موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
لآيات (33-37)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غَريبُ الكَلِماتِ :

ضُرٌّ: أي: فقرٌ وقحطٌ وسُوءُ حالٍ، وأشباهُ ذلك، وأصلُ (ضرر) هنا: خلافُ النَّفعِ [419] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 312)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/360)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 292)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 503). .
سُلْطَانًا: أي: حُجَّةً، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقَهرُ، مِنَ التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّيَ السُّلطانُ سُلطانًا [420] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724). .
يَقْنَطُونَ: أي: يَيْأسُونَ مِنَ الفَرَجِ، والقُنُوطُ هو: الإِياسُ مِن الخيرِ، وأصلُ (قنط): يدُلُّ على اليأْسِ مِنَ الشَّيءِ [421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/501)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/32)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (9/5691)، ((المفردات)) للراغب (ص: 685). .
يَبْسُطُ: أي: يُوسِّعُ ويُكثِّرُ، وأصلُ (بسط): امْتِدادُ الشَّيءِ [422] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/149)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/247). .
وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، يُقالُ: قَدَرْتُ عليه الشَّيءَ: إذا ضيَّقتَه، كأنَّما جعَلْتَه بقَدْرٍ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه [423] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 466)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 659)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 297). .

المَعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا أحوالَ النَّاسِ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ: وإذا أصاب النَّاسَ ضُرٌّ ما، كمَرَضٍ في أبدانِهم، أو قِلَّةٍ في أموالِهم؛ أخلَصوا الدُّعاءَ لله تائِبينَ مِنَ الشِّركِ؛ لعِلمِهم أنَّه لا يَكشِفُ الضُّرَّ غيرُه سُبحانَه، ثمَّ إذا رَحِمَهم اللهُ فكشَفَ ما أصابَهم مِن الضُّرِّ، وأكرَمَهم بعافيةٍ أو سَعةِ رِزقٍ؛ إذا جماعةٌ منهم يُشرِكونَ مع اللهِ غيرَه؛ لِيَكفُروا بما أعطَيْناهم مِن النِّعَمِ، فتمَتَّعوا -أيُّها المُشرِكونَ- فسوف تَعلَمونَ ما يُصيبُكم مِنَ العذابِ يومَ القيامةِ! فهل أنزَلْنا على هؤلاءِ المُشرِكينَ حُجَّةً ظاهِرةً بصِحَّةِ شِركِهم، حتَّى يَثبتُوا على شِركِهم؟!
وإذا أصَبْنا النَّاسَ برَحمةٍ مِنَّا فَرِحوا بها، وإن تُصِبْهم حالٌ سَيِّئةٌ بسَبَبِ ذُنوبِهم إذا هم يَيئَسونَ مِن رَحمةِ اللهِ وفَرَجِه، أوَلم يَرَوا أنَّ اللهَ يُوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ، ويُضَيِّقُه على مَن يَشاءُ؟ إنَّ في ذلك لَدَلائِلَ للمُؤمِنينَ يَستدِلُّونَ بها على رَحمةِ اللهِ وحِكمتِه.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى التَّوحيدَ بالدَّليلِ وبالمَثَلِ؛ بيَّنَ أنَّ لهم حالةً يُعرَفونَ بها، وإن كانوا يُنكِرونَها في وقتٍ، وهي حالةُ الشِّدَّةِ [424] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/100). .
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ.
أي: وإذا أصاب النَّاسَ ضَرَرٌ، كمَرَضٍ في أبدانِهم، أو قِلَّةٍ في أموالِهم، أو قَحطٍ وشِدَّةٍ في مَعيشتِهم؛ أخلَصوا الدُّعاءَ للهِ مُقبِلينَ عليه وَحْدَه، تائِبينَ مِنَ الشِّركِ؛ لِعِلْمِهم أنَّه لا يَكشِفُ الضُرَّ إلَّا اللهُ [425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/499)، ((تفسير القرطبي)) (14/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/97)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 202، 203). .
كما قال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] .
ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.
أي: ثمَّ إذا رَحِمَهم اللهُ فكَشَفَ ما أصابَهم مِنَ الضُّرِّ، وأصابَهم بنِعمةٍ منه، كعافيةٍ أو سَعةِ رزقٍ وغيرِ ذلك؛ إذا جماعةٌ منهم يُبادِرونَ بنَقضِ تلك الإنابةِ الصَّادرةِ منهم، فيُشرِكونَ معه غَيرَه في عبادتِه، ولا يَشكُرونَه على نِعَمِه [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/499)، ((تفسير القرطبي)) (14/33)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641). !
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34).
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ.
أي: يُشرِكونَ لِيَكفُروا [427] قال ابن كثير: (قَولُه: لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ اللَّامُ هي لامُ العاقبةِ عند بَعضِهم، ولامُ التَّعليلِ عندَ آخَرينَ، ولكنَّها تعليلٌ لِتَقييضِ اللهِ لهم ذلك). ((تفسير ابن كثير)) (6/317). ومِمَّن قال بأنَّها للعاقبةِ: السمعانيُّ، والبيضاوي، وأبو السعود، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/179) (4/214)، ((تفسير البيضاوي)) (4/207)، ((تفسير أبي السعود)) (7/61)، ((تفسير القاسمي)) (8/15)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 205). وممَّن اختار أنَّها لامُ كَيْ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ عطية، والنسفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/414)، ((تفسير ابن عطية)) (4/337)، ((تفسير النسفي)) (2/701)، ((تفسير الشوكاني)) (4/260). وقيل: يجوزُ أن تكونَ لامَ الأمرِ، ومعناه التَّهديدُ، نحو: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] . وممَّن اختاره: مكِّي، وابنُ الجوزي، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5690)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/413، 424)، ((تفسير ابن جزي)) (1/428، 429) و(2/134). ويُنظر أيضًا: ((الدر المصون)) للحلبي (9/46). بما [428] قيل: المعنى: أنَّهم يَكفرون بهذا الَّذي آتَيْناهم، فيَجحَدونه ولا يَشكُرونه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/499)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). وقيل: الباءُ للسَّببيَّةِ، أي: لِيَكفُروا بسَببِ ما آتَيْناهم مِنَ الرَّحمةِ، والإنقاذِ مِنَ الشِّدَّةِ، فصار ذلك سببًا لِكُفرِهم. ذكَرَ هذا المعنى احتمالًا: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 205). أعطَيْناهم مِنَ النِّعَمِ، وصَرَفْنا عنهم مِنَ النِّقَمِ [429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/499)، ((تفسير ابن كثير)) (6/317)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). !
فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
أي: فتمَتَّعوا -أيُّها المُشرِكونَ- مُدَّةَ حياتِكم بما أعطاكم اللهُ مِنَ النِّعَمِ، فسوفَ تَعلَمونَ ما ستَلقَونَه مِنَ العذابِ يومَ القيامةِ [430] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/499، 500)، ((تفسير السمرقندي)) (3/12)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 205، 206). .
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35).
أي: فهل أنزَلْنا على المُشرِكينَ حُجَّةً ظاهِرةً تَشهَدُ بصِحَّةِ شِركِهم، حتَّى يُوجِبَ لهم ذلك شِدَّةَ التَّشَبُّثِ بالشِّركِ [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/500)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/316)، ((تفسير ابن كثير)) (6/317)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/99)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 206-208). ؟!
كما قال تعالى: أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الصافات: 156، 157].
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36).
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا.
أي: وإذا أصَبْنا النَّاسَ برَحمةٍ، كحُصولِ الخِصْبِ والعافيةِ، فَرِحوا بذلك [432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/501)، ((تفسير القرطبي)) (14/34)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642). قيل: المرادُ بقولِه: فَرِحُوا بِهَا: أي فَرَحَ بَطَرٍ بلا شُكرٍ لله على رحمتِه. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ كثير، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/317)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642). وقيل: الفرَحُ هنا وَصفٌ لحالِ النَّاسِ عندَما تُصيبُهم الرحمةُ؛ لِيُبنى عليه ضِدُّه في قَولِه: إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ؛ لِما يَقتَضيه القُنوطُ مِن التَّذَمُّرِ والغَضَبِ. والمعنى: أنَّهم كما يَفرَحونَ عندَ الرَّحمةِ، ولا يخطُرُ ببالِهم زوالُها، ولا يحزَنونَ مِن خَشيتِه؛ فكذلك ينبغي أن يَصبِروا عندَما يمَسُّهم الضُّرُّ، ولا يَقنَطوا مِن زوالِه؛ لأنَّ قُنوطَهم مِن زوالِه غيرُ جارٍ على قياسِ حالِهم عندَما تُصيبُهم رَحمةٌ حينَ لا يَتوقَّعونَ زوالَها. قاله: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/100). قال ابن عاشور: (فليس في الكلامِ تَعريضٌ بإنكارِ الفَرَحِ حتَّى نُضطرَّ إلى تفسيرِ الفَرَح بالبَطَرِ ونحوِه؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهِرِ بلا داعٍ... فالقُنوطُ هو محلُّ الإنكارِ عليهم، وهذا كقَولِه تعالى: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ [فصلت: 49]). ((تفسير ابن عاشور)) (21/100). .
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ.
أي: وإنْ تُصِبْهم حالٌ تَسوؤُهم -كقِلَّةٍ في أموالِهم، أو شِدَّةٍ في مَعيشَتِهم- بسَبَبِ ذُنوبِهم، أصابَهم يأسٌ شديدٌ مِن حُصولِ الرَّحمةِ والفَرَجِ، وزَوالِ تلك الحالِ [433] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/501)، ((تفسير القرطبي)) (14/34)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 214، 215). .
كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37).
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.
أي: أوَلم يَرَ هؤلاءِ الَّذين يَفرَحونَ عندَ الرَّخاءِ، ويَيئَسونَ عندَ الشِّدَّةِ أنَّ اللهَ يُوَسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ، ويُضَيِّقُه على مَن يَشاءُ؟ فهو وَحْدَه المتصَرِّفُ في عبادِه بحِكمتِه؛ فيُغْني مَن يَشاءُ، ويُفقِرُ مَن يَشاءُ [434] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/501)، ((تفسير القرطبي)) (14/35)، ((تفسير ابن كثير)) (6/318). !
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّ في تَوسيعِ اللهِ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وتَضييقِه على مَن يَشاءُ لَدَلائِلَ وعَلاماتٍ للمُؤمِنينَ، يَستَدِلُّونَ بها على رَحمةِ اللهِ وحِكمتِه، وكَمالِ قُدرتِه، وغَيرِ ذلك [435] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/502)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/97، 98)، ((البحر المديد)) لابن عجيبة (4/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/101، 102)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 221). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فينبغي للعبدِ أن يَعبُدَ اللهَ في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، وألَّا يكونَ مِمَّن يَعبُدونَ اللهَ للدُّنيا، فإذا آتاهم رَضُوا، وإذا منَعَهم سَخِطوا وقَنَطوا [436] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/101). !
2- قال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ فالقُنوطُ بعدَما عُلِمَ أنَّ الخيرَ والشَّرَّ مِنَ اللهِ، والرِّزقَ -سَعَتَه وضِيقَه- مِن تقديرِه: ضائِعٌ ليس له مَحَلٌّ، فلا تَنظُرْ أيُّها العاقِلُ لمُجَرَّدِ الأسبابِ، بل اجعَلْ نَظَرَك لِمُسَبِّبِها؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فهم الذين يَعتَبِرونَ بَسْطَ اللهِ لِمَن يَشاءُ وقَبْضَه، ويَعرِفونَ بذلك حِكمةَ اللهِ ورَحمَتَه، وَجُودَه وجَذْبَ القُلوبِ لِسُؤالِه في جميعِ مَطالِبِ الرِّزقِ [437] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 642). . فالمُحَقِّقُ ينبغي ألَّا يكونَ نَظَرُه على ما يُوجَدُ، بل إلى مَن يُوجِدُ، وهو اللهُ تعالى [438] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/102). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ دَليلٌ على أنَّ مَعرِفةَ الرَّبِّ في فِطرةِ كُلِّ إنسانٍ، وأنَّهم إن غَفَلوا في السَّرَّاءِ، فلا شَكَّ أنَّهم يَلوذونَ إليه في حالِ الضَّرَّاءِ [439] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/92). ، فطبيعةُ الإنسانِ عندَ الضَّرَّاءِ اللُّجوءُ إلى رَبِّه، ويتفَرَّعُ على هذا أنَّ أولئك الَّذين إذا مَسَّهم الضُّرُّ لجَؤوا إلى غيرِ اللهِ، أنَّهم خالَفوا جميعَ فِطَرِ البَشَرِ [440] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 203). !
2- في قَولِه تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديدٌ للكافِرينَ، وأنَّ انبِساطَهم بنِعَمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى ضَرَرٌ عليهم؛ لِقَولِه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [441] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 208). .
3- في قَولِه تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أنَّ مَن صَنَعَ شيئًا بدَليلٍ صحيحٍ فلا لَومَ عليه؛ يُؤخَذُ ذلك مِن قَولِه تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا، يعني: لو كان لهم سُلطانٌ لا نَلومُهم ولا نُعَذِّبُهم [442] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 209). .
4- في قَولِه تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أنَّ المجتَهِدَ المتأوِّلَ لا إثمَ عليه؛ لاعتِمادِه في اجتِهادِه على دَليلٍ [443] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 209). .
5- قَولُ الله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ قَولُه: فَهُوَ يَتَكَلَّمُ فيه معنًى لطيفٌ، وهو: أنَّ المتكَلِّمَ مِن غَيرِ دَليلٍ، كأنَّه لا كلامَ له؛ لأنَّ الكلامَ هو المسموعُ، وما لا يُقبَلُ فكأنَّه لم يُسمَعْ، فكأنَّ المتكَلِّمَ لم يتكَلَّمْ به، وما لا دليلَ عليه لا يُقبَلُ، فإذا جاز سَلْبُ الكلامِ عن المتكَلِّمِ عندَ عدَمِ الدَّليلِ وحَسُنَ، جاز إثباتُ التكَلُّمِ للدَّليلِ وحَسُنَ [444] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/101). .
6- قال تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ فيه أنَّه لا بُدَّ أنْ يكونَ السُّلطانُ أو الحُجَّةُ الَّتي يحتَجُّونَ بها واضِحةً؛ لِقَولِه تعالى: فَهُوَ يَتَكَلَّمُ، والتَّعبيرُ بالكَلامِ هو أوضَحُ ما يكونُ مِن الإظهارِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 210). .
7- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ لم يَذكُرْ عند النِّعمةِ سَببًا لها؛ لتفَضُّلِه بها، وذَكَر عندَ العَذابِ سَبَبًا؛ لأنَّ الأوَّلَ يَزيدُ في الإحسانِ، والثَّانيَ يُحَقِّقُ العَدلَ [446] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/101). .
8- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ فيه أنَّ المصائِبَ مُسَبَّبةٌ عن الذُّنوبِ [447] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/95). .
9- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي: مِن المُخالَفاتِ، وأسنَدَه إلى اليَدِ؛ لأنَّ أكثَرَ العَمَلِ بها [448] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/95). .
10- في قَولِه تعالى: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ دَلالةٌ على إثباتِ الاختيارِ للبَشَرِ، فيكونُ في ذلك رَدٌّ لِقَولِ الجَبريَّةِ الَّذين يَقولونَ: «إنَّ الإنسانَ ليس له اختيارٌ في العملِ» [449] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 218). !

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
- قولُه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ عطْفٌ على جُملةِ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الروم: 32] ، أي: فرَّقوا دِينَهم وكانوا شِيعًا، وإذا مسَّهم ضُرٌّ، فدَعَوُا اللهَ وحْدَه فرَحِمهم؛ عادوا إلى شِرْكِهم وكُفْرِهم نِعمةَ الَّذي رحِمَهم؛ فالمقصودُ مِن الجُملةِ هو قولُه: ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، فمَحلُّ انتظامِه في مَذامِّ المشركينَ أنَّهم يَرجِعون إلى الكفْرِ، بخِلافِ حالِ المؤمنينَ؛ فإنَّهم إذا أذاقَهم اللهُ رحمةً بعدَ ضُرٍّ، شَكَروا نِعمةَ ربِّهم، وذلك مِن إنابتِهم إلى اللهِ. ونُسِجَ الكلامُ على هذا الأُسلوبِ؛ ليكونَ بمَنزلةِ التَّذييلِ بما في لفْظِ (النَّاسِ) مِن العُمومِ، وإدْماجًا لِفَضيلةِ المؤمنينَ الَّذين لا يَكفُرون نِعمةَ الرَّحيمِ؛ فالتَّعريفُ في (النَّاسِ) للاستغراقِ [450] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/96، 97). .
- قولُه: ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (ثمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ إشراكَهم باللهِ بعْدَ الدُّعاءِ والإنابةِ وحُصولِ رَحمتِه، أعجَبُ مِن إشراكِهم السَّابقِ؛ ففي التَّراخي الرُّتبيِّ معنَى التَّعجيبِ مِن تَجدُّدِ إشراكِهم [451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). .
- وعُبِّرَ بالإذاقةِ؛ لأنَّ المعنى أصابَتْهم الرَّحمةُ حتَّى يَتحقَّقوها كما يَتحقَّقُ الإنسانُ الطَّعامَ في فَمِه [452] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 201). . وقيل: اختِيرَ فِعلُ الإذاقةِ؛ لِمَا يدُلُّ عليه مِن إسراعِهم إلى الإشراكِ عندَ ابتداءِ إصابةِ الرَّحمةِ لهم، فالإذاقةُ: تُطلَقُ على الإصابةِ، وحقيقتُها: إصابةُ المَطْعومِ بطَرَفِ اللِّسانِ، وهي أضعَفُ إصاباتِ الأعضاءِ للأجسامِ؛ فهي أقلُّ مِن المَضْغِ والبلْعِ [453] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/97). .
وقيل: الذَّوقَ يُقالُ في القَليلِ؛ فإنَّ العُرفَ أنَّ مَن أكلَ مأكولًا كثيرًا لا يقولُ: ذُقتُ، ويقالُ في النَّفيِ: ما ذُقتُ في بيتِه طعامًا، نفيًا للقليلِ؛ لِيَلزَمَ نَفْيُ الكثيرِ بالأَولى، ثمَّ إنَّ تلك الرَّحمةَ لَمَّا كانت خاليةً مُنقَطِعةً، ولم تكُنْ مُستمِرَّةً في الآخرةِ؛ إذ لهم في الآخرةِ عذابٌ- قال: أَذَاقَهُمْ؛ ولهذا قال في العذابِ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48]، ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 55] ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] ؛ لأنَّ عذابَ اللهِ الواصِلَ إلى العَبدِ بالنِّسبةِ إلى الرَّحمةِ الواصِلةِ إلى عَبيدٍ آخَرينَ: في غايةِ القِلَّةِ [454] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/100). .
- وفي قولِه: أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أسنَدَ الرَّحمةَ إليه؛ تَعظيمًا للأدَبِ، وإنْ كان الكلُّ منه [455] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/92). .
- وتَقْديمُ المجرورِ مِنْهُ؛ للاهتمامِ به؛ لِيَظْهَرَ أنَّ الَّذي أصابَهم هو مِن فضْلِ اللهِ وتقْديرِه، لا غير ذلك [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). .
- قولُه: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، أي: فاجَأَ فريقٌ منهم الإشراكَ، وذلك بنِسبةِ خَلاصِهم إلى غيرِه تعالى مِن صنَمٍ أو كَوكبٍ أو نحوِ ذلك مِنَ المخلوقاتِ، وتَخْصيصُ هذا الفِعلِ ببعضِهم؛ لِمَا أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك، كما في قولِه تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] ، أي: مُقِيمٌ على الطَّريقِ القصْدِ، أو مُتوسِّطٌ في الكفْرِ؛ لانْزِجارِه في الجُملةِ [457] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/61)، ((تفسير الألوسي)) (11/42). . وقيل: جاء هنا فَرِيقٌ؛ لأنَّ قولَه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ عامٌّ للمؤمنِ والكافرِ، فلا يُشرِكُ إلَّا الكافرُ، وضُرٌّ هنا مُطلَقٌ، وفي آخِرِ (العَنكبوتِ): إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] ؛ لأنَّه في مَخصوصينَ مِن المُشركينَ عُبَّادِ الأصنامِ، والضُّرُّ فيها مُعيَّنٌ، وهو ما يُتخوَّفُ مِن رُكوبِ البحرِ؛ قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [458] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/392). [العنكبوت: 65] .
- وحرْفُ المفاجأةِ (إذا) في قَولِه: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يُفِيدُ أنَّ هذا الفَريقَ أسْرَعوا العَودةَ إلى الشِّركِ بحِدْثانِ ذَوقِ الرَّحمةِ؛ لِتَأصُّلِ الكفْرِ منهم، وكُمونِه في نُفوسِهم [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). .
2- قَولُه تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
- قولُه: لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ اللَّامُ في قولِه: لِيَكْفُرُوا قيل: هي لامُ التَّعليلِ، وهي مُستعارةٌ لِمَعنى التَّسبُّبِ الَّذي حقُّه أنْ يُفادَ بالفاءِ [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). . وقيل: اللَّامُ فيه للعاقِبةِ، وقيل: للأمْرِ بمعنى التَّهديدِ، كقولِه تعالى: فَتَمَتَّعُوا، غيرَ أنَّه التَفَت فيه مُبالَغةً [461] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/480)، ((تفسير البيضاوي)) (4/207)، ((تفسير أبي حيان)) (8/392)، ((تفسير أبي السعود)) (7/61). .
- قولُه: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ الْتفَتَ عن الغَيبةِ إلى الخِطابِ بقولِه: فَتَمَتَّعُوا؛ تَوبيخًا لهم وإنْذارًا، وجِيءَ بفاءِ التَّفريعِ في قولِه: فَتَمَتَّعُوا؛ لأنَّ الإنذارَ والتَّوبيخَ مُفرَّعانِ عن الكلامِ السَّابقِ. والأمْرُ في (تَمَتَّعُوا) مُستعمَلٌ في التَّهديدِ والتَّوبيخِ [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). .
- والفاءُ في فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تَفريعٌ للإنذارِ على التَّوبيخِ، وهو رشيقٌ. و(سوفَ تَعلَمونَ) إنْذارٌ بأنَّهم يَعلَمون في المُستقبَلِ شيئًا عَظيمًا، والعِلْمُ كِنايةٌ عن حُصولِ الأمْرِ الَّذي يُعلَمُ، أي: عن حُلولِ مَصائبَ بهمْ لا يَعلَمون كُنْهَها الآنَ؛ وهو إيماءٌ إلى عظَمَتِها، وأنَّها غيرُ مُترَقَّبةٍ لهم [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/98). .
3- قَولُه تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ
- (أمْ) بمَعنى (بل)، والهمزةِ؛ و (بل) للإضرابِ عن الكَلامِ السَّابقِ، والهمزةُ للاستفهامِ عن الحُجَّةِ استفهامَ إنكارٍ وتَوبيخٍ [464] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/392). . فالتَّقديرُ: بلْ أأنْزَلْنا عليهم سُلطانًا؟! أي: ما أنْزَلْنا عليهم سُلطانًا، ومعنى الاستفهامِ الإنكاريِّ أنَّه تَقريرٌ على الإنكارِ، كأنَّ السَّائلَ يَسأَلُ المسؤولَ؛ لِيُقِرَّ بنفْيِ المَسؤولِ عنه، وحيثُما وقَعَت (أمْ) فالاستفهامُ مُقدَّرٌ بعْدَها؛ لأنَّها مُلازِمةٌ لِمَعنى الاستفهامِ [465] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/99). .
- والالْتِفاتُ إلى الغَيبةِ في قولِه تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ؛ للإيذانِ بالإعراضِ عنهم، وتَعْديدِ جِناياتِهم لِغَيرِهم بطَريقِ المُباثَّةِ [466] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/61). .
- وقدَّمَ بِهِ على يُشْرِكُونَ؛ للاهتِمامِ بالتَّنبيهِ على سَببِ إشراكِهم الدَّاخلِ في حيِّزِ الإنكارِ، وللرِّعايةِ على الفاصلةِ [467] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/100). .
4- قَولُه تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ
- في هذه الآيةِ قُدِّمَت إصابةُ الرَّحمةِ على إصابةِ السَّيِّئةِ، عكْسَ الآيةِ الَّتي قبْلَها -في قولِه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً [الروم: 33]-؛ للاهتِمامِ بالحالةِ الَّتي جُعِلَت مَبدأَ العِبرةِ، وأصْلَ الاستِدلالِ؛ فقولُه: فَرِحُوا بِهَا وصْفٌ لحالِ النَّاسِ عندَما تُصِيبُهم الرَّحمةُ؛ لِيُبْنَى عليه ضِدُّه في قولِه: إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ؛ لِمَا يَقْتضيهِ القُنوطُ مِن التَّذمُّرِ والغضَبِ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/100). .
- وعبَّر عِندَ الرَّحمةِ بأداةِ التحقيقِ (إذا)؛ إشارةً إلى أنَّ الرحمةَ أكثرُ مِن النِّقمةِ، وأَسنَد الفِعلَ إليه في مَقامِ العظَمةِ؛ إشارةً إلى سَعةِ جُودِه، فقال: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا، وجرَى الكلامُ على النَّمطِ الماضي في العمومِ؛ لمُناسَبةِ مَقصودِ السُّورةِ في أنَّ الأمرَ كُلَّه له في كُلِّ شيءٍ، وعِندَ المصيبةِ قال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ بأداةِ الشَّكِّ (إنْ)؛ دَلالةً على أنَّ المصائبَ أقَلُّ وُجودًا. وقال: تُصِبْهُمْ غيرَ مُسنِدٍ لها إليه؛ تأْدِيبًا لعِبادِه، وإعلامًا بغَزيرِ كَرَمِه [469] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/94، 95). .
- وأدمَجَ في خلالِ الإنكارِ عليهم قولَه: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ؛ لِتَنْبيهِهم إلى أنَّ ما يُصِيبُهم مِن حالةٍ سيِّئةٍ في الدُّنيا، إنَّما سَبَبُها أفْعالُهم، فما على النَّاسِ إلَّا أنْ يُحاسِبوا أنفُسَهم، ويَتدارَكوا ما فات؛ فذلك أنْجَى لهم مِن السَّيِّئاتِ، وأجدَرُ مِن القُنوطِ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/101). .
5- قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ... استفهامُ إنكارٍ؛ أنكَرَ عليهم إهمالَ التَّأمُّلِ في سُنَّةِ اللهِ الشَّائعةِ في النَّاسِ: مِن لَحاقِ الضُّرِّ وانْفراجِه، ومِن قِسمةِ الحُظوظِ في الرِّزقِ بيْنَ بَسْطٍ وتَقْتيرٍ؛ فإنَّه كثيرُ الوُقوعِ كلَّ حِينٍ، فكما أنَّهم لم يَقْنَطوا مِن بَسْطِ الرِّزقِ عليهم في حِينِ تَقتيرِه، فكَدَحوا في طلَبِ الرِّزقِ بالأسبابِ والدُّعاءِ؛ فكذلك كان حقُّهم أنْ يَتلقَّوُا السُّوءَ النَّادرَ بمِثْلِ ما يَتلقَّون به ضِيقَ الرِّزقِ، فيَسْعَوا في كشْفِ السَّيِّئةِ بالتَّوبةِ، والابتهالِ إلى اللهِ، وبتَعاطي أسبابِ زَوالِها مِن الأسبابِ الَّتي نصَبَها اللهُ تعالى؛ فجُملةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ إلخ، عطْفٌ على جُملةِ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا. والاستِفهامُ إنكاريٌّ في مَعنى النَّفيِ؛ أنْكَرَ عليهم عدَمَ الرُّؤيةِ تَنزيلًا لِرُؤيتِهم ذلك مَنزِلةَ عدَمِ الرُّؤيةِ؛ لإهمالِ آثارِها مِن الاعتبارِ بها، فالتَّقديرُ: إذا همْ يَقنَطون، كيف لم يَرَوا بَسْطَ اللهِ الرِّزقَ وتقْتيرَه؟! كأنَّهم لم يَرَوا ذلك [471] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/480)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/101). !
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ... الآيةَ، بلفْظِ أَوَلَمْ يَرَوْا، وفي (الزُّمَرِ) بلفظِ: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا [الزمر: 52] ؛ وذلك لأنَّ بسْطَ الرِّزقِ ممَّا يُرى؛ فناسَبَ ذِكْرُ الرُّؤيةِ، وما في (الزُّمَرِ) تقدَّمَه أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [الزمر: 49] ، فناسَبَ ذِكْرُ العِلْمِ [472] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 443، 444). .
- وقولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تذْييلٌ، أي: في جَميعِ ما ذُكِرَ آياتٌ كثيرةٌ حاصلةٌ كَثْرتُها مِن اشتِمالِ كلِّ حالةٍ مِن تلك الأحوالِ على أسبابٍ خَفيَّةٍ وظاهرةٍ، ومُسبِّباتِها كذلك، ومِن تَعدُّدِ أحوالِ النَّاسِ مِن الاعتبارِ بها، والأخْذِ منها، كلٌّ على حسَبِ استِعدادِه [473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/101، 102). .
- وقيل: كانت الفاصلةُ قولَه تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ؛ إيذانًا بأنَّ بسْطَ الرِّزقِ وتَقْديرَه بمَحْضِ مَشيئتِه تعالى، وبأنْ ليس الغِنى بفِعلِ العبْدِ وجهْدِه، ولا العُدْمُ بعَجْزِه وتَقاعُدِه، ولا يَعرِفُ ذلك إلَّا مَن آمَنَ بأنَّ ذلك تقْديرُ العزيزِ العليمِ [474] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/240، 241)، ((تفسير الألوسي)) (11/43). .