موسوعة التفسير

سورةُ الحِجْرِ
الآيات (10-15)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ

غريب الكلمات:

شِيَعِ: أي: أُمَم وفِرَق، وأصلُ (شيع): يدُلُّ على مُعاضَدةٍ ومُساعَفةٍ [92] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 154)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 292)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/235)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 279)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 191، 255). .
نَسْلُكُهُ: أي: نُدخِلُه، والسَّلْكُ: إدخالُ الشَّيءِ في الشَّيءِ، وأصلُ (سلك): يدلُّ على نفاذِ شَيءٍ في شَيءٍ [93] يُنظر: ((التفسير البسيط)) للواحدي (12/550)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/97)، ((المفردات)) للراغب (ص: 421). .
يَعْرُجُونَ: أي: يَصعَدونَ، وأصلُ (عرج): يدلُّ على سُمُوٍّ وارتِقاءٍ [94] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 235)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 512)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/302)، ((المفردات)) للراغب (ص: 557)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 188)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 255). .
سُكِّرَتْ: أي: سُدَّتْ، ومُنِعَت النَّظَرَ، وأصلُه مِنَ السَّكْرِ الذي هو سدُّ الشَّقِّ؛ لئلَّا ينفجرَ الماءُ [95] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 235- 236)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 276)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/34)، ((الوسيط)) للواحدي (3/41)، ((المخصص)) لابن سِيده (1/104)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 255)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 518). .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قد أرسل رُسُلًا في الأُمَمِ الماضيةِ، فما كان منهم حينَ أتَتْهم رسلُهم إلَّا الاستهزاءُ بهم والتَّكذيبُ لهم، كذلك نُدخِلُ القرآنَ قلوبَ المجرمينَ، فهم يسمعونَه ويفهمونَه ويعلمونَ أنَّه حقٌّ ومع ذلك يُكذِّبونَ به، فلا يؤمنونَ بالقرآنِ الذي أُنزِلَ إليك، وقد مَضَت عادةُ اللهِ بإهلاكِ الكُفَّارِ.
 ولو فتَحْنا على كفَّارِ مكَّةَ بابًا من السَّماءِ فاستَمَرُّوا صاعدينَ فيه حتى يشاهِدوا ما في السَّماءِ مِن عجائبِ مَلَكوتِ اللهِ؛ لَمَا صدَّقوا، ولقالوا: سُدَّتْ أبصارُنا فلم نرَ شيئًا، وما نحنُ إلَّا مَسحورونَ مِن محمَّدٍ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى استهزاءَ الكُفَّارِ بالنبيِّ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- ونِسبَتَه إلى الجُنونِ، واقتراحَ نزولِ الملائكةِ؛ سلَّاه تعالى بأنَّ المرسلينَ مِن قَبلِه كان ديدَنُ مَن أُرسِلوا إليهم مِثلَ دَيدَنِ هؤلاء معَه [96] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/468). ، فقال تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10).
أي: ولقد أرسَلْنا مِن قَبلِك- يا مُحمَّدُ- رسُلًا في الأُمَمِ الماضيةِ [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/19)، ((تفسير القرطبي)) (10/6)، ((تفسير ابن كثير)) (4/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 429). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ [الروم: 47] .
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11).
أي: وما أتَى تلك الأُمَمَ الماضيةَ مِن رَسولٍ أرسَله اللهُ إليهم؛ لدَعوتِهم إلى الحَقِّ، إلَّا سخِروا به وكَذَّبوه [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/20)، ((تفسير ابن كثير)) (4/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 429). .
كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] .
وقال سُبحانه: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [يس: 30] .
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12).
كذلك [99]  قال الشوكاني: (مِثْلُ ذلك الَّذي سَلَكْناه في قلوبِ أولئك المستهزئينَ برسلِهم نَسْلُكُهُ أي: الذِّكرُ في قلوبِ المجرمينَ). ((تفسير الشوكاني)) (3/148). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/573). وقال الرازي: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي: هكذا نَسْلُكُ القرآنَ في قلوبِ المجرمينَ). ((تفسير الرازي)) (19/125). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/24). نُدخِلُ القرآنَ قلوبَ المجرمينَ، فهم يسمعونَه ويفهمونَه ويعلمونَ أنَّه حقٌّ، وأنَّه يفوقُ كلَّ كلامٍ، وأنَّهم عاجزونَ عن معارضتِه، مع أنَّه بلسانِهم، ومع ذلك يُكذِّبونَ به [100] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/125)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/290)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 62)، ((تفسير الشوكاني)) (3/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/24). وممَّن اختار هذا المعنى المذكورَ أنَّ الضميرَ في قولِه تعالى: نَسْلُكُهُ عائدٌ على القرآنِ: الزمخشري، والرازي، والغرناطي، وابنُ القيم، والشوكاني، والبقاعي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/573)، ((تفسير الرازي)) (19/125)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/290)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 62)، ((تفسير الشوكاني)) (3/148)، ((نظم الدرر)) (11/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/24). قال ابن عاشور: (أي: هكذا نولجُ القرآنَ في عُقولِ المُشرِكينَ؛ فإنَّهم يَسمَعونه ويفهمونَه؛ إذ هو من كلامِهم، ويُدرِكونَ خصائِصَه). ((تفسير ابن عاشور)) (14/24). وممَّن اختار أن الضمير في قولِه تعالى: نَسْلُكُهُ عائدٌ على الاستهزاءِ والتكذيبِ: ابنُ جريرٍ، والبغوي، وابنُ الجوزي، والقرطبي، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/20)، ((تفسير البغوي)) (3/51)، (تفسير ابن الجوزي)) (2/525)، ((تفسير القرطبي)) (10/7)، ((تفسير ابن كثير)) (4/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 429). قال النحاسُ: (هذا القَولُ [أي: نسلكُ التكذيبَ] هو الذي عليه أهلُ التَّفسيرِ وأهلُ اللُّغةِ، إلَّا مَن شَذَّ منهم). ((معاني القرآن)) (4/12). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وأنسٌ، وابنُ جريجٍ، وقتادةُ، والحسنُ، وابنُ زيدٍ. يُنظر : ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2258)، ((تفسير ابن جرير)) (14/20)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/525). قال ابنُ القيِّمِ بعدَ أن ذكَر أقوالَ السلفِ في معنى الآيةِ: (وهذه الأقوالُ ترجِعُ إلى شيءٍ واحدٍ، والتكذيبُ والاستهزاءُ والشِّركُ كُلُّ ذلك فِعلُهم حقيقةً، وقد أخبر أنَّه سبحانه هو الذي سلَكَه في قلوبِهم، وعندي في هذه الأقوال شيءٌ؛ فإنَّ الظاهر أنَّ الضميرَ في قولِه لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ هو الضمير في قوله سَلَكْنَاهُ فلا يصِحُّ أن يكون المعنى: لا يؤمنون بالشِّركِ والتكذيبِ والاستهزاءِ، فلا تصِحُّ تلك الأقوالُ إلا باختلافِ مفسِّرِ الضميرين، والظاهِرُ اتحادُه؛ فالذين لا يؤمنون به هو الذي سلكَه في قلوبِهم، وهو القرآنُ، فإن قيل: فما معنى سَلْكِه إياه في قلوبِهم وهم ينكرونَه؟ قيل: سَلْكُه في قلوبهم بهذه الحال، أي: سلكناه غيرَ مؤمِنين به، فدخل في قلوبهم مُكذَّبًا به، كما دخَل في قلوبِ المؤمنينَ مُصَدَّقًا به، وهذا مرادُ مَن قال: إنَّ الذي سلَكه في قلوبِهم هو التكذيبُ والضَّلالُ، ولكن فسَّر الآيةَ بالمعنى؛ فإنَّه إذا دخَل في قلوبهم مكذِّبينَ به، فقد دخَل التكذيبُ والضلالُ في قلوبِهم، فإن قيل: فما معنى إدخالِه في قلوبِهم وهم لا يؤمنون به؟ قيل: لتقومَ عليهم بذلك حجَّةُ الله، فدخَل في قلوبِهم، وعلِموا أنَّه حقٌّ، وكذَّبوا به فلم يدخُلْ في قلوبِهم دخولَ مُصَدَّقٍ به مؤمَنٍ به مَرضِيٍّ به، وتكذيبُهم به بعد دخولِه في قلوبهم أعظمُ كُفرًا من تكذيبهم به قبلَ أن يدخُلَ في قلوبهم؛ فإنَّ المكذِّبَ بالحَقِّ بعدَ معرفتِه له، شرٌّ مِن المكذِّبِ به ولم يعرِفْه، فتأمَّلْه؛ فإنَّه من فِقهِ التفسيرِ، والله الموفِّقُ للصواب).  ((شفاء العليل)) (ص: 62). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5].
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13).
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ.
أي: لا يُؤمِنونَ بالقُرآنِ الذي أنزَلْناه على محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/20)، ((تفسير البغوي)) (3/51)، ((تفسير الشوكاني)) (3/148). قال أبو حيان: (ولَا يُؤْمِنُونَ إن كان إخبارًا مُستأنفًا فهو من العامِّ المرادِ به الخصوصُ فيمن ختم عليه؛ إذ قد آمَن عالَمٌ ممن كذَّب الرَّسولَ). ((تفسير أبي حيان)) (6/469). وقال الرازي: (الضَّميرُ في قولِه: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عائِدٌ إلى القرآنِ بالإجماعِ). ((تفسير الرازي)) (19/125). وقال العكبري: (والهاءُ في بِهِ للرَّسولِ، أو للقرآنِ، وقيلَ: للاستهزاءِ أيضًا، والمعنَى: لا يُؤمِنونَ بسببِ الاستهزاءِ، فحُذِف المضافُ). ((التبيان في إعراب القرآن)) (2/777). .
كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [الشعراء: 198 - 201] .
وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.
أي: وقد مضتْ عادةُ اللهِ بإهلاكِ الكفَّارِ مِن الأُممِ الماضيةِ ممن كَذَّبَ الرُّسلَ [102] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/51)، ((تفسير القرطبي)) (10/7)، ((تفسير ابن كثير)) (4/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 429). وممن ذهب إلى هذا المعنى المذكور: البغوي، والقرطبي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر المصادر السابقة. وممن قال بنحو هذا القول من السلف : قتادة . يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/22). وقيل: المعنى: وقد مَضَت سنَّةُ الأوَّلينَ بتكذيبِ رُسُلِ الله، وهؤلاء المُشرِكونَ يقتَفونَ آثارَهم. وممن اختار هذا المعنى: الزجاج، والنحاس، والواحدي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/174)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/13)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 589). قال ابنُ جريرٍ: (وقولُه: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ يقول تعالى ذِكرُه: لا يؤمِنُ بهذا القرآن قومُك الذين سلكتُ في قلوبِهم التكذيبَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ أخذًا منهم سنَّةَ أسلافِهم من المشركين قبلَهم مِن قومِ عادٍ وثمودَ وضُرَبائهم من الأمم التي كذَّبت رسُلَها، فلم تؤمِنْ بما جاءها من عند اللهِ حتى حلَّ بها سخَطُ الله فهلَكَت). ((تفسير ابن جرير)) (14/22). .
كما قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 52] .
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ القومَ لَمَّا طَلَبوا نُزولَ ملائكةٍ يُصَرِّحونَ بتَصديقِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- في كونِه رسولًا مِن عندِ اللهِ تعالى؛ بيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ أنَّه بتقديرِ أن يحصُلَ هذا المعنى، لقال الذين كَفَروا: هذا مِن بابِ السِّحرِ [103] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/127). ، فهو كلامٌ جامعٌ لإبطالِ جميعِ معاذيرِهم، فهم لا يطلُبونَ الدَّلالةَ على صدقِه، ولكنَّهم يَنْتَحِلونَ المعاذيرَ المختلِفَةَ [104]  يُنظر: ((نفسير ابن عاشور)) (14/25). .
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14).
أي: ولو فَتَحْنا على هؤلاءِ الكُفَّارِ بابًا مِن السَّماءِ، فجعلوا يصعَدُونَ في وضَحِ النَّهارِ في ذلك البابِ، ويُشاهِدونَ ما في السَّماءِ بأعيُنِهم مِن مَلَكوتِ اللهِ تعالى وقُدرتِه وسُلطانِه ومَلائكَتِه [105] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/127-128)، ((تفسير القرطبي)) (14/25)، ((تفسير ابن كثير)) (4/528)، ((تفسير السعدي)) (ص: 430). وممن ذهَب إلى هذا المعنَى المذكورِ: الزمخشري، والقرطبي، وابنُ جزي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/573)، ((تفسير القرطبي)) (14/25)، ((تفسير ابن جزي)) (1/416)، ((تفسير أبي حيان)) (6/470)، ((تفسير ابن كثير)) (4/528)، ((تفسير الشوكاني)) (3/148)، ((تفسير القاسمي)) (6/331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 430)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/26). قال ابنُ جزي في قولِه: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا...: (الضمائرُ لكفَّارِ قريشٍ المعاندينَ المحتومِ عليهم بالكفرِ). ((تفسير ابن جزي)) (1/416). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ، والحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/25)، ((البسيط)) للواحدي (12/555)، ((تفسير الرازي)) (19/128). وممَّن ذهب إلى أنَّ الضَّميرَ في فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ عائدٌ على الملائكة: مقاتلُ بنُ سليمانَ، والفرَّاءُ، والواحدي، والثعلبي، والبغوي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/425)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/86)، ((تفسير السمرقندي)) (2/252)، ((الوسيط)) للواحدي (3/41)، ((تفسير الثعلبي)) (5/332)، ((تفسير البغوي)) (4/371)، ((تفسير العليمي)) (3/544). قال السمعاني: (الأكثرونَ على أنَّهم الملائكةُ). ((تفسير السمعاني)) (3/132). ويُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/51). وقال ابنُ الجوزي: (في المشارِ إليهم بهذا الصعودِ قولانِ: أحدهما: أنَّهم الملائكةُ، قاله ابنُ عبَّاس والضحَّاكُ، فالمعنى: لو كُشِف عن أبصارِ هؤلاء فرَأَوا بابًا مفتوحًا في السماءِ، والملائكةُ تصعَدُ فيه؛ لَمَا آمنوا به. والثاني: أنَّهم المشركونَ، قاله الحسنُ وقتادةُ، فيكون المعنى: لو وصَّلْناهم إلى صعودِ السَّماءِ لم يستشعِروا إلَّا الكفرَ؛ لعنادِهم). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/525). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/23، 24)، ((تفسير ابن عطية)) (3/353). .
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15).
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا.
أي: لجَحَدوا أن يكونوا رأَوا شَيئًا، فقالوا: إنَّما سُدَّتْ أبصارُنا بالسِّحرِ، ومُنِعَت من النَّظَرِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/29)، ((تفسير القرطبي)) (10/8)، ((تفسير ابن كثير)) (4/528)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/26). !
  بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
أي: بل [107] قال الشوكاني: (أضْرَبوا عن قولِهم: سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، ثمَّ ادَّعَوْا أنَّهم مسحورونَ، أي: سَحَرهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير الشوكاني)) (3/148). نحن قومٌ سَحَرَنا محمَّدٌ، فما عُدْنا نعقِلُ الأشياءَ ونراها كما يجِبُ [108] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/52)، ((تفسير ابن عطية)) (3/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 430)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/26). !
كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] .
وقال سُبحانه: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر: 2- 3].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هذا تعزيةٌ وتَسليةٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودَلالةٌ على أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن الرُّسُلِ كان مُبتلًى بقَومِه [109] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/40)، ((تفسير السمعاني)) (3/131). .
2- قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فيه رَدٌّ على القَدَريَّة والمُعتَزِلة، وهي أبيَنُ آيةٍ في ثُبُوتِ القَدَرِ؛ لِمَن أذعَنَ للحَقِّ ولم يُعانِدْ [110]  يُنظر: ((تفسير الخازن)) (3/49)، ((تفسير القرطبي)) (10/7). ، وهذا على اعتبارِ أنَّ ما يُسلَكُ في قلوبِهم هو الكفرُ والتكذيبُ.

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ
- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ إبطالٌ لاستهزائِهم على طريقةِ التَّمثيلِ بنُظرائِهم مِن الأُمَمِ السَّالفةِ. وفي هذا التَّنظيرِ تحقيقٌ لكُفْرِهم؛ لأنَّ كُفْرَ أولئك السَّالفينَ مُقَرَّرٌ عندَ الأُمَمِ، ومُتحدَّثٌ به بينَهم. وفيه أيضًا تعريضٌ بوعيدِ أمثالِهم، وإدماجٌ بالكِنايةِ عن تسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/22). .
- قولُه: وَلَقَدْ والتَّأكيدُ بلامِ القسَمِ و(قد)؛ لتحقيقِ سَبْقِ الإرسالِ مِن اللهِ، مِثْل الإرسالِ الَّذي جَحَدوه واسْتَعْجبوه [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/23). .
2- قوله تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هو تسليةٌ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، و(ما) للحالِ، لا يدخُلُ إلَّا مُضارِعًا بمعنى الحالِ، أو ماضيًا قريبًا منه، وهذا على حِكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ فصِيغَةُ الاستقبالِ يَأْتِيهِمْ لاستحضارِه الصُّورةَ على طريقةِ حِكايةِ الحالِ الماضيةِ [113] يُنظر: ((تفسير الزمحشري)) (2/572)، ((تفسير البيضاوي)) (3/207)، ((تفسير أبي السعود)) (5/69). ، وأكَّد النفيَ فقال: مِنْ رَسُولٍ أي: على أيِّ وجهٍ كان [114]  يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/26). .
- قولُه: كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يدلُّ على تَكرُّرِ ذلك منهم وأنَّه سُنَّتُهم؛ فـ(كان) دلَّت على أنَّه سَجِيَّةٌ لهم، والمُضارعُ يَسْتَهْزِئُونَ دلَّ على تَكرُّرِه منهم، وتقديمُ المجرورِ بِهِ على يَسْتَهْزِئُونَ يفيدُ القصْرَ للمُبالغةِ؛ لأنَّهم لمَّا كانوا يُكْثِرونَ الاستهزاءَ برَسولِهم، وصار ذلك سَجِيَّةً لهم، نُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن ليس له عمَلٌ إلَّا الاستهزاءُ بالرَّسولِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/23). ، ولعلَّه عبَّر عنه بالسينِ المفهمةِ للطلبِ إشارةً إلى أنَّ رغبتَهم في الاستهزاءِ لا تنقضي، كما هو شأنُ الطالبِ للشيءِ [116]  يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/26). .
3- قوله تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن سُؤالٍ يخطُرُ ببالِ السَّامِعِ لقولِه: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فيتَساءلُ: كيف توارَدَت هذه الأُمَمُ على طريقٍ واحدٍ مِن الضَّلالِ، فلم تُفِدْهم دعوةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ؟  أو الجملة  مُستأنَفَةٌ استئنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عن جُملةِ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ؛ إذ قد يخطُرُ بالبالِ أنَّ حِفْظَ الذِّكْرِ يقتضي ألَّا يكفُرَ به مَن كفَرَ؛ فأُجِيبَ بأنَّ ذلك عِقابٌ مِن اللهِ لهم؛ لإجرامِهم وتلقِّيهم الحقَّ بالسُّخريةِ وعدَمِ التَّدبُّرِ، ولأجْلِ هذا اخْتِيرَ لهم وصْفُ الْمُجْرِمِينَ دونَ (الكافرينَ)؛ لأنَّ وصْفَ الكُفْرِ صار لهم كاللَّقَبِ لا يُشْعِرُ بمعنى التَّعليلِ [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/23). .
- وعُبِّرَ بصِيغَةِ المُضارعِ نَسْلُكُهُ؛ لكونِ المُشبَّهِ به مُقدَّرًا في الوُجودِ، وهو السَّلْكُ الواقعُ في الأُمَمِ السَّالفةِ، أو للدَّلالةِ على استحضارِ الصُّورةِ [118] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/69). .
- وفي قولِه تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ تَشبيهٌ تمثيليٌّ للعِنادِ المُستحوِذِ عليهم واللَّدَدِ الرَّاسخِ في صُدورِهم، وتفصيلُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى سلَكَ القُرآنَ في قُلوبِهم وأدخَله في سُوَيداءَاتِها كما سلَكَ ذلك في قُلوبِ المُؤمنينَ المُصدِّقينَ- على أحدِ أوجهِ التأويلِ-؛ فكذَّبَ به هؤلاء وصدَّقَ به هؤلاء، كلٌّ على علْمٍ وبيِّنةٍ؛ ليَهْلِكَ مَن هلَكَ عن بيِّنَةٍ، ويحيا مَن حيَّ عن بيِّنَةٍ، ولئلا يكونَ للكُفَّارِ على اللهِ حُجَّةٌ بأنَّهم ما فَهِموا وُجوهَ الإعجازِ كما فَهِمَها مَن آمَنَ، فأعلَمَهم اللهُ تعالى مِن الآنَ- وهم في مُهْلَةٍ وإمكانٍ- أنَّهم ما كَفَروا إلَّا على علْمٍ مُعاندينَ باغِينَ؛ ليكونَ أدحَضَ لأيَّةِ حُجَّةٍ يختلِقونَها، وأنفَى لكلِّ ادِّعاءٍ يخرُصونَ به؛ ولذلك عقَّبَه اللهُ تعالى بقولِه: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا...، أي: إنَّ هؤلاء فهِمُوا القُرآنَ حقَّ الفَهْمِ، واكْتَنَهوا أسرارَه، وسَبَروا أغْوارَ مُعجزاتِه، وعَلِموا وُجوهَ إعجازِه، وولَجَ ذلك إلى قَراراتِ نُفوسِهم، ووَقَرَ في أسماعِهم، ولكنَّهم قومٌ دَيْدَنُهم العِنادُ، وشِيمَتُهم اللَّجاجُ والمُكابرةُ، حتَّى لو سلَكَ بهم أوضَحَ السُّبلِ وأدْعاها إلى الإيمانِ بضُرورةِ العِيانِ والمُشاهدةِ؛ وذلك بأنْ يفتَحَ لهم بابًا في السَّماءِ، ويُعْرَجُ بهم حتَّى يَدْخلوا منه نهارًا، وقد أشار إلى ذلك بقولِه: ظَلُّوا؛ لأنَّ الظُّلولَ إنَّما يكونُ نهارًا، لقالوا بعدَ ذلك الإيضاحِ العظيمِ المكشوفِ: إنَّما سُكِّرَت أبصارُنا، وسحَرَنا محمَّدٌ، وما هذه إلَّا خيالاتٌ مُمَوَّهَةٌ لا حقائقَ تحتَها؛ فأسجَلَ عليهم بذلك أنَّهم لا عُذْرَ لهم في التَّكذيبِ مِن عدَمِ سماعٍ ووَعْيٍ، ووُصولٍ إلى القُلوبِ، وفَهْمٍ كما فَهِمَ غيرُهم مِن المُصدِّقينَ؛ لأنَّ شأْنَهم الاستمرارُ في اللَّددِ والعِنادِ والمُكابرةِ واللَّجاجِ؛ وعلى وجْهِ التَّفصيلِ: في هذا التَّشبيهِ التَّمثيليِّ [119] التشبيه: هو إلحاقُ شيءٍ بذي وصفٍ في وصفِه. وقيل: أن تُثبتَ للمشبَّهِ حُكمًا مِن أحكامِ المشبَّهِ به. وقد اتَّفقَ الأدباءُ على شرفِه في أنواعِ البلاغةِ، وأنَّه إذا جاء في أعقابِ المعاني أفادَها كمالًا، وكساها حُلَّةً وجمالًا، وهو جارٍ في كلامِ العربِ، بل هو أكثرُ كلامِهم. وينقسمُ التشبيهُ عدةَ تقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّةٍ: فمنه: التشبيهُ المفرَدُ. ومنه: التشبيهُ المركَّبُ (التَّمثيلي): هو الذي يكونُ وجهُ الشبهِ فيه منتزعًا مِن متعدِّدٍ، أو مِن أمورٍ مجموعٍ بعضُها إلى بعضٍ، كقولِه تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] ؛ فالتشبيهُ مركَّبٌ مِن أحوالِ الحمارِ. وخصَّ البيانيون لفظَ «التمثيلِ» بالتشبيهِ المركَّبِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/414)، 422)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). : التَّتميمُ [120] التتميم: هو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ متمِّمٍ للمقصودِ، أو لزيادةٍ حسنةٍ، بحيثُ إذا طُرح مِن الكلامِ نقَص معناه في ذاتِه، أو في صفاتِه. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/44). ، وذلك بعرْضِ مُختلفِ مَجالَيِ المُشاهَدةِ والاعتبارِ. وفيها الاحتراسُ [121] الاحتراس: هو التحرُّز مِن الشيءِ، والتحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو: الإتيانُ في كلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدْفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعضُ التَّكميلَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). بكلمةِ ظَلُّوا؛ خشيةَ أنْ يكونَ عُروجُهم في الظَّلامِ، فيتعَلَّلوا به على عدَمِ الاهتداءِ. وفي استعمالِ أداتَيِ الحصْرِ والإضرابِ (إنَّما- بل) دَلالةٌ على البَتِّ بأنَّ ما يرَوْنَه لا حقيقةَ له، بل هو باطلٌ خُيِّلَ إليهم بنوعٍ مِن السِّحرِ حسَبَ ادِّعائِهم؛ وإيضاحُ ذلك أنَّهم قالوا: إِنَّمَا، وهي تفيدُ الحصرَ في المذكورِ آخِرًا؛ فيكونُ الحصْرُ في الأبصارِ لا في التَّسكيرِ، فكأنَّهم قالوا: سُكِّرَت أبصارُنا لا عُقولُنا، ونحن وإنْ كنَّا نتخيَّلُ بأبصارِنا هذه الأشياءَ لكنَّنا نعلَمُ بعُقولِنا أنَّ الحالَ بخلافِه، أي: لا حقيقةَ له، ثمَّ قالوا: بَلْ كأنَّهم أضْرَبوا عنِ الحصْرِ في الأبصارِ، وقالوا: بل جاوَزَ ذلك إلى عُقولِنا بسحْرٍ صنَعَه لنا، وهذه الآياتُ مِن الرَّوائعِ الَّتي يقِفُ البَيانُ أمامَها مُذْعِنًا [122] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/227 - 228). .
4- قوله تعالى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ
- قولُه: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بيانٌ للسَّلكِ المُشبَّهِ به، أو حالٌ مِن المُجرمينَ، وهذا عامٌّ مُرادٌ به مَن ماتوا على الكُفْرِ منهم، والمُرادُ: أنَّهم لا يؤمِنونَ وقتًا ما [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/24- 25). .
- قولُه: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وجُملةِ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ، والكلامُ تعريضٌ بالتَّهديدِ بأنْ يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالأُمَمِ الماضيةِ مُعاملةً للنَّظيرِ بنَظيرِه؛ لأنَّ كونَ سُنَّةِ الأوَّلينَ مَضَت أمْرٌ معلومٌ غيرُ مُفيدٍ ذِكْرُه، فكان الخبَرُ مُستعمَلًا في لازمِه بقرينةِ تعذُّرِ الحمْلِ على أصْلِ الخبريَّةِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/25). . وقيل: هو استئنافٌ؛ جِيءَ به تكمِلةً للتَّسليةِ، وتصريحًا بالوعيدِ والتَّهديدِ لأهْلِ مكَّةَ على تكذيبِهم [125] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/70). .
- قولُه: سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ السُّنَّةُ: العادةُ المألوفةُ، وإضافتُها إلى الأوَّلينَ باعتبارِ تعلُّقِها بهم، وإنَّما هي سُنَّةُ اللهِ فيهم؛ لأنَّها المقصودُ هنا، والإضافةُ لأَدْنى مُلابَسَةٍ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/25). .
5- قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ فيه ذِكْرُ الظُّلولِ؛ ليجعَلَ عُروجَهم بالنَّهارِ؛ ليكونوا مُسْتوضِحينَ لِمَا يَرَوْنَ؛ فإنَّ (ظَلَّ) تدلُّ على الكونِ في النَّهارِ، أي: وكان ذلك في وضَحِ النَّهارِ، وتبيُّنِ الأشباحِ، وعدَمِ التَّردُّدِ في المَرْئِيِّ [127] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/573)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/26). .
6- قوله تعالى: لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ
- قولُه: لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ أَتَوا بصِيغَةِ الحصرِ (إنَّما)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم قد بَتُّوا القولَ في ذلك (بأنَّه مِن التَّخيُّلِ ولا حقيقة له)، وأنَّه ليس إلَّا تَسْكيرًا للأبصارِ [128] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/573). . ورَدُّ بعضِهم على بعضٍ ظَنٌّ أنْ يكونوا رَأَوا أبوابَ السَّماءِ وعَرَجوا فيها، وزَعَموا أنَّهم ما كانوا يُبْصِرونَ، ثمَّ أضْرَبوا عن ذلك إضرابَ المُتردِّدِ المُتحيِّرِ ينتقِلُ مِن فرْضٍ إلى فرْضٍ، فقالوا: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ؛ فعادوا إلى إلقاءِ تَبِعَةِ ذلك على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه سحَرَهم حين سأَلَ لهم اللهَ أنْ يفتَحَ بابًا مِن السَّماءِ، ففتَحَه لهم [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/26). .
- قولُه: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ في التَّعبيرِ بالجُملةِ الاسميَّةِ دَلالةٌ على دَوامِ مَضْمونِها، وإيرادُها بعدَ تَسكيرِ الأبصارِ؛ لبيانِ إنكارِهم لغيرِ ما يرَوْنَه؛ فإنَّ عُروجَ كلٍّ منهم إلى السَّماءِ وإنْ كان مَرئيًّا لغيرِه، فهو معلومٌ بطريقِ الوُجدانِ، مع قطْعِ النَّظرِ عن الأبصارِ؛ فهم يدَّعونَ أنَّ ذلك نوعٌ آخَرُ مِن السِّحرِ غيرُ تَسكيرِ الأبصارِ [130] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/70). .
- وقالوا كما حكَى الله عنهم هنا: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ دونَ أنْ يقولوا: (بل نحن مَسحورونَ)؛ لأنَّ ذِكْرَ كلمةِ (قوم) يقتضي أنَّ السِّحرَ قد تمكَّنَ منهم، واستوى فيه جميعُهم حتَّى صار مِن خصائصِ قَوميَّتِهم [131] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/208). .