةِ قاصرٌ عن رُتْبةِ إيمانِ الآباءِ، والتَّنكيرُ حِينَئذٍ للتَّقليلِ [186] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/411)، ((تفسير البيضاوي)) (5/154)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/50)، ((تفسير أبي حيان)) (9/571)، ((تفسير أبي السعود)) (8/148، 149)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/48، 49). ، فالمعنى: بشَيءٍ مِن الإيمانِ لم يَكونوا به أهلًا لدرجةِ آبائِهم، ولكنَّهم لَحِقوا بهم كرامةً للآباءِ، فالمرادُ تقليلُ إيمانِ الذُّرِّيَّةِ، ولكنَّه رفَع درجتَهم، فكيف إذا كان إيمانًا عظيمًا [187] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/312). ؟!
- وإيثارُ فِعلِ أَلْحَقْنَا دونَ أنْ يُقالَ: أدخَلْنا معهم، أو جعَلْنا معهم؛ لعلَّه لِما في مَعْنى الإلحاقِ مِن الصَّلاحيةِ للفَورِ والتَّأخيرِ؛ فقدْ يكونُ ذلك الإلحاقُ بعْدَ إجراءِ عِقابٍ على بَعضِ الذُّرِّيَّةِ استَحقُّوه بسَيِّئاتِهم على ما في الأعمالِ مِن تَفاوتٍ في استحقاقِ العِقابِ، واللهُ أعلَمُ بمُرادِه مِن عِبادِه. وأيضًا ففِعلُ الإلحاقِ يَقْتضي أنَّ الذُّرِّيَّاتِ صاروا في دَرَجاتِ آبائِهم [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/50). .
- قولُه: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ، أي: وما نقَصْناهم، والمعْنى: أنَّ اللهَ ألْحَقَ بهم ذُرِّيَّاتِهم في الدَّرَجةِ في الجنَّةِ فضْلًا منه على الَّذين آمَنوا دُونَ عِوَضٍ؛ احتِراسًا مِن أنْ يَحسَبوا أنَّ إلْحاقَ ذُرِّيَّاتِهم بهمْ بعْدَ عطاءِ نَصيبٍ مِن حَسناتِهم لذُرِّيَّاتِهم ليَدخُلوا به الجنَّةَ، على ما هو مُتعارَفٌ عِندَهم في فكِّ الأسيرِ، وحَمالةِ الدِّيَاتِ، وخَلاصِ الغارِمينَ، وعلى ما هو مَعروفٌ في الانتِصافِ مِن المظلومِ للظَّالِمِ بالأخْذِ مِن حَسَناتِه وإعطائِها للمَظلومِ، وهو كِنايةٌ عن عَدَمِ انتقاصِ حُظوظِهم مِن الجَزاءِ على الأعمالِ الصَّالحةِ [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/50، 51). .
- ومِنْ عَمَلِهِمْ مُتعلِّقٌ بـ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ، و(مِن) للتَّبعيضِ، و(مِن) الَّتي في قولِه: مِنْ شَيْءٍ لتَوكيدِ النفْيِ، وإفادةِ الإحاطةِ والشُّمولِ للنَّكرةِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/51). .
- قولُه: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ وبيْن جُملةِ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ [الطور: 22]؛ قيل: قُصِدَ منها تَعليلُ الجُملةِ الَّتي قبْلَها، وهي بما فيها مِن العُمومِ صالِحةٌ للتَّذييلِ مع التَّعليلِ [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/51). .
- وفي هذا التَّعليلِ كِنايتانِ؛ إحْداهما: أنَّ أهْلَ الكفْرِ مَقرونونَ بجَزاءِ أعمالِهم. وثانيَتُهما: أنَّ ذُرِّيَّاتِ المؤمنينَ الَّذين أُلْحِقوا بآبائِهم في النَّعيمِ، أُلْحِقوا بالجنَّةِ كَرامةً لآبائِهم، ولولا تلك الكرامةُ لَكانت مُعاملتُهم على حسَبِ أعمالِهم، وبهذا كان لهذه الجُملةِ هنا وقْعٌ أشدُّ حُسْنًا ممَّا سِواهُ، مع أنَّها صارتْ مِن حُسْنِ التَّتميمِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/51). .