موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (83-86)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

أُسَارَى: جمْع أَسْرى، وأَسْرى جمْعُ أسير؛ فأُسارَى جمْع الجمْع، وأصل الأسر: الحبس والإمساك، ومنه الشدُّ بالقيد، من قولهم: أسرت قَتَب البَعيرِ، وسُمِّي الأسير بذلك، ثم قيل لكلِّ مأخوذٍ ومقيَّد- وإن لم يكن مشدودًا -: أسير [723] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/107)، ((المفردات)) للراغب (ص: 76)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 84). .
خِزْيٌ: هوان، وهلاك، وأصل الخِزي: الإبعاد [724] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 61)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 215)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/179)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .

مشكل الإعراب:

قَوْله: لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله: الفعل (تعبدون) مرفوع وعلامة رفْعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة. ورفْعه إمَّا على تقدير (أنْ لَا تعبدوا)، ولَمَّا حُذِفت (أَنْ) ارتفع الفِعْل. أو تكون (لا) نافية لا عمَلَ لها، ويكون النَّفي مقصودًا منه النَّهي. وقيل غير ذلك [725] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/101)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/83-84). .

المعنى الإجمالي:

يُذكِّرُ اللهُ سبحانه بني إسرائيل بالعهد المؤكَّد الذي أخَذه عليهم، وهو أن يعبدوه وحْدَه، وأن يُحسنوا إلى الوالدين، وإلى جميع مَن تربطهم بهم صِلةُ قرابة، وأن يُحسنوا كذلك إلى مَن فقَدوا آباءهم قبل أن يبلُغوا، وإلى الفقراء، وأن يُحسِنوا القول إلى كلِّ الناس، وأن يأتوا بالصَّلاة تامَّةَ الأركان والواجبات، ويُعطوا الزَّكاة المفروضة لمستحقِّيها، لكنَّهم نقَضوا هذا العهدَ الذي أخذ عليهم، وتولَّوا عنه بلا رَجعة، إلَّا عددًا قليلًا منهم قدْ أوفَوا بعهد الله تعالى.
ثمَّ ذكَّرهم الله أيضًا بعهدٍ آخَر قد أخَذَه عليهم من قبل، وهو أن لا يَقتُلَ بعضُهم بعضًا، ولا يخرج بعضُهم بعضًا من ديارهم بغير حقٍّ، وأنَّهم أقرُّوا بمعرفة هذا العهدِ وصحَّتِه، ولم يغبْ عنهم ولم يُنكروه، لكنَّهم نقضوه وفعَلوا ما نُهوا عنه، فقَتَل بعضُهم بعضًا، وأخرَج بعضُهم بعضًا من دِيارهم، وتعاونوا على أهل مِلَّتهم بالمعصية وتجاوُز حدود الله عزَّ وجلَّ.
وبالرُّغْم من هذا القَتل والإخراج المُحرَّميْنِ، إلَّا أنَّهم إذا أُسِرَ بعضهم يجيءُ الذين قاتلوهم من اليهود من الفريق الآخَر فيُخلِّصونهم من الأَسْر؛ يَمتثلون ما أُمروا به من افتداء الأسرى اليهود، مع أنَّهم مُحرَّم عليهم إخراجُهم، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك؛ إذ كيف يمتثلون بعضًا ممَّا في التوراة، ويتركون بعضًا؟!
ثم أخْبَر تعالى أنَّه لا جزاءَ لِمَن يفعل فِعلهم القبيح إلَّا الذلُّ في الدُّنيا، وفي الآخِرة لهم من العذاب أشدُّه، والله لا يَخفَى عليه شيءٌ من أعمالهم.
ثم بيَّن أنَّ هؤلاء الصِّنف من اليهود قد استبدَلوا في الحقيقة ما في الدُّنيا من نعيم زائلٍ بنعيم الآخِرَة الدائم؛ وذلك بسبب كُفرهم وتركهم شرائعَ الله تعالى؛ فلن يُخفَّف عنهم ما يستحقُّونه من العذاب يومَ القِيامة، ولن يُنقِذَهم أحدٌ منه.

تفسير الآيات:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ.
أي: واذكُروا يا معشر اليهود، حين أخَذْنا عليكم عهدًا مؤكَّدًا بعبادة الله وحْدَه لا شريكَ له            [726] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/187)، ((تفسير ابن عطية)) (1/172)، ((تفسير ابن كثير)) (1/316)، ((تفسير   السعدي)) (ص: 57).     .
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.
أي: وممَّا أُخِذ على بني إسرائيل من العهود المؤكَّدة أن يُحسنوا إلى الوالدين، وهذا يشمل كلَّ أنواع الإحسان القوليَّة والفعليَّة، وممَّا أُخِذ عليهم أيضًا: العهد بالإحسان- بجميع طرقه- إلى أنواع القَرابات كافَّةً، وإلى اليتامى- واليتيم هو مَن فقَدَ أباه قبلَ البلوغ، ذَكَرًا كان أم أُنثى- وإلى المساكين، وهم الفقراء            [727] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/191-193)، ((تفسير ابن كثير)) (1/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 57)،   ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/267).     .
كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ... الآية [النساء: 36] .
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.
أي: ومما أمر الله تعالى به اليهود أن يحسنوا بالقول إلى النَّاس عمومًا، فيكلمونهم بكلام طيب لين، يدخل فيه الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعفو والصفح، وغير ذلك            [728] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/193-197)، ((تفسير ابن كثير)) (1/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 57-58)،   ((تفسير ابن عاشور)) (1/583)، ((تفسير العثيمين-الفاتحة والبقرة)) (1/268-269).     .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ.
أي: وممَّا أُمِر به اليهودُ أيضًا: إقامةُ الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، أي: ائتوا بالصَّلاة تامَّةً بحقوقها الواجبة عليكم فيها، وأعطوا الزكاةَ مستحقِّيها بما فرَض الله تعالى عليكم في أموالِكم            [729] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة   والبقرة)) (1/269).     .
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.
أي: خاطَب اللهُ تعالى اليهودَ الحاضرين في زمن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّهم هم وآباؤهم قد ترَكوا ما أخذ الله تعالى عليهم من المواثيق التي ذُكرت في الآية، ترَكوها وراءَ ظهورهم، فنقضوها وأعْرَضوا عنها عن عمْد بعد العِلم بها، إعراضًا لا رجعةَ فيه إليها، عدا عددٍ قليل منهم قد عصمَهم الله تعالى ووفَّقهم، فوفوا بتلك العهود            [730] يُنظر: ابن جرير،   ((تفسير ابن جرير)) (2/199) ((تفسير ابن عطية)) (1/173)، ((تفسير ابن كثير))   (1/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/584)، ((تفسير ابن   عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/269).     .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ.
أي: واذكروا حين أخَذْنا عليكم وعلى آبائكم من قبل، ألَّا يقتل بعضُكم بعضًا، ولا يُخرِج بعضُكم بعضًا من دِيارهم بغير حقٍّ            [731] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/200-201)، ((تفسير ابن كثير)) (1/318-319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58).     .
ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
أي: بعد أخْذ هذا الميثاق عليكم، بقيتُم عليه، وقد أقررتُم بمعرفته وصحَّته، وشهدتُم عليه، فهو لديكم باقٍ، لم يغبْ عنكم، ولم تُنكِروه            [732] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/204-205)، ((تفسير ابن عطية)) (1/174)، ((تفسير ابن كثير)) (1/319)،   ((تفسير ابن عاشور)) (1/586)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/273).       .
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85).
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ.
أي: إنَّهم من بعد ذلك الميثاقِ، والإقرارِ به، والشهادة عليه، نقَضوا الميثاقَ الذي أُخذ عليهم؛ إذ وقعوا في المخالفة بقَتْل بعضهم بعضًا، وإخراج بعضهم بعضًا من دِيارهم بغير حقٍّ            [733] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/205-206، 210)، ((تفسير ابن كثير)) (1/320)، ((تفسير ابن عُثيمين -   الفاتحة والبقرة)) (1/273-274).     .
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
أي: تتعاونون على أهلِ ملَّتكم بمعصية الله تعالى، وتجاوز حدودِه            [734] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/206، 209)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/168)، ((تفسير ابن عطية))   (1/175)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/274).     .
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: (تفادوهم) قِراءتان:
1- (تُفَادُوهُمْ) على معنى أنَّ المفاداة من اثنين؛ لأنَّ الفداء: أن تأخذ ما عنده، وتُعطي ما عندك، فتَفعل به كما يُفعل بك            [735] قرأ بها المدنيَّان،   وعاصمٌ، والكسائيُّ، ويعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/218). ويُنظر لمعنى   هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص:84)، ((معاني القراءات))   للأزهري (1/164).     .
2- (تَفْدُوهُمْ) أي: تشتروهم من العدوِّ وتُنقِذوهم            [736] قرأ بها الباقون.   يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/218).       ويُنظر لمعنى هذه   القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص:84)، ((معاني القراءات))   للأزهري (1/164).       .
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ.
أي: إنَّه بعد أَسْر بعض اليهود من كِلا الفريقيْنِ المتحاربيْنِ يقوم الذين قاتلوهم من أهل مِلَّتهم، بتخليصهم من الأَسر، بعِوض أو بمبادلةٍ بين أسارى الفريقينِ؛ امتثالًا لما أُمِروا به في كتابِهم من افتداءِ الأَسرى منهم، مع أنَّه قد حُرِّم عليهم في كِتابهم أيضًا إخراجُهم من دِيارهم، ولم يجتنبوا هذا النهيَ            [737] يُنظر: ((تفسير ابن   كثير)) (1/318)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/186)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58).      وممَّن قال من السَّلف   بنحو ما ذُكر في قوله تعالى:   وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى   تُفَادُوهُمْ: ابن عبَّاس، وأبو   العالية. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/165).     !
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
أي: أنْكَر الله تعالى عليهم ذلك؛ إذ كيف يمتثِلون شيئًا ممَّا أُمروا به في التوراة، وهو فِداء أسراهم من أيدي العدوِّ، بينما يتركون أشياءَ أخرى من نفْس التوراة، وهي ارتكابُ ما نُهوا عنه من قتْل، وإخراج بعضهم بعضًا، ومظاهرة بعضهم العدوَّ على بعض            [738] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/210)، ((تفسير القرطبي)) (2/22)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/186)،   ((تفسير السعدي)) (ص: 58)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/39)، ((تفسير ابن عُثيمين   - الفاتحة والبقرة)) (1/275).     ؟!
فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: ليس لِمَن وقَع في ذلك الانحراف الشَّنيع منكم معشرَ اليهود، سوى الذلِّ؛ عقابًا عاجلًا في الدنيا. وممَّا وقَع لهم من ذلك: تسليطُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ عليهم، فقَتَل منهم مَن قتَل، وسبَى مَن سبَى، وأجْلَى البقيةَ من دِيارهم            [739] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/215-216)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/170)، ((تفسير ابن عطية))   (1/175)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/591)، ((أضواء   البيان)) للشنقيطي (8/25).     .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ.
أي: ويوم تقوم السَّاعة، فيقوم النَّاسُ لربِّ العالمين، يُرَدُّ هؤلاء الذي فعَلوا ذلك منكم- أيُّها اليهود- أي: يرجعون من ذلِّ الدنيا إلى أعظم ما يكون من العُقوبات الأخرويَّة التي أعدَّها الله تعالى لأعدائه            [740] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/216)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/170)، ((تفسير ابن عُثيمين -   الفاتحة والبقرة)) (1/276).     .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: يُهدِّدهم الله تعالى ويتوعَّدهم؛ فلكمالِ عِلمه ومراقبتِه لا يَخفى عليه شيءٌ، ولا يَنسى شيئًا سبحانه وتعالى، بل هو حافظٌ عليهم أعمالَهم، ومحصيها لهم؛ ليجازيَهم بها            [741] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/217)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/170)، ((تفسير ابن عُثيمين -   الفاتحة والبقرة)) (1/276).     .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86).
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ.
أي: إنَّهم قد استبدلوا نَعيمَ الدُّنيا الفاني بنَعيمِ الآخِرة الباقي، وذلك ببذلهم الكفرَ بالله تعالى وترْك شرائعه، ثمنًا للاستحواذِ على ما يبتغون من حُطام الدُّنيا            [742] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/218)، ((تفسير ابن كثير)) (1/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58).     .
فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ.
أي: لأجْل إيثارهم الدُّنيا على الآخِرة، لن يُخفَّف عنهم من عذاب يوم القيامة شيءٌ، لا زَمنًا ولا شدَّةً            [743] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/592)، ((تفسير   ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/276).     .
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 49-50] .
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ.
أي: لا يَستنقِذهم أحدٌ من عذاب الله تعالى            [744] يُنظر: ((تفسير ابن   جرير)) (2/219)، ((تفسير ابن كثير)) (1/321)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة))   (1/277).     .

الفوائد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة: 83] ، إشارةٌ إلى أنَّ حقَّ ذي القُربى، كالتابع لحقِّ الوالدينِ؛ لأنَّ الإنسان إنما يتَّصل به أقرباؤه بواسطة اتِّصالهم بالوالدينِ، والاتِّصالُ بالوالدين مقدَّم على الاتِّصال بذي القربى؛ فلهذا أخَّر الله تعالى ذِكرَه عن الوالدينِ [745] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (3/587). .
2- أنَّ الأُمَّة كالنَّفْس الواحدة؛ لقوله تعالى: لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ [746] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/277). .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- في قوله سبحانه وتعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة: 83] : جاء الأمْر بالإحسان إلى اليتيم بعدَ الأمر بالإحسان إلى الأقارب؛ لأنَّه لصغره لا يُنتفع به، ولخلوِّه عمَّن يقوم بشؤونه، يَحتاجُ إلى مَن يَنفعه، والإنسان قلَّما يرغب في صُحبة مِثل هذا، ولَمَّا كان هذا التكليفُ شاقًّا على النفْس، كانت درجتُه عظيمةً في الدِّين.
وأمَّا المساكين فقد تأخَّرت درجتُهم عن اليتامى؛ لأنَّ المسكين قد يُنتفع به في الاستخدام، فكان المَيلُ إلى مُخالطته أكثرَ من الميل إلى مخالطةِ اليتامى، ولأنَّ المسكين يُمكنه الاشتغالُ بتعهُّد نفْسه ومصالح معيشته، وليس اليتيم كذلك [748] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (3/587-588). .
2- إثبات أنَّ صفات الله تعالى ثبوتيَّة، ومنفيَّة، لكنَّ النفي المحضَ لا يُوجَد في صفات الله تعالى، وإنَّما جاء النفيُ الواقع في صفاته؛ لبيان كمال ضدِّ ذلك المنفيِّ، كما قال تبارك وتعالى: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 85] [749] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/279). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فيه قصرٌ بالنفي والاستثناء (لا... إلَّا) [750] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/457)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 117). .
- والأسلوب إخباري في معْنى النهي، وهو أبلغُ من صريح النهي؛ لِمَا فيه من إيهام أنَّ المنهيَّ سارع إلى الانتهاء [751] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/159)، ((تفسير البيضاوي)) (1/91)، ((تفسير أبي حيان)) (1/457)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/582)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/137). .
2- في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ التفات؛ إذ خرَج من ضمير المتكلِّم في أَخَذْنَا إلى الاسم الغائب اللهَ. ولو جرَى على نسَقٍ واحد لقال: (لا تعبدون إلَّا إيَّانا)، لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة، والدلالة على سائر الصفات، والتفرد بالتسمية به، ما ليس في المُضمَر، ولأنَّ ما جاء بعده من الأسماء، إنما هي أسماء ظاهرة، فناسَب مجاورة الظاهر الظاهر [752] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/457)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/137). .
3- قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
فيه التقديم بحسَب الأهمِّ؛ حيث قدَّم عِبادة الله تعالى، ثم قدَّم الأحوج إلى الإحسان بِالْوَالِدَيْنِ... ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى... وَالْمَسَاكِينِ. وقدَّم الأمور بحسب الأنفع فيها؛ فقدَّم الإحسان على القول الحسن [753] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 118). .
وقوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فيه تأكيدٌ بوضع المصدر (حُسْنًا) موضِعَ الاسم (قولًا حَسَنًا)، وهذا إنَّما يُستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف، فكأنَّه نفْس الحُسن، كرجل عدْل [754] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) مع الحاشية (1/159)، ((تفسير البيضاوي)) (1/91). ، أو على أنَّه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه: وقولوا للناسِ قَوْلًا حُسْنًا، أي: ذا حُسْن [755] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (1/466). .
- وفي قوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ التِفات من الغَيبة إلى الخِطاب، حيث انتقل مِن الحديث عن بني إسرائيل القُدامى إلى خِطاب الحاضرين منهم في زمَن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وحكمته: أنَّ الإقبالَ عليهم بالخِطاب أدْعى للقَبول، وأقرب للامتثال؛ إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب [756] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/159)، ((تفسير أبي حيان)) (1/457). .
- وقوله: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عبَّر بالجملة الاسميَّة التي تدلُّ على الثبوت؛ للتأكيد على إعراضهم واستمرارهم فيه [757] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 118). .
4- قوله: تَقْتُلُونَ وقوله: وَتُخْرِجُونَ حال، أو خبَر نُزِّل فيه الغائِبُ مَنزلةَ الحاضر؛ لأنَّ المرادَ بهم أسلافُهم، وعبَّر بالمضارع؛ لقصد الدَّلالة على التجدُّد والحدوث، وأنَّ ذلك من شأنهم [758] يُنظر: ((الدر المصون)) للسَّمين الحلبي (1/476)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 120). .
5- في قوله: إِلَّا خِزْيٌ جاء تنكير الخزي؛ للتهويل والتعظيم [759] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (1/346)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 121). .
6- في قوله: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تقديمُ المسنَد إليه بِغَافِلٍ؛ للتَّخصيص، وتأكيد الوعيد [760] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 121). .