موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيتان (28-29)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

مُسْرِفٌ: السَّرَفُ: تجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعَلُه الإنسانُ، وأصلُ (سرف): تعدِّي الحَدِّ [464] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /153)، ((المفردات)) للراغب (ص: 407)، ((تفسير القرطبي)) (15/313)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131). .
بَأْسِ اللَّهِ: أي: عذابِه، وأصْلُ (بأس): الشِّدَّةُ وما شابَهها [465] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 263)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((المفردات)) للراغب (ص: 153)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 108)، ((تفسير القرطبي)) (15/310)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالَى: وقال رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِن قَومِ فِرعَونَ يُسِرُّ إيمانَه باللهِ: أتَقتُلونَ موسى مِن أجْلِ قَولِه: رَبِّيَ اللهُ، وقد جاءَكم بالدَّلائِلِ الواضِحةِ مِن رَبِّكم؟! وإنْ كان كاذِبًا في دَعواه فعليه ضَرَرُ كَذِبِه، وإنْ كان صادِقًا في دَعواه فكَذَّبتُموه يُصِبْكم بَعضُ ما يَعِدُكم ويُهدِّدُكم به مِنَ العُقوباتِ، إنَّ اللهَ لا يَهدي مَن هو مُتجاوِزٌ للحَدِّ، كذَّابٌ.
يا قَومِ لكم الغَلَبةُ والسُّلطانُ اليومَ في أرضِ مِصرَ؛ فمَن يَدفَعُ عنَّا عذابَ اللهِ إنْ حَلَّ بنا؟! قال فِرعَونُ: ما أُشيرُ عليكم إلَّا بما أعتقدُه، وأرَى أنَّه هو الحقُّ والصوابُ، وما أدعوكم إلَّا إلى طريقِ الحَقِّ والسَّدادِ!

تفسير الآيتين:

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا حكَى عن موسى عليه السَّلامُ أنَّه ما زاد في دَفْعِ مَكْرِ فِرعَونَ وشَرِّه على الاستِعاذةِ باللهِ؛ بيَّنَ أنَّه تعالَى قيَّضَ إنسانًا آخَرَ غيرَ موسى حتى ذَبَّ عنه على أحسَنِ الوُجوهِ، وبالغَ في تَسكينِ تلك الفِتنةِ، واجتهَدَ في إزالةِ ذلك الشَّرِّ [466] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/508). .
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ.
أي: وقال رجُلٌ مُؤمِنٌ مِن قَومِ فِرعَونَ يُخفي عنهم إيمانَه باللهِ وبنُبُوَّةِ موسى: كيفَ تستَحِلُّون قتْلَ موسَى مِن أجْلِ قَولِه: رَبِّيَ اللهُ ؟! فاقبَلوا قَولَه أو ارفُضوه؛ فإنَّه لا ذنْبَ له يَستحِقُّ به القتلَ [467] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/311، 312)، ((تفسير القرطبي)) (15/307)، ((تفسير ابن كثير)) (7/140)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/129)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/383، 384). .
عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ، قال: ((سألتُ عبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو عن أشَدِّ ما صنَعَ المُشرِكونَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قال: رأيتُ عُقبةَ بنَ أبي مُعَيطٍ جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يُصَلِّي، فوضَعَ رِداءَه في عُنُقِه فخَنَقَه به خَنقًا شديدًا، فجاء أبو بكرٍ حتَّى دفَعَه عنه، فقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟!)) [468] رواه البخاريُّ (3678). .
وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: ولم يكُنْ قولُه أيضًا مجرَّدًا عن البيِّناتِ؛ فقد جاءَكم بالدَّلائِلِ الواضِحاتِ، فلِمَ تَستحِلُّونَ قَتْلَه [469] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/312)، ((تفسير ابن كثير)) (7/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/129)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 241). ؟!
وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ.
أي: وإنْ كان موسى كاذِبًا في دعواه فإنَّما يَعودُ ضَرَرُ كَذِبِه عليه، وليسَ عليكم في ذلِك ضَرَرٌ [470] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/312)، ((تفسير ابن كثير)) (7/141)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/130)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 241). .
وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ.
أي: وإنْ كان موسى صادِقًا في دعواه فكذَّبتُموه، فلا بُدَّ أن يُصيبَكم بَعضُ ما يَعِدُكم ويَتهدَّدُكم به مِن العُقوباتِ؛ فلا حاجةَ لكم -إذَنْ- إلى قَتْلِه [471] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/312، 313)، ((تفسير ابن كثير)) (7/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بـ يَعِدُكُمْ: العذابُ الذي توعَّدهم به موسى عليه السَّلامُ: مقاتل بن سليمان، وابن جرير، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة، ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/711). وقيل: المرادُ العُمومُ؛ فهو يَشمَلُ ما وعَدَهم مِن الخيرِ إنْ وافَقوه، وما وعدَهم مِنَ الشَّرِّ إنْ خالَفوه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/55). !
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ.
أي: إنَّ اللهَ لا يَهدي للحَقِّ مَن هو مُظهِرٌ للفَسادِ، مُتجاوِزٌ للحَدِّ، مُفتَرٍ للكَذِبِ [472] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/313)، ((تفسير القرطبي)) (15/308)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737). قال الشوكانيُّ: (هذا مِن تمامِ كلامِ الرَّجُلِ المؤمِنِ، وهو احتِجاجٌ آخَرُ ذو وَجهَينِ: أحدُهما: أنَّه لو كان مُسرِفًا كذَّابًا لَما هداه اللهُ إلى البيِّناتِ، ولا أيَّده بالمُعجِزاتِ. وثانيهما: أنَّه إذا كان كذلك خذَلَه اللهُ وأهلَكَه، فلا حاجةَ لكم إلى قَتْلِه). ((تفسير الشوكاني)) (4/561). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/141)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 242-243). .
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ مُؤمِنَ آلِ فِرعَونَ لَمَّا أقام أنواعَ الدَّلائِلِ على أنَّه لا يجوزُ الإقدامُ على قَتلِ موسى؛ خوَّفَهم في ذلك بعَذابِ اللهِ [473] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/511). .
وأيضًا لَمَّا توسَّمَ نُهوضَ حُجَّتِه بيْنَهم، وأنَّها داخَلَت نُفوسَهم، أَمِن بأْسَهم، وانتهَزَ فُرصةَ انكسارِ قُلوبِهم، فصارَحَهم بمَقصودِه مِن الإيمانِ بمُوسى؛ على سَننِ الخُطباءِ وأهْلِ الجدَلِ بعْدَ تَقريرِ المقدِّماتِ والحُجَجِ أنْ يَهْجُموا على الغرَضِ المقصودِ، فوعَظَهم بهذه الموعظةِ [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/131-132). .
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ.
أي: يا قَومِ لكم الغَلَبةُ والسُّلطانُ اليومَ في أرضِ مِصرَ، والعُلُوُّ على أهلِها [475] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/314)، ((تفسير القرطبي)) (15/310)، ((تفسير ابن كثير)) (7/142)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/57)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 248-249). .
فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا.
أي: فمَن يَدفَعُ عنَّا عذابَ اللهِ إنْ حَلَّ بنا؟! فقُوَّتُنا لنْ تنفَعَنا شَيئًا إنْ جاءَتْنا عُقوبةُ اللهِ [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/314)، ((تفسير القرطبي)) (15/310)، ((تفسير ابن كثير)) (7/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737). قال القُرطبي: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا أي: مِن عذابِ اللهِ؛ تحذيرًا لهم مِن نِقَمِه إنْ كان موسى صادقًا، فذكَّر وحذَّر، فعلِم فِرعَونُ ظُهورَ حُجَّتِه، فقال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) ((تفسير القرطبي)) (15/310). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/557)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/58). .
قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى.
أي: قال فِرعَونُ: ما أُشيرُ عليكم ولا أقولُ لكم إلَّا ما أعتقدُه، وأرَى أنَّه هو الحَقُّ والصَّوابُ، فلا أُظهرُ لكم شيئًا خِلافَ ما أُبطنُه [477] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/314)، ((تفسير ابن كثير)) (7/142)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/133)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/385)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 249). !
وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ.
أي: وما أدْعوكم إلَّا إلى طَريقِ الحَقِّ والسَّدادِ [478] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/314)، ((تفسير القرطبي)) (15/310)، ((تفسير ابن كثير)) (7/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/133)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 250). قال الشنقيطيُّ: (كان غَرَضُ فِرعَونَ بهذا الكَذِبِ التَّدليسَ والتَّمويهَ؛ لِيَظُنَّ جَهَلةُ قَومِه أنَّ معه الحَقَّ). ((أضواء البيان)) (6/386). !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا مُراعاةُ الخَصمِ فيما يُؤَلِّفُه ويُقَرِّبُه؛ لأنَّه بدَأَ بما كانوا يَعتَقِدونَ، وهو كَذِبُ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فبدَأَ بالكَذِبِ قبلَ أنْ يَبدَأَ بالصِّدقِ؛ مِن أجْلِ تأليفِهم؛ ولم يَبدَأْ بالصِّدقِ الذي هو أحدُ الاحتِمالَينِ [479] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:246). ، تلَطُّفًا في الاستِكفافِ -أي: طلَبِ الكَفِّ عن موسى عليه السَّلامُ-، واستِنزالًا عن الأذَى، فلمْ يكُنْ ذلك لشَكٍّ منه في رِسالتِه وصِدقِه [480] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/153). .
2- في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، وقولِه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر: 34] إشارةٌ إلى أنَّ الإصرارَ على المعاصي، والكَذبَ، والارتيابَ في الدِّين قدْ يكونُ سببًا لسَدِّ أبوابِ الهِدايةِ عن العَبدِ، بخِلافِ الطَّاعةِ فإنَّها تَفتَحُ بابَ الهُدَى؛ لأنَّها شُكرٌ، وقدْ قال تعالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] ، والنِّعمةُ قَيْدُها شُكرُها، وفي كُفرانِها تعريضٌ لها للزَّوالِ، وذلك إنَّما أوردَه مؤمنُ آلِ فِرعونَ على سَبيلِ النَّصيحةِ لهم والتَّحذيرِ، وهو مِن الحِكَمِ البالِغةِ، وفيه أنَّ مِن أحوالِ الصِّدِّيقينَ النُّطقَ بالحِكمةِ [481] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (4/102). .
3- قولُه: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيه حُسْنُ احترازِ هذا الرَّجُلِ المؤمنِ؛ فقال: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ يعني: وأمَّا في المستقبلِ فقد يَزُولُ مُلْكُكم؛ لكنِ اشكُروا النِّعمةَ الحاضِرةَ، وذِكْرُ حُسْنِ خَطابةِ هذا الرَّجُلِ أو احترازاتِه أو ما أشبهَ ذلك؛ ليس معناه الإخبارَ عن قِصَّةٍ مَضَتْ وتاريخٍ مَضَى! لا، وإنَّما مِن أجْلِ أخْذِ العِبرةِ والسَّيْرِ عليها؛ لأنَّ الثَّناءَ على هذا الرَّجُلِ بخِطابِه ومُعالجتِه للأُمورِ يعني الحَثَّ على اتِّباعِ طريقِه [482] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:251). .
4- قولُه: فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا فيه التَّلَطُّفُ بالخِطابِ حتى يُشعِرَ الإنسانَ المخاطَبَ وكأنَّه هو أوَّلُ مَن يُرادُ بهذا الأمرِ أو بهذا الخِطابِ؛ فقال: فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ولم يَقُلْ: فمَن يَنصرُكم مِن بأسِ اللهِ إنْ جاءَكم! كلُّ هذا مِن بابِ التَّنَزُّلِ مع هؤلاء؛ وإشعارِهم بأنَّه واحدٌ منهم [483] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:254). ، فأدرَجَ نَفْسَه فيهم عندَ ذِكرِ الشَّرِّ بعدَ إفرادِه لهم بالمُلْكِ؛ إبعادًا للتُّهمةِ [484] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/57). ، وتَطْييبًا لِقُلوبِهم، وإيذانًا بأنَّه مُناصِحٌ لهم، ساعٍ في تَحصيلِ ما يُجْديهم، ودَفْعِ ما يُرْدِيهم سَعْيَه في حَقِّ نفْسِه؛ لِيتأثَّروا بنُصْحِه، ولِيُرِيَهم أنَّه يأبَى لِقَومِه ما يَأْباه لِنَفسِه، وأنَّ المصيبةَ إنْ حلَّتْ لا تُصِيبُ بعْضَهم دونَ بعضٍ [485] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/164)، ((تفسير البيضاوي)) (5/56)، ((تفسير أبي حيان)) (9/254)، ((تفسير أبي السعود)) (7/275)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/132). ذكَر ابنُ عثيمين أنَّه قد يُقالُ: إنَّ في هذا إشارةً إلى أنَّ العذابَ إذا نَزَلَ يَعُمُّ الصالحَ والفاسدَ؛ ويكونُ قولُه: فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا يُرادُ به حقيقتُه، أي: أنَّه هو سيُصيبُه ما أصابَهم، وشاهِدُه قولُ اللهِ تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] ، ثم قال: (وهذا ليس ببعيدٍ). يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:255). .
5- في قولِه: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر: 29] إشارةٌ إلى أنَّ مِن شأنِ الصِّدِّيقينَ التَّذكرةَ بالنِّعمِ، وأنَّها يَنبغي أنْ تُعرَفَ وتُشكَرَ، ولا تُكفَرَ؛ لتدومَ، أو لتُحمدَ عواقِبُها، والتحذيرَ مِن الاغترارِ بالمُلكِ، والحولِ والقوَّةِ، والظهورِ والغَلبةِ حَذرًا مِن غِبِّ ذلك [486] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (4/101). .
6- في خِطابِ مُؤمِنِ آلِ فِرعونَ: أنَّ مِن شأنِ الصِّدِّيقينَ النَّصيحةَ، والنُّصرةَ للدِّينِ والحقِّ، ولأولياءِ اللهِ تعالَى، والأمْرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المُنكَرِ، والأخْذَ بيَدِ المظلومِ، والتَّلطُّفَ في الإنكارِ على الظالمِ إذا كان ذا شَوكةٍ وغَلبةٍ، والتأنُّقَ في الاحتِيالِ للتخليصِ منه، ومُناظرتَه في أثناءِ ذلك على ألْطَفِ الوُجوهِ وأَوْضَحِها في بَيانِ الحقِّ والإلزامِ [487] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (4/101). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، فيه أنَّ اللهَ يُقيِّضُ لعِبادِه الصَّالحينَ حُماةً عِندَ الشَّدائدِ [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/129). .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ فيه جَوازُ إخفاءِ الإيمانِ إذا خاف الإنسانُ على نَفسِه؛ لِقَولِه: يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، ولكِنْ إذا كان الإنسانُ لا يَستطيعُ أن يَعيشَ مُؤمِنًا إلَّا بالكِتمانِ؛ فإنَّه في دِينِ الإسلامِ تَجِبُ عليه الهِجرةُ، ولكِنْ بشَرطِ أنْ يكونَ قادِرًا عليها، فإنْ كان عاجِزًا فإنَّ اللهَ تعالَى قال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [489] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:243). [النساء: 98، 99].
3- قَولُه تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ... فيه استِدراجُ المُخاطَبِ؛ وذلك أنَّه لَمَّا رأى فِرعَونَ قد عزَمَ على قَتلِ موسى، والقَومَ على تَكذيبِه؛ أراد الانتِصارَ له بطَريقٍ يُخفي عليهم بها أنَّه مِن أتْباعِه، فجاءَهم مِن طَريقِ النُّصحِ والملاطَفةِ، فقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، ولم يذكُرِ اسمَه، بلْ قال: رَجُلًا يُوهِمُ أنَّه لا يَعرِفُه ولا يُدافِعُ عنه، أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، ولم يَقُلْ: (رجُلًا مُؤمِنًا باللهِ)، أو (هو نَبيُّ الله)؛ إذ لو قال شيئًا مِن ذلك لعَلِموا أنَّه مِن أتْباعِه، ولم يَقبَلوا قَولَه؛ ثمَّ أتْبَعَه بما بعدَ ذلك، فقَدَّمَ قَولَه: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا؛ مُوافَقةً لِرَأيهم فيه، ثمَّ تلاه بقَولِه: وَإِنْ يَكُ صَادِقًا، ولو قال: هو صادِقٌ في كُلِّ ما يَعِدُكم لعَلِموا أنَّه مِن أتْباعِه، وأنَّه يَزعُمُ أنَّه نبيٌّ، وأنَّه يُصَدِّقُه؛ فإنَّ الأنبياءَ لا تُخِلُّ بشَيءٍ ممَّا يَقولونَه؛ ثمَّ أتبَعَه بكَلامٍ يُفهَمُ منه أنَّه ليس بمُصَدِّقٍ، وهو قَولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [490] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/253). .
4- قولُه: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ فيه الإنكارُ على مَن عَمِلَ عمَلًا بدونِ سَببٍ يَقتضيه؛ وقولُ الإنسان: رَبِّيَ اللَّهُ ليس سَببًا للقتْلِ! بلْ على الأقلِّ يُتْرَكُ وشأنَه، أمَّا أنْ يُقْتَلَ لهذا السَّببِ، فإنَّ هذا مُنْكَرٌ، ولا يجوزُ إقرارُه [491] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 244). .
5- قَولُه: وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فيه سُؤالٌ: يَسبِقُ إلى الذِّهنِ في هذه الآيةِ تَوهُّمُ المنافاةِ بيْنَ الشَّرطِ والجزاءِ في البَعضِ؛ لأنَّ المناسِبَ لاشتراطِ الصِّدقِ هو أنْ يُصيبَهم جَميعُ الذي يَعِدُهم لا بَعضُه، مع أنَّه تعالَى لم يَقُل: (وإن يكُ صادِقًا يُصِبْكم كلُّ الذي يَعِدُكم)!
الجواب من وجوه:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المرادَ بالبَعضِ الذي يُصيبُهم هو: البَعضُ العاجِلُ الذي هو عذابُ الدُّنيا؛ لأنَّهم أشَدُّ خَوفًا مِن العذابِ العاجِلِ، ولأنَّهم أقرَبُ إلى التَّصديقِ بعذابِ الدُّنيا منهم بعذابِ الآخِرةِ [492] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (9/202-203). ، وتكونُ (بعض) باقيةً على مَعناها؛ لأنَّه وعَدَهم على كُفْرِهم الهلاكَ في الدُّنيا، والعذابَ في الآخرةِ؛ فهلاكُهم في الدُّنيا بعضُ ما وعَدَهم به [493] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/162، 163)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 500، 501)، ((تفسير القاسمي)) (8/307). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المعنى: إنْ يكُ صادِقًا فلا أقَلَّ مِن أن يُصيبَكم بعضُ الذي يَعِدُكم، وعلى هذا فالنُّكتةُ هي المُبالَغةُ في التَّحذيرِ؛ لأنَّه إذا حَذَّرهم مِن إصابةِ البَعضِ أفاد أنَّه مُهلِكٌ مَخُوفٌ، فما بالُ الكُلِّ؟! وفيه إظهارٌ لكَمالِ الإنصافِ، وعدَمِ التعَصُّبِ؛ ولذا قدَّم احتِمالَ كَونِه كاذِبًا.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ لَفظةَ (البعض) يُرادُ بها الكُلُّ؛ وعليه فمعنَى بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ: كُلُّ الذي يَعِدُكم [494] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (9/202-203). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ المعنى: وإنْ تَبَيَّنَ لكم صِدقُه يُصِبْكم بعضُ ما توعَّدَكم به، أي: تُصِبْكم بوارِقُه، فتَعلَموا صِدقَه فتَتَّبِعوه، وهذا وَجهُ التَّعبيرِ بـ(بعض) دونَ أن يقولَ: (يُصِبْكم الَّذي يَعِدُكم به) [495] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/130). .
الوَجهُ الخامس: أنَّه أثبَتَ أنَّه صادِقٌ في جَميعِ ما يَعِدُ، ولكنَّه أرْدَفَه يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ؛ لِيَهضِمَه بعضَ حَقِّه في ظاهِرِ الكلامِ، فيُريهم أنَّه ليس بكلامِ مَن أعطاه حَقَّه وافيًا، فضلًا أنْ يَتعصَّبَ له، أو فضْلًا عن أنْ يَذُبَّ عنه [496] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/163)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/500)، ((تفسير أبي حيان)) (9/252). .
6- قَولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فيه أنَّ الذي وَصْفُه السَّرَفُ والكَذِبُ لا يَنفَكُّ عنهما: لا يَهدِيه اللهُ، ولا يُوَفِّقُه للخيرِ؛ لأنَّه رَدَّ الحَقَّ بعْدَ أنْ وَصَل إليه وعَرَفه، فجزاؤُه أن يُعاقِبَه اللهُ بأنْ يمنَعَه الهُدى، كما قال تعالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [497] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:737). [البقرة: 258] .
7- قَولُه: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا أدخَلَ قَومَه في الخِطابِ فناداهم؛ لِيَستهويَهم إلى تَعضيدِه أمامَ فِرعَونَ، فلا يَجِدَ فِرعَونُ بُدًّا مِن الانصياعِ إلى اتِّفاقِهم وتَظاهُرِهم، وأيضًا فإنَّ تَشريكَ قَومِه في الموعِظةِ أدخَلُ في بابِ النَّصيحةِ [498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/132). .
8- قَولُه: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا المقصودُ: تخويفُ فِرعَونَ مِن زَوالِ مُلكِه، ولكِنَّه جَعَل المُلْكَ لِقَومِه؛ لِتَجنُّبِ مُواجَهةِ فِرعَونَ بفَرضِ زَوالِ مُلكِه [499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/132). ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ المُلكَ إنْ لم يَحُطْه صاحبُه بالعدلِ والإنصافِ، والكفِّ عن الجَورِ والانكفافِ، فهو مُتعرِّضٌ لزوالِ مُلكِه، بلْ لنزولِ هُلْكِه [500] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (7/277). .
9- قال تعالَى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ تفطَّنَ فِرْعونُ إلى أنَّه المعرَّضُ به في خِطابِ الرَّجلِ المؤمِنِ قومَه، فقاطَعَه كلامَه، وبيَّن سبَبَ عَزْمِه على قتْلِ مُوسى عليه السَّلامُ؛ بأنَّه ما عرَضَ عليهم ذلك إلَّا لأنَّه لا يَرى نفْعًا إلَّا في قتْلِ مُوسى، ولا يَستصوبُ غيرَ ذلك، ويَرى ذلك هو سَبيلَ الرَّشادِ، وكأنَّه أراد ألَّا يَترُكَ لِنَصيحةِ مُؤمنِهم مَدْخلًا إلى نُفوسِ مَلَئِه؛ خِيفةَ أنْ يَتأثَّروا بنُصْحِه، فلا يُساعِدوا فِرْعونَ على قتْلِ مُوسى [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/133). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
- قولُه: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ... قيل: عَطْفُ قولِ هذا الرَّجلِ يَقْتضي أنَّه قال قولَه هذا في غيرِ مَجلِسِ شُورى فِرعونَ؛ لأنَّه لو كان قولُه جاريًا مَجرَى المحاوَرةِ مع فِرعونَ في مَجلِسِ استشارتِه، أو كان أجابَ به عن قولِ فِرْعونَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى [غافر: 26] ؛ لكانتْ حِكايةُ قَولِه بدونِ عطْفٍ على طَريقةِ المُحاوراتِ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/127، 128). .
- وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أتَى بـ رَجُلًا النَّكرةِ؛ إبهامًا للأمْرِ، وشِدَّةً في إخفائِه، وإبعادًا للتُّهمةِ عن نفْسِه؛ لئلَّا يظُنَّ أحدٌ أنَّه كان يَعرِفُ مُوسى، وأنَّه يُدافِعُ عنه عن مَعرفةٍ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 242). .
- وأرادَ بقولِه: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا ... إلى آخِرِه أنْ يَسْعى لحِفْظِ مُوسى مِن القتْلِ بفَتْحِ بابِ المجادَلةِ في شأْنِه؛ لِتَشكيكِ فِرْعونَ في تَكذيبِه بمُوسى [504] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/128). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ استفهامُ إنكارٍ وتَبكيتٍ لهم، أي: يَقبُحُ بكم أنْ تَقتُلوا رجُلًا لأنَّه يقولُ: ربِّيَ اللهُ، أي: ولم يُجبِرْكم على أنْ تُؤمنوا به، ولكنَّه قال لكم قولًا، فاقْبَلوه أو ارْفُضوه، فهذا مَحمَلُ قولِه: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ الذي يَدلُّ على حصْرِ الرُّبوبيَّةِ في اللهِ سُبحانه [505] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/162)، ((تفسير البيضاوي)) (5/56)، ((تفسير أبي حيان)) (9/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/129)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/478). .
- وقولُه: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ مَجرورٌ بلامِ التَّعليلِ المُقدَّرةِ، والتقديرُ: لِأنْ يقولَ. وذكَرَ اسمَ (اللهِ)؛ لأنَّه الذي ذكَرَه مُوسى ولم يكُنْ مِن أسماءِ آلهةِ القِبْطِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/129). .
- قولُه: وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ارْتقاءٌ في الحِجاجِ بعْدَ أنِ استأْنَسَ في خِطابِ قَومِه بالكلامِ الموجَّهِ، فارْتَقى إلى التَّصريحِ بتَصديقِ مُوسى بعِلَّةِ أنَّه جاء بالبيِّناتِ، أي: الحُجَجِ الواضحةِ بصِدْقِه، وإلى التَّصريحِ بأنَّ الذي سمَّاه اللهُ في قولِه: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ هو ربُّ المخاطَبينَ فقال: مِنْ رَبِّكُمْ [507] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/129). .
- وفي قوله: مِنْ رَبِّكُمْ أضافَ الربَّ إليهم بعدَ ذِكرِ البيِّناتِ احتجاجًا عليهم، واستنزالًا لَهمُ عن رُتبةِ المكابرةِ، واستدراجًا لهم إلى الاعتِرافِ به، ثمَّ أخذَهُم بالاحتجاجِ مِن بابِ الاحتِياطِ فقالَ: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [508] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/56)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274). .
- قولُه: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ... الآيةَ، كلامٌ مُنصِفٌ؛ فقدِ استَدْرَجَهم هذا الرَّجلُ المؤمِنُ باستشهادِه على صِدْقِ مُوسى عليه السَّلامُ مِن عِندِ مَن تُنسَبُ إليه الرُّبوبيَّةُ ببيِّناتٍ عدَّةٍ لا ببيِّنةٍ واحدةٍ، وأتَى بها مَعرِفةً؛ لِيُليِّنَ بذلك جِماحَهم [509] الجَموحُ مِن الرِّجال: الذي يَركَبُ هواه فلا يُمكِن رَدُّه. وَيُقَالُ: جَمَحَ وطَمَحَ: إذا أَسْرَع ولَمْ يَرُدَّ وجهَه شيءٌ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/360)، ((لسان العرب)) لابن منظور (2/426). ، ويَكسِرَ مِن سَوْرتِهم -أي: سَطوتِهم واعتدائِهم-، ثم أخَذَهم بالاحتِجاجِ بطَريقِ التَّقسيمِ، فقال: لا يَخْلو أنْ يكونَ صادقًا أو كاذبًا؛ فإنْ يَكُ كاذبًا فضرَرُ كذِبِه عائدٌ عليه، أو صادِقًا فأنتم مُستهْدَفون لإصابتِكم ببَعضِ ما يَعِدُكم به، وهذا فيه مُبالَغةٌ في التَّحذيرِ، وإظهارٌ للإنصافِ وعدَمِ التَّعصُّبِ. وكذلك قدَّمَ الكاذِبَ على الصَّادقِ لهذا الغرَضِ، وزِيادةً في التَّباعُدِ عن ظنِّهم به الانتصارَ لِمُوسى، فأرادَ أنْ يَظهَرَ في مَظهَرِ المهتَمِّ بأمْرِ قَومِه ابتداءً [510] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/162)، ((تفسير البيضاوي)) (5/56)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/499)، ((تفسير أبي حيان)) (9/252، 253)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/130)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/480، 481). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يجوزُ أنَّها مِن قولِ مُؤمنِ آلِ فِرْعونَ، فالمقصودُ منها تَعليلُ قولِه: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، أي: لأنَّ اللهَ لا يُقِرُّه على كذِبِه؛ فإنْ كان كاذبًا على اللهِ، فلا يَلبَثُ أنْ يَفتضِحَ أمْرُه أو يُهلِكَه؛ لأنَّ اللهَ لا يُمهِلُ الكاذبَ عليه، ولأنَّه إذا جاءَكم بخَوارقِ العاداتِ فقدْ تبيَّنَ صِدْقُه؛ لأنَّ اللهَ لا يَخرِقُ العادةَ بعْدَ تَحدِّي المتحدِّي بها إلَّا لِيَجعَلَها أمارةً على أنَّه مُرسَلٌ منه؛ لأنَّ تَصديقَ الكاذبِ مُحالٌ على اللهِ تعالَى. ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةً مُعترِضةً بيْن كلاميْ مُؤمنِ آلِ فِرعونَ ليستْ مِن حِكايةِ كلامِه، وإنَّما هي قولٌ مِن جانبِ اللهِ في قُرآنِه، يُقصَدُ منها تَزكيةُ هذا الرَّجُلِ المؤمِنِ؛ إذ هداهُ اللهُ للحقِّ، وأنَّه تقِيٌّ صادقٌ؛ فيكونُ نفْيُ الهِدايةِ عن المسرِفِ الكذَّابِ كِنايةً عن تقْوى هذا الرَّجلِ وصِدْقِه؛ لأنَّه نطَقَ عن هدًى، واللهُ لا يُعْطي الهدَى مَن هو مُسرِفٌ كذَّابٌ [511] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/503)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/130، 131). .
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فيه إشارةٌ إلى عُلوِّ شأْنِ مُوسى عليه السَّلامُ، وأنَّ مَن اصطفاهُ اللهُ للنُّبوَّةِ لا يُمكِنُ أنْ يقَعَ منه إسرافٌ ولا كذِبٌ، وفيه تَعريضٌ بفِرْعونَ؛ إذ هو غايةُ الإسرافِ على نفْسِه بقتْلِ أبناءِ المؤمنينَ، وفي غايةِ الكذِبِ؛ إذ ادَّعى الإلهيَّةَ والرُّبوبيَّةَ، ومَن هذا شأْنُه لا يَهْديهِ اللهُ [512] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/253). .
- والمسْرِفُ: مُتجاوزُ المعروفِ في شَيءٍ؛ قيل: المُرادُ هنا مُسرِفٌ في الكذِبِ؛ لأنَّ أعظَمَ الكذِبِ أنْ يكونَ على اللهِ. وإذا كان المرادُ الإسرافَ في الكذِبِ، تعيَّنَ أنَّ قولَه: كَذَّابٌ عطْفُ بَيانٍ وليس خبَرًا ثانيًا؛ إذ ليس ثَمَّةَ إسرافٌ هنا غيرَ إسرافِ الكذِبِ [513] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/131). .
2- قولُه تعالَى: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ
- فيه حُسنُ تَرتيبٍ، حيثُ ابتدَأَ بنُصْحِ فِرعونَ لأنَّه الذي بيَدِه الأمْرُ والنَّهيُ، وثنَّى بنَصيحةِ الحاضرينَ مِن قَومِه؛ تَحذيرًا لهم مِن مَصائبَ تُصِيبُهم مِن جرَّاءِ امتثالِهم أمْرَ فِرْعونَ بقتْلِ مُوسى؛ فإنَّ ذلك يُهِمُّهم كما يُهِمُّ فِرْعونَ، ولا يَخْفى ما في نِدائهم بعُنوانِ أنَّهم قومُه مِن الاستصغاءِ لِنُصْحِه، وتَرقيقِ قُلوبِهم لِقَولِه [514] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/132). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (9/253، 254). .
- وابتدَأَ الموعظةَ بقولِه: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فناداهمْ بالمُلْكِ الذي هو أعظَمُ مَراتبِ الدُّنيا، ونسَبَ ما يسُرُّهم مِن المُلكِ والظُّهورِ في الأرضِ إليهم خاصَّةً، وهذا خِطابٌ مِن جِهةِ شَهواتِهم، وفيه تَذكيرٌ بنِعمةِ اللهِ عليهم، وتَمهيدٌ لِتَخويفِهم مِن غضَبِ اللهِ، يعني: لا تَغُرَّنَّكم عظَمَتُكم ومُلْكُكم؛ فإنَّهما مُعرَّضانِ للزَّوالِ إنْ غضِبَ اللهُ عليكم [515] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/254)، ((تفسير أبي السعود)) (7/275)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/132). .
- و(مَن) في قولِه: فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا للاستِفهامِ الإنكاريِّ عن كلِّ ناصرٍ؛ فالمعنَى: فلا نصْرَ لنا مِن بأْسِ اللهِ [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/132). .
- قولُه: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ لكونِ كلامِ فِرْعونَ صدَرَ مَصدرَ المقاطَعةِ لِكلامِ المؤمِنِ، جاء فِعلُ قَولِ فِرْعونَ مَفصولًا غيرَ مَعطوفٍ، وهي طريقةُ حِكايةِ المقاولاتِ والمحاوَرةِ [517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/132). .
- قولُه: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ إضافةُ السَّبيلِ إلى الرَّشادِ معناه أي: ما أَهْدِيكم وأُشِيرُ عليكم إلَّا بعمَلٍ فيه رَشادٌ، وكأنَّه يُعرِّضُ بأنَّ كلامَ مُؤمنِهم سَفاهةُ رأْيٍ، وأتَى بـ(ما - وإلَّا) للحصْرِ والتَّأكيدِ [518] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/133). .