موسوعة التفسير

سورةُ الفَلَقِ
الآيات (1-5)

ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

الْفَلَقِ: أي: الصُّبحِ المتصَدِّعِ عن الظُّلمةِ، وأصلُ (فلق): يدُلُّ على فُرجةٍ في الشَّيءِ [17] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 542)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 367)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/452)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 483). .
غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ: أي: اللَّيلِ المُظلِم إذا دَخَل واشتدَّ ظَلامُه، وأصلُ (غسق): يدُلُّ على ظُلمةٍ، وأصلُ (وقب): يدُلُّ على غَيبةِ شَيءٍ [18] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 542)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 353)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425) و(6/131)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 483)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 673). .
النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ: أي: السَّواحِرِ اللَّاتي يَنفُثْنَ في عُقَدِ الخَيطِ حينَ يَرقِينَ عليها. والنَّفْثُ: النَّفخُ؛ قيل: مع ريقٍ، وقيل: بدونِ ريقٍ، وأصلُ (نفث): يدُلُّ على خُروجِ شَيءٍ مِن فَمٍ، وأصلُ (عقد): يدُلُّ على شَدٍّ [19] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 542)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/86) و(5/457)، ((تفسير البغوي)) (8/596)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 477)، ((تفسير الشوكاني)) (5/640)، ((تفسير الألوسي)) (15/521). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بقَولِه: قُلْ -يا محمَّدُ- متعَوِّذًا باللهِ وَحْدَه: ألتجِئُ وأستجيرُ بخالِقِ الصَّباحِ المتصَدِّعِ عن الظُّلمةِ، مِن شَرِّ كُلِّ مخلوقٍ، ومِن شَرِّ اللَّيلِ إذا دَخَل واشتدَّ ظَلامُه، ومِن آيتهِ: القمرِ، ومِن شَرِّ السَّاحِراتِ اللَّاتي يَنفُثْنَ في عُقَدِ الخُيوطِ وَقتَ السِّحرِ، ومِن شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَد.

 تفسير الآيات:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن زَيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَحَرَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم رجُلٌ مِن اليَهودِ، فاشتكى، فأتاه جِبريلُ، فنَزَل عليه بالمعَوِّذتَينِ وقال: إنَّ رجُلًا مِنَ اليَهودِ سحَرَك، والسِّحرُ في بئرِ فُلانٍ، فأرسَلَ عليًّا فجاء به، فأمَرَه أن يَحُلَّ العُقَدَ، ويَقرَأَ آيةً، فجَعَل يَقرَأُ ويَحُلُّ، حتَّى قام النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كأنَّما أُنشِطَ مِن عِقالٍ، فما ذكَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لذلك اليَهوديِّ شَيئًا مِمَّا صَنَع به، ولا أراه في وَجْهِه!)) [20] أخرجه عبدُ بنُ حُمَيد (271)، والطَّحاويُّ في ((شرح مشكل الآثار)) (5935). قال شعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (5935): (إسنادُه على شرطِ مسلمٍ). والحديث أخرجه دونَ ذِكْرِ المعوِّذتَينِ: النَّسائيُّ (4080)، وأحمدُ (19286). صحَّحه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2761)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (351). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((سَحَرَ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَهوديٌّ مِن يَهودِ بني زُرَيْقٍ، يُقالُ له: لَبِيدُ بنُ الأعصَمِ، حتَّى كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُخَيَّلُ إليه أنَّه يَفعَلُ الشَّيءَ وما يَفعَلُه، حتَّى إذا كان ذاتَ يومٍ أو ذاتَ لَيلةٍ دعا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ دعا، ثمَّ دعا، ثمَّ قال: يا عائِشةُ، أشَعَرْتِ أنَّ اللهَ أفتاني فيما استفتَيتُه فيه؟ جاءني رجُلانِ فقَعَد أحدُهما عندَ رأسي، والآخَرُ عندَ رِجْلَيَّ، فقال الَّذي عندَ رأسي للَّذي عندَ رِجْليَّ، أو الَّذي عند رِجْليَّ للَّذي عندَ رأسي: ما وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قال: مَطبوبٌ [21] مَطْبوبٌ: أي: مسحورٌ، يُقالُ: طُبَّ الرَّجلُ بالضمِّ: إذا سُحِر، يُقالُ: كَنَوْا عن السِّحرِ بالطِّبِّ تفاؤلًا، كما قالوا لِلَّدِيغِ سَليمٌ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/228). ويُنظر أيضًا: ((الأضداد)) لابن الأنباري (ص: 231)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/ 1155). ، قال: مَن طَبَّه؟ قال: لَبِيدُ بنُ الأعصَمِ، قال: في أيِّ شَيءٍ؟ قال: في مُشْطٍ [22] المُشْط: هو الآلةُ المعروفةُ الَّتي يُسرَّحُ بها شَعرُ الرَّأسِ واللِّحيةِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/229). ومُشاطةٍ [23] المُشاطة: الشَّعرُ الَّذي يَسقُطُ مِن الرَّأسِ واللِّحيةِ عندَ التَّسريحِ بالمُشطِ. يُنظر: ((المُعْلِم بفوائد مسلم)) للمازَري (3/162). ، قال: وَجُفِّ [24] الجُفُّ: وِعاءُ الطَّلعِ، وهو الغِشاءُ الَّذي عليه. يُنظر: ((المُعْلِم بفوائد مسلم)) للمازَري (3/162).  طَلْعةِ ذَكَرٍ، قال: فأين هو؟ قال: في بئرِ ذي أروانَ [25] هي بئرٌ بالمدينةِ في بُستانِ بني زُرَيْقٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/177). ، فأتاها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في أُناسٍ مِن أصحابِه، ثمَّ قال: يا عائِشةُ، واللهِ لَكأنَّ ماءَها نُقاعةُ الحِنَّاءِ، ولَكَأنَّ نَخْلَها رُؤوسُ الشَّياطينِ. فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفلا أحرَقْتَه؟ قال: لا، أمَّا أنا فقد عافاني اللهُ، وكَرِهْتُ أن أُثيرَ على النَّاسِ شَرًّا؛ فأَمَرْتُ بها فدُفِنَت)) [26] رواه البخاري (3268)، ومسلم (2189) واللَّفظُ له. .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- متعَوِّذًا باللهِ وَحْدَه: ألتجِئُ وأستجيرُ بخالِقِ الصَّباحِ المتصَدِّعِ عن الظُّلمةِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/741، 745)، ((تفسير السمعاني)) (6/305)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/535)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937). قال ابن عطيَّة: (الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمرادُ هو وآحادُ أمَّتِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/538). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/625). قال الرَّسْعَنيُّ: (الْفَلَقِ: الصُّبحِ، في قولِ الحسَنِ، ومجاهِدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وقَتادةَ، وعامَّةِ المفسِّرينَ واللُّغَويِّينَ والعُرفِ). ((تفسير الرسعني)) (8/775). قال ابن كثير: (قال ابن جرير: والصَّوابُ... أنَّه فَلَقُ الصُّبحِ. وهذا هو الصَّحيحُ، وهو اختيارُ البُخاريِّ رحمه الله في «صحيحه»). ((تفسير ابن كثير)) (8/535). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/745)، ((صحيح البخاري)) (6/181). قال ابن عثيمين: (الفَلَقُ: الإصباحُ. ويجوزُ أن يكونَ أعمَّ مِن ذلك: أنَّ الفَلَقَ كلُّ ما يَفلِقُه اللهُ تعالى مِن الإصباحِ، والنَّوى، والحَبِّ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 352). وقال الزَّجَّاجُ: (الفَلَقُ: جميعُ المخلوقاتِ، وفَلَقُ الصُّبحِ مِن ذلك). ((معاني القرآن)) (5/379). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/504، 505). .
كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ [الأنعام: 96] .
وعن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، قال: ((سألْتُ أُبَيَّ بنَ كَعبٍ عن المعَوِّذتَينِ؟ فقال: سألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: قيل لي، فقُلتُ. فنحن نقولُ كما قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)) [28] رواه البخاري (4976). .
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2).
أي: ألتجِئُ وأستجيرُ باللهِ مِن شَرِّ كُلِّ مخلوقٍ فيه شَرٌّ؛ مِنَ الإنسِ والجِنِّ، والحيواناتِ والرِّياحِ، وغيرِ ذلك [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/745)، ((الوسيط)) للواحدي (4/572)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/215)، ((تفسير ابن كثير)) (8/535)، ((تفسير النيسابوري)) (6/601)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 352). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يتعوَّذُ مِن الجانِّ وعَينِ الإنسانِ، حتَّى نزَلَت المعَوِّذتانِ، فلَمَّا نزَلَتا أخَذَ بهما، وتَرَك ما سِواهما)) [30] أخرجه الترمذيُّ (2058) واللَّفظُ له، والنَّسائيُّ (5494)، وابنُ ماجه (3511). قال الترمذي: (حسَنٌ غريبٌ). وصَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2058)، وصحَّح إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (24/468). .
وعن خَوْلةَ بنتِ حَكيمٍ السُّلَميَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن نَزَل مَنزِلًا ثمَّ قال: أعوذُ بكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَق، لم يَضُرَّه شَيءٌ حتَّى يَرتحِلَ مِن مَنزِلِه ذلك)) [31] رواه مسلم (2708). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما لَقِيتُ مِن عَقربٍ لَدَغَتْني البارِحةَ! قال: أمَا لو قُلْتَ حينَ أمسَيتَ: أعوذُ بكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَق، لم تَضُرَّك)) [32] رواه مسلم (2709). .
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3).
أي: وأعوذُ باللهِ مِن شَرِّ اللَّيلِ إذا دَخَل واشتدَّ ظَلامُه، وأعوذُ بالله مِن آيتِه وهو القمرُ [33] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/745، 749)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/505، 533، 534)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/216)، ((تفسير ابن كثير)) (8/535)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/627، 628). وقال ابنُ القيِّم: (قال أكثَرُ المفسِّرينَ: إنَّه اللَّيلُ). ونسَبَه لابنِ عبَّاسٍ والحسَنِ ومجاهِدٍ، ثمَّ ذكَرَ أنَّ الغَسَقَ الظُّلْمةُ، ثمَّ ذكر أنَّ في تسميةِ اللَّيلِ غاسقًا قولًا آخَرَ: أنَّه مِن البَرْدِ، واللَّيلُ أبرَدُ مِن النَّهارِ، والغَسَقُ البَرْدُ. قال: (ولا تَنافيَ بيْن القَولَينِ؛ فإنَّ اللَّيلَ باردٌ مُظلِمٌ، فمَن ذكَرَ بَرْدَه فقط أو ظُلْمَتَه فقط اقتصَر على أحَدِ وصْفَيه، والظُّلْمةُ في الآيةِ أنسَبُ لمكانِ الاستِعاذةِ؛ فإنَّ الشَّرَّ الَّذي يُناسِبُ الظُّلْمةَ أَولى بالاستعاذةِ مِن البَرْدِ الَّذي في اللَّيلِ؛ ولهذا استعاذ برَبِّ الفَلَقِ الَّذي هو الصُّبحُ والنُّورُ مِن شرِّ الغاسِقِ الَّذي هو الظُّلْمةُ، فناسَبَ الوصفُ المُستعاذُ به للمعنى المطلوبِ بالاستِعاذةِ)، وأجاب عن حديثِ عائشةَ أنَّ الغاسِقَ إذا وقَبَ هو القمَرُ، فقال: (هذا التَّفسيرُ حَقٌّ، ولا يُناقِضُ التَّفسيرَ الأوَّلَ، بل يوافِقُه ويَشهَدُ بصِحَّتِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: 12] ، فالقَمَرُ هو آيةُ اللَّيلِ وسُلطانُه، فهو أيضًا غاسِقٌ إذا وَقَب، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أخبَرَ عن القَمَرِ بأنَّه غاسِقٌ إذا وَقَب، وهذا خبَرٌ صِدقٌ، وهو أصْدَقُ الخبَرِ، ولم يَنْفِ عن اللَّيلِ اسمَ الغاسِقِ إذا وَقَب، وتخصيصُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم له بالذِّكرِ لا يَنفي شُمولَ الاسمِ لِغَيرِه، والسَّبَبُ الَّذي لأجْلِه أمَرَ اللهُ بالاستعاذةِ مِن شَرِّ اللَّيلِ وشَرِّ القَمَرِ إذا وَقَب هو أنَّ اللَّيلَ إذا أقبَلَ فهو محلُّ سُلطانِ الأرواحِ الشِّرِّيرةِ الخبيثةِ، وفيه تنتشِرُ الشَّياطينُ، وفي الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ الشَّمسَ إذا غرَبَت انتشَرَت الشَّياطينُ [البخاري (3280) ومسلم (2012)]). ((بدائع الفوائد)) (2/217، 218). وقال ابنُ تيميَّةَ: (ولا مُنافاةَ بيْنَ تَفسيرِه باللَّيلِ وبالقَمَرِ؛ فإنَّ القَمَرَ آيةُ اللَّيلِ). ((مجموع الفتاوى)) (17/534). وذكر ابنُ تيميَّةَ أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَر عائشةَ بالاستعاذةِ منه مع ظُهورِه، فالقمرُ آيةُ اللَّيلِ، فأمْرُه بالاستِعاذةِ مِن ذلك أمرٌ بالاستعاذةِ مِن آيةِ اللَّيلِ ودليلِه وعلامتِه، والدَّليلُ مُستلزِمٌ للمَدلولِ، فإذا كان شرُّ القمَرِ موجودًا فشَرُّ اللَّيلِ موجودٌ، وللقمرِ مِن التَّأثيرِ ما ليس لغيرِه، فتكونُ الاستِعاذةُ مِن الشَّرِّ الحاصِلِ عنه أقوى. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/506). .
كما قال تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء: 78].
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نَظَر إلى القَمَرِ فقال: يا عائِشةُ، استَعيذي باللهِ مِن شَرِّ هذا؛ فإنَّ هذا هو الغاسِقُ إذا وَقَب)) [34] أخرجه الترمذيُّ (3366)، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (10137)، وأحمدُ (25802). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ)، وكذا قال الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3366). وصَحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/409)، وقال ابن حجر -كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (4/334)-: (حسَنٌ غريبٌ)، وحسَّنه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (40/379). .
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
عُطِفَ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ على شَرِّ اللَّيلِ؛ لأنَّ اللَّيلَ وقْتٌ يَتحيَّنُ فيه السَّحَرةُ إجراءَ شَعوذتِهم؛ لئلَّا يَطَّلِعَ عليهم أحَدٌ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/628). .
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4).
أي: وأعوذُ باللهِ مِن شَرِّ السَّاحِراتِ اللَّاتي يَنفُثْنَ في عُقَدِ الخُيوطِ وما أشبَهَها؛ حتَّى ينعَقِدَ ما أرَدْنَه مِنَ السِّحرِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/749)، ((تفسير ابن عطية)) (5/539)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/412)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937). قال الرازي: (السَّاحِرُ إذا أخذَ في قراءةِ الرُّقْيةِ أخَذَ خَيطًا، ولا يزالُ يَعقِدُ عليه عَقْدًا بعدَ عَقْدٍ، ويَنفُثُ في تلك العُقَدِ، وإنَّما أنَّث النَّفَّاثَاتِ؛ لوُجوهٍ: أحَدُها: أنَّ هذه الصِّناعةَ إنَّما تُعرَفُ بالنِّساءِ؛ لأنَّهنَّ يَعقِدنَ ويَنفُثْنَ؛ وذلك لأنَّ الأصلَ الأعظَمَ فيه رَبطُ القَلبِ بذلك الأمرِ، وإحكامُ الهِمَّةِ والوَهمِ فيه، وذلك إنَّما يتأتَّى مِنَ النِّساءِ... وثانيها: أنَّ المرادَ مِن النَّفَّاثَاتِ: النُّفوسُ. وثالثُها: المرادُ منها الجماعاتُ؛ وذلك لأنَّه كُلَّما كان اجتماعُ السَّحَرةِ على العمَلِ الواحِدِ أكثَرَ كان التَّأثيرُ أشَدَّ). ((تفسير الرازي)) (32/374). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/821). وممَّن فَسَّر النَّفَّاثاتِ بالنِّساءِ السَّاحراتِ: ابنُ جرير، وابنُ تيميَّةَ، والسعديُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/749)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/628)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 353). وممَّن ذهب في الجملةِ إلى أنَّ النَّفَّاثَاتِ هنَّ الأرواحُ والأنفُسُ النَّفَّاثاتُ، لا النِّساءُ النَّفَّاثاتُ؛ لأنَّ تأثيرَ السِّحرِ إنَّما هو مِن جهةِ الأنفُسِ الخبيثةِ، والأرواحِ الشِّرِّيرةِ، وسُلطانُه إنَّما يظهَرُ منها: ابنُ القيِّمِ، والألوسيُّ. يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/221، 222)، ((تفسير الألوسي)) (15/520). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 102] .
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
عُطِفَ شَرُّ الحاسدِ على شَرِّ السَّاحرِ المَعطوفِ على شَرِّ اللَّيلِ؛ لمُناسَبةٍ بيْنَه وبيْن المعطوفِ عليه مُباشَرةً، وبيْنه وبيْن المَعطوفِ عليه بواسطةٍ؛ فإنَّ ممَّا يَدْعو الحاسدَ إلى أذى المَحسودِ أنْ يَتطلَّبَ حُصولَ أذاهُ؛ لتَوهُّمِ أنَّ السِّحرَ يُزيلُ النِّعمةَ الَّتي حَسَدَه عليها، ولأنَّ ثَوَرانَ وجْدانِ الحسَدِ يَكثُرُ في وَقتِ اللَّيلِ؛ لأنَّ اللَّيلَ وقْتُ الخَلْوةِ، وخُطورِ الخواطِرِ النَّفسيَّةِ، والتَّفكُّرِ في الأحوالِ الحافَّةِ بالحاسدِ وبالمحسودِ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/629). .
وأيضًا لَمَّا كان أعظَمُ حاملٍ على السِّحرِ وغَيرِه مِن أذى النَّاسِ: الحسَدَ [38] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/412). ، مع اشتِراكِهما في التَّأثيرِ الخَفيِّ للحالِ -بإذْنِ الله تعالى-؛ قال عزَّ وجلَّ:
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5).
أي: وأعوذُ باللهِ مِن شَرِّ كُلِّ حاسِدٍ مِن الإنسِ والجِنِّ يتمَنَّى زَوالَ نِعمةِ اللهِ عن غَيرِه، إذا حَسَده وأراده بسُوءٍ بعَينِه الخبيثةِ، أو بقَولِه أو بفِعْلِه [39] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/751، 752)، ((تفسير ابن جزي)) (2/528)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/228-229، 233، 235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/630)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 353). قال الألوسي: (ذكروا أنَّ العائنَ والحاسدَ يَشتَرِكانِ في أنَّ كلًّا منهما تَتكيَّفُ نفْسُه وتَتوَجَّهُ نحوَ مَن تُريدُ أذاه، إلَّا أنَّ العائنَ تتكيَّفُ نفْسُه عندَ مُقابَلةِ العَينِ والمُعايَنةِ، والحاسدَ يَحصُلُ حسَدُه في الغَيبةِ والحُضورِ. وأيضًا العائنُ قد يَعِينُ مَن لا يَحسُدُه مِن حَيوانٍ وزَرعٍ، وإن كان لا يَنفَكُّ مِن حسدِ صاحِبِه). ((تفسير الألوسي)) (15/522). ويُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/ 231). وقال ابن القيِّم بعْدَ أنْ ذكر أنَّ الحاسِدَ أعَمُّ مِنَ العائِنِ؛ فكُلُّ عائِنٍ حاسِدٌ، وليس كلُّ حاسِدٍ عائِنًا: (وأصْلُه مِن إعجابِ العائنِ بالشَّيءِ، ثمَّ تَتْبَعُه كيفيَّةُ نفْسِه الخبيثةِ، ثمَّ تستعينُ على تنفيذِ سمِّها بنَظرةٍ إلى المَعِينِ، وقد يَعِينُ الرَّجُلُ نفْسَه، وقد يَعِينُ بغيرِ إرادَتِه، بل بطَبْعِه، وهذا أردَأُ ما يكونُ مِن النَّوعِ الإنسانيِّ). ((زاد المعاد)) (4/154). وقال السعدي: (ويَدخُلُ في الحاسِدِ العائِنُ؛ لأنَّه لا تَصدُرُ العَينُ إلَّا مِن حاسٍد شِرِّيرِ الطَّبعِ، خَبيثِ النَّفْسِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 937). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان إذا اشتكى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم رقاه جِبريلُ، قال: باسْمِ اللهِ يُبْرِيك، ومِن كُلِّ داءٍ يَشْفيك، ومِن شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَد، وشَرِّ كُلِّ ذي عَينٍ)) [40] رواه مسلم (2185). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ فيه استِحبابُ التَّعَوُّذِ مِمَّا ذُكِرَ فيه [41] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 302). .
2- في المعَوِّذتَينِ الاستِعاذةُ مِن كُلِّ مكروهٍ جملةً وتفصيلًا؛ فإنَّ الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما خَلَق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذُ منه، سواءٌ كان في الأجسامِ أو الأرواحِ، والاستعاذةَ مِن شَرِّ الغاسِقِ -وهو اللَّيلُ- وآيتِه -وهو القَمَرُ- تتضَمَّنُ الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتَشِرُ فيه مِن الأرواحِ الخبيثةِ الَّتي كان نورُ النَّهارِ يَحولُ بيْنَها وبيْن الانتشارِ، فلمَّا أظلَمَ اللَّيلُ عليها انتشَرَت وعاثتْ، والاستعاذةَ مِن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ تتضَمَّنُ الاستعاذةَ مِن شَرِّ السَّواحِرِ وسِحْرِهنَّ، والاستعاذةَ مِن شَرِّ الحاسِدِ تتضَمَّنُ الاستعاذةَ مِن النُّفوسِ الخبيثِة المُؤذِيةِ بحَسَدِها ونَظَرِها.
والسُّورةُ الثَّانيةُ تتضَمَّنُ الاستعاذةَ مِن شَرِّ شياطينِ الإنسِ والجِنِّ؛ فقد جمعت السُّورتانِ الاستعاذةَ مِن كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيمٌ في الاحتراسِ والتَّحَصُّنِ مِن الشُّرورِ قبْلَ وُقوعِها؛ ولهذا أوصى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عُقْبةَ بنَ عامرٍ رضيَ الله عنه بقِراءتِهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ [42] أخرجه أبو داودَ (1523)، والنَّسائيُّ (1336)، وأحمدُ (17417) واللَّفظُ لهم، والترمذيُّ (2903) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (2004)، وابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/290)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1523)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (28/ 634). وذكر ابنُ باز في ((الفوئد العلمية)) (6/335) أنَّ له طرقًا جيِّدةً. ، وفي هذا سِرٌّ عظيمٌ في استدفاعِ الشُّرورِ مِن الصَّلاةِ إلى الصَّلاةِ، وقال: ((ما تعَوَّذ مُتَعَوِّذٌ بمِثْلِهما)) [43] أخرجه مطوَّلًا أبو داودَ (1463) واللَّفظُ له، والطَّحاويُّ في ((شرح مشكل الآثار)) (127)، والطَّبَرانيُّ (17/345) (950) مِن حديثِ عُقْبةَ بنِ عامرٍ رضيَ الله عنه. صحَّحه ابنُ القيِّم في ((المنار المُنِيف)) (91)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1463)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1463). ، وقد ذُكِرَ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم سُحِرَ، وأنَّ جِبريلَ نَزَل عليه بهما، فجَعَل كُلَّما قرَأَ آيةً منهما انحَلَّت عُقدةٌ، حتَّى انحَلَّت العُقَدُ كُلُّها، وكأنَّما أُنشِطَ مِن عِقالٍ [44] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/166، 167). وحديثُ السِّحرِ المذكورُ أخرجه عبدُ بنُ حُمَيد (271)، والطَّحاويُّ في ((شرح مشكل الآثار)) (5935). قال شعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (5935): (إسنادُه على شرطِ مسلمٍ). والحديث أخرجه دونَ ذِكْرِ المعوِّذتَينِ: النَّسائيُّ (4080)، وأحمدُ (19286). صحَّحه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2761)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (351).. .
3- قال اللهُ تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ذَكَر اللهُ عزَّ وجَلَّ الغاسِقَ إذا وَقَب، والنَّفَّاثاتِ في العُقَدِ، والحاسِدَ إذا حسَدَ؛ لأنَّ البلاءَ كُلَّه في هذه الأحوالِ الثَّلاثةِ يكونُ خَفِيًّا، اللَّيلُ سَترٌ وغِشاءٌ. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل: 1] يَكمُنُ به الشَّرُّ ولا يُعلَمُ به. النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ أيضًا السِّحرُ خَفِيٌّ لا يُعلَمُ. حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ العائِنُ أيضًا خَفِيٌّ تأتي العينُ مِن شَخصٍ تَظُنُّ أنَّه مِن أحَبِّ النَّاسِ إليك وأنت مِن أحَبِّ النَّاسِ إليه، ومع ذلك يُصيبُك بالعَينِ؛ لهذا السَّبَبِ خَصَّ اللهُ هذه الأمورَ الثَّلاثةَ؛ الغاسِقَ إذا وَقَب، والنَّفَّاثاتِ في العُقَدِ، والحاسِدَ إذا حَسَد، وإلَّا فهي داخِلةٌ في قَولِه تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 354). . وقيل: معنى الاستعاذةِ مِن الغاسِقِ والنَّفَّاثاتِ والحاسِدِ بعْدَ قولِه: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ -مع أنَّه عامٌّ في كُلِّ ما يُستعاذُ منه-: التَّنبيهُ على أنَّ هذه الشُّرورَ أعظَمُ أنواعِ الشَّرِّ [46] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/375). .
4- قال اللهُ تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ حاصِلُ هذه السُّورةِ العُظمى في معناها الأبدَعِ الأَسْمى الاستعاذةُ باللهِ -بذِكْرِ اسمِه «الرَّبِّ» المقتضي للإحسانِ والتَّربيةِ بجَلْبِ النِّعَمِ ودَفعِ النِّقَمِ- مِن شَرِّ ما خلَقَ، ومِنَ السِّحرِ والحَسَدِ [47] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/419). .
5- قال اللهُ تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ وَقَعَ ترتيبُ المُستعاذِ منه في هذه السُّورةِ على كَمالِ التَّرتيبِ، انتِقالًا مِن الأعمِّ الأعلى الأبعَدِ إلى الأخصِّ الأقرَبِ الأسفَلِ، فجُعِلَتْ أربعةَ أقسامٍ:
الأوَّلُ: مِن شَرِّ المخلوقاتِ عُمومًا.
والثَّاني: شَرُّ الغاسقِ إذا وَقَبَ؛ فدَخَلَ فيه ما يُؤَثِّرُ مِن العُلْويَّاتِ في السُّفْليَّاتِ مِن اللَّيلِ، وما فيه مِن الكواكِبِ كالثُّرَيَّا وسُلْطانِه الَّذي هو القَمَرُ، ودَخَلَ في ذلك سِحْرُ التَّمزيجاتِ [48] سحرُ التَّمزيجاتِ -وهو أقوى ما يكونُ مِن السِّحرِ- أن يمزجَ بيْن القُوى النَّفْسانيَّةِ الخبيثةِ الفعَّالةِ، والقُوى الطَّبيعيَّةِ المُنفَعِلةِ. يُنظر: ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) لابن القيم (3/257). الَّذي هو أعلى السِّحرِ وأرفَعُه.
الثَّالِثُ: شَرُّ النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ، وهُنَّ السَّواحِرُ.
والرَّابعُ: الحاسِدُ، وهي النُّفوسُ المُضِرَّةُ سَفَهًا؛ فانتظمَ بذلك جميعُ أسبابِ الشُّرورِ [49] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/535). .
6- في قَولِه تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ سِرٌّ في الاستعاذةِ بربِّ الفَلَقِ في هذا الموضِعِ؛ فإنَّ الفَلَقَ الصُّبحُ الَّذي هو مَبدأُ ظُهورِ النُّورِ، وهو الَّذي يَطْرُدُ جيشَ الظَّلامِ، وعَسْكَرَ المفسِدينَ في اللَّيلِ، فيأوي كلُّ خبيثٍ وكلُّ مُفْسِدٍ وكلُّ لِصٍّ وكلُّ قاطعِ طريقٍ إلى سَرَبٍ [50] السَّرَب: الحَفِيرُ تحتَ الأرضِ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 96). أو كِنٍّ [51] الكِنُّ: وِقاءُ كلِّ شيءٍ وسِتْرُه، والغارُ ونحوُه يُسكَنُ فيه، والجمعُ: أكْنانٌ وأكِنَّةٌ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (9/335)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1228). أو غارٍ، وتأوي الهَوامُّ إلى أحجِرَتِها، والشَّياطينُ الَّتي انتشرتْ باللَّيلِ إلى أمكنَتِها ومحالِّها؛ فأمَرَ اللهُ تعالى عبادَه أنْ يَستعيذوا بربِّ النُّورِ الَّذي يَقْهَرُ الظُّلْمةَ ويُزيلُها، ويَقهَرُ عَسْكَرَها وجَيْشَها؛ ولهذا ذَكَرَ سُبحانَه أنَّه يُخرِجُ عبادَه مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، ويَدَعُ الكُفَّارَ في ظُلُماتِ كُفْرِهم؛ قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [52] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/219). [البقرة: 257] .
7- في قَولِه تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقَولِه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس: 1] سؤالٌ: كيف جاء امتثالُ هذا الأمرِ بلَفظِ الأمرِ والمأمورِ به، ومعلومٌ أنَّه إذا قيل: قُلِ: «الحَمدُ للهِ»، وقُلْ: «سُبحانَ اللهِ»؛ فإنَّ امتثالَه أنْ يقولَ: «الحَمدُ للهِ»، و«سُبحانَ اللهِ»، ولا يقولَ: «قُلْ سُبحانَ اللهِ».
الجوابُ: هذا هو السُّؤالُ الَّذي أوردَه أُبَيُّ بنُ كَعبٍ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعَينِه، وأجابَه عنه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيثُ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قيل لي، فقُلْتُ)) [53] أخرجه البخاري (4977). . وتحتَ هذا السِّرِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليس له في القُرآنِ إلَّا بلاغُه، لا أنَّه هو أنْشَأَه مِن قِبَلِ نفْسِه، بل هو المُبَلِّغُ له عن اللهِ، وقد قال اللهُ له: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فكان يَقتضي البلاغُ التَّامُّ أنْ يقولَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ كما قال اللهُ، وهذا هو المعنى الَّذي أشار إليه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقَولِه: ((قيل لي، فقُلْتُ))، أي: أنِّي لَسْتُ مُبتَدِئًا، بل أنا مُبَلِّغٌ، أقولُ كما يُقالُ لي، وأُبَلِّغُ كلامَ رَبِّي كما أنزَلَه إلَيَّ، وفي هذا ردٌّ على المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ وإخوانِهم مِمَّن يقولُ: هذا القُرآنُ العربيُّ وهذا النَّظْمُ كلامُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ابتَدأَ هو به! ففي هذا الحديثِ أبْيَنُ الرَّدِّ لهذا القَولِ، وأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بَلَّغَ القولَ الَّذي أُمِرَ بتبليغِه على وَجْهِه ولفْظِه، حتَّى إنَّه لَمَّا قيلَ له: «قُلْ»، قال هو: «قُلْ»؛ لأنَّه مُبَلِّغٌ مَحْضٌ، وما على الرَّسولِ إلَّا البَلاغُ [54] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/202). .
8- في سُورةِ الفَلَقِ الاستِعاذةُ مِن شَرِّ المخلوقاتِ عمومًا وخصوصًا؛ ولهذا قيل فيها: بِرَبِّ الْفَلَقِ؛ فإنَّ فالِقَ الإصباحِ بالنُّورِ يُزيلُ بما في نُورِه مِن الخيرِ ما في الظُّلمةِ مِن الشَّرِّ، وفالِقَ الحَبِّ والنَّوى بعْدَ انعقادِهما يُزيلُ ما في عُقَدِ النَّفَّاثاتِ؛ فإنَّ فَلْقَ الحَبِّ والنَّوى أعظمُ مِن حَلِّ عُقَدِ النَّفَّاثاتِ، وكذلك الحسَدُ هو مِن ضِيقِ الإنسانِ وشُحِّهِ لا يَنشَرِحُ صَدْرُه لإنعامِ اللهِ؛ فرَبُّ الفَلَقِ يُزيلُ ما يَحصلُ بضيقِ الحاسِدِ وشُحِّه، وهو سُبحانَه لا يَفْلِقُ شيئًا إلَّا بخيرٍ، فهو فالِقُ الإصباحِ بالنُّورِ الهادي والسِّراجِ الوَهَّاجِ الَّذي به صلاحُ العِبادِ، وهو فالِقُ الحَبِّ والنَّوى بأنواعِ الفواكهِ والأقواتِ الَّتي هي رِزْقُ النَّاسِ ودَوابِّهم، والإنسانُ محتاجٌ إلى جَلْبِ المنفعةِ مِن الهُدى والرِّزقِ، وهذا حاصِلٌ بالفَلْقِ، والرَّبُّ الَّذي فَلَقَ للنَّاسِ ما تحصُلُ به منافعُهم يُستعاذُ به ممَّا يَضُرُّ النَّاسَ، فيُطْلَبُ منه تمامُ نعمتِه بصَرفِ المؤذِياتِ عن عبْدِه الَّذي ابتدأَ بإنعامِه عليه، وفَلْقُ الشَّيءِ عن الشَّيءِ هو دليلٌ على تمامِ القُدرةِ، وإخراجُ الشَّيءِ مِن ضِدِّهِ كما يُخرِجُ الحَيَّ مِن الميِّتِ والميِّتَ مِن الحَيِّ، هذا مِن نَوعِ الفَلْقِ؛ فهو سُبحانَه قادِرٌ على دَفْعِ الضِّدِّ المؤذِي بالضِّدِّ النَّافعِ [55] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/508). .
9- في قَولِه تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ردٌّ على مَن قال: إنَّ اللهَ لم يَخلُقِ الشَّرَّ [56] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 302). !
10- في قَولِه تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ سؤالٌ عن الجَمعِ مع قَولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((والشَّرُّ ليس إليك)) [57] رواه مسلم (771) من حديث عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه. ؟
الجوابُ: أنَّ الفَرقَ بيْنَهما ظاهرٌ؛ لأنَّ قولَه تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ أضاف الشَّرَّ إلى المخلوقِ، أمَّا إلى اللهِ فلا يُضافُ الشَّرُّ، فلا شكَّ أنَّ اللهَ هو الَّذي قَدَّرَ الشَّرَّ، لكنْ قَدَّرَ الشَّرَّ في مَفعولاتِه، أمَّا تقديرُه لهذا الشَّرِّ فهو لحِكمةٍ عظيمةٍ يترتَّبُ عليها مِن المصالحِ ما يَجعَلُها غيرَ مكروهةٍ، لكنْ فَرْقٌ بيْن المفعولِ وبيْن الفِعلِ والفاعِلِ؛ فالفاعِلُ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، وهو المُقَدِّرُ، وهذا لا شَكَّ نُحِبُّه على كلِّ حالٍ، وفِعْلُه أيضًا خيرٌ على كلِّ حالٍ، أمَّا مَفعولُه ففيه خيرٌ وفيه شَرٌّ [58] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/373). ، فالشَّرُّ لا يُضافُ إلى الرَّبِّ تعالى لا وصفًا ولا فِعلًا، ولا يتسمَّى باسمِه بوجهٍ مِن الوُجوهِ، وإنَّما يَدخُلُ في مفعولاتِه بطريقِ العُمومِ [59] يُنظر: ((شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) لابن القيم (ص: 270). . والشَّرُّ مُسنَدٌ في الآيةِ إلى المخلوقِ المفعولِ، لا إلى خَلقِ الرَّبِّ تعالى الَّذي هو فِعلُه وتكوينُه؛ فإنَّه لا شرَّ فيه بوجهٍ ما؛ فإنَّ الشَّرَّ لا يَدخُلُ في شيءٍ مِن صِفاتِه ولا في أفعالِه، كما لا يَلحَقُ ذاتَه تبارَك وتعالى؛ فإنَّ ذاتَه لها الكمالُ المُطلَقُ الَّذي لا نقْصَ فيه بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، وأوصافُه كذلك لها الكمالُ المُطلَقُ والجلالُ التَّامُّ، ولا عيبَ فيها ولا نقصَ بوَجهٍ ما، وكذلك أفعالُه كلُّها خَيراتٌ مَحْضةٌ، لا شرَّ فيها أصلًا [60] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/210، 211). .
11- قال اللهُ تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ أي: مِن شَرِّ جميعِ المخلوقاتِ، ومنه النَّفْسُ؛ لأنَّ النَّفْسَ أمَّارةٌ بالسُّوءِ، فإذا قُلْتَ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ فأوَّلُ ما يدخُلُ فيه نَفْسُك [61] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 352). .
12- أمَرَ اللهُ تعالى بالاستِعاذةِ مِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وهو اللَّيلُ إذا أَظلَمَ؛ فإنَّه يَنتشِرُ فيه شَياطينُ الجِنِّ والإنسِ، والاستِعاذةُ مِن القَمرِ لأنَّه آيةُ اللَّيلِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ شَرَّ اللَّيلِ المَخوف لا يَندفِعُ بإشراقِ القَمرِ فيه، ولا يَصيرُ بذلك كالنَّهارِ، بل يُستَعاذُ منه وإنْ كان مُقْمِرًا [62] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 73). .
13- في قَولِه تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ دَلالةٌ على تأثيرِ السِّحْرِ، وأنَّ له حقيقةً، وقد أنكَرَ ذلك طائفةٌ مِن أهلِ الكلامِ مِن المعتزلةِ وغيرِهم، وقالوا: إنَّه لا تأثيرَ للسِّحْرِ البَتَّةَ؛ لا في مرَضٍ ولا قَتْلٍ، ولا حَلٍّ ولا عَقْدٍ! قالوا: وإنَّما ذلك تخيُّلٌ لأعيُنِ النَّاظِرينَ، لا حقيقةَ له سِوى ذلك! وهذا خلافُ ما تواترتْ به الآثارُ عن الصَّحابةِ والسَّلَفِ، واتَّفَقَ عليه الفُقَهاءُ، وأهلُ التَّفسيرِ والحديثِ، وأربابُ القلوبِ مِن أهلِ التَّصَوُّفِ، وما يَعْرِفُه عامَّةُ العقلاءِ، والسِّحْرُ الَّذي يُؤَثِّرُ مَرَضًا وثِقلًا، وحَلًّا وعقدًا، وحُبًّا وبُغضًا، وتَزيينًا وغيرَ ذلك مِن الآثارِ: موجودٌ تَعرِفُه عامَّةُ النَّاسِ، وكثيرٌ منهم قد عَلِمَه ذَوقًا بما أُصيبَ به منه، وقَولُه تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ دليلٌ على أنَّ هذا النَّفْثَ يَضُرُّ المسحورَ في حالِ غَيبتِه عنه، ولو كان الضَّرَرُ لا يَحصُلُ إلَّا بمُباشَرةِ البَدَنِ ظاهِرًا -كما يقولُه هؤلاء- لم يكُنْ للنَّفْثِ ولا للنَّفَّاثاتِ شَرٌّ يُستعاذُ منه، وأيضًا فإذا جاز على السَّاحرِ أنْ يَسْحَرَ جميعَ أعيُنِ النَّاظِرِينَ مع كثرتِهم حتَّى يَرَوُا الشَّيءَ بخِلافِ ما هو به، مع أنَّ هذا تَغَيُّرٌ في إحساسِهم، فما الَّذي يُحِيلُ تأثيرَه في تغييرِ بعضِ أعراضِهم وقُواهم وطِباعِهم؟ وما الفَرقُ بيْن التَّغييرِ الواقِعِ في الرُّؤيةِ، والتَّغييرِ في صفةٍ أُخرى مِن صفاتِ النَّفْسِ والبَدَنِ؟ فإذا غَيَّرَ إحساسَه حتَّى صار يرى السَّاكِنَ متحَرِّكًا، والمتَّصِلَ مُنفَصِلًا، والميِّتَ حَيًّا، فما المُحيلُ لأن يغَيِّرَ صِفاتِ نَفْسِه حتَّى يجعلَ المحبوبَ إليه بغيضًا، والبغيضَ محبوبًا، وغيرِ ذلك مِن التَّأثيراتِ [63] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/227). ؟! فالسِّحرُ له حقيقةٌ يُخشى مِن ضَرَرِه، ويُستعاذُ باللهِ منه ومِن أهْلِه [64] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 937). .
14- في قَولِه تعالى: النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ سؤالٌ: أنَّ السِّحْرَ يكونُ مِن الذُّكورِ والإناثِ، فلِمَ خَصَّ الاستعاذةَ مِن الإناثِ دونَ الذُّكورِ؟
الجوابُ: أنَّ النَّفَّاثاتِ هنا هُنَّ الأرواحُ والأنفُسُ النَّفَّاثاتُ، لا النِّساءُ النَّفَّاثاتُ -على قولٍ في التَّفسير-؛ لأنَّ تأثيرَ السِّحْرِ إنَّما هو مِن جهةِ الأنْفُسِ الخَبيثةِ، والأرواحِ الشِّرِّيرةِ، وسُلطانُه إنَّما يَظْهَرُ منها؛ فلهذا ذُكِرَتِ النَّفَّاثاتُ هنا بلَفظِ التَّأنيثِ دونَ التَّذكيرِ [65] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/221). . أو: أنَّه جيءَ بصِفةِ المؤَنَّثِ؛ لأنَّ الغالِبَ عندَ العَرَبِ أن يتعاطى السِّحرَ النِّساءُ؛ لأنَّ نِساءَهم لا شُغلَ لهُنَّ بعدَ تهيئةِ لَوازمِ الطَّعامِ والماءِ والنَّظافةِ؛ فلذلك يَكثُرُ انكِبابُهنَّ على مِثْلِ هاته السَّفاسِفِ مِن السِّحرِ والتَّكَهُّنِ ونحوِ ذلك، فالأوهامُ الباطِلةُ تتفَشَّى بيْنَهنَّ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/628). .
15- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ قال ابنُ عبَّاسٍ وعَطاءٌ: (مِن نَفْسِ ابنِ آدَمَ وعَينِه)؛ ففيه أنَّ العَينَ حَقٌّ [67] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 302). .
16- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ الحاسِدُ هو الَّذي يحِبُّ زوالَ النِّعمةِ عن المحسودِ، فيَسعى في زَوالِها بما يَقدِرُ عليه مِنَ الأسبابِ؛ فاحتِيجَ إلى الاستِعاذةِ باللهِ مِن شَرِّه، وإبطالِ كَيْدِه، فهذه السُّورةُ تضَمَّنَت الاستعاذةَ من جميعِ أنواعِ الشُّرورِ عُمومًا وخُصوصًا [68] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 937). .
17- في قَولِه تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ جاء في السُّورةِ ذِكْرُ الحاسدِ دونَ العائنِ؛ لأنَّه أعمُّ، فكلُّ عائنٍ حاسِدٌ ولا بُدَّ، وليس كلُّ حاسدٍ عائنًا، فإذا استعاذ مِن شَرِّ الحَسَدِ دَخَلَ فيه العَينُ، وهذا مِن شُمولِ القُرآنِ الكريمِ وإعجازِه وبلاغتِه [69] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/233). .
18- قال اللهُ تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ قال بَعضُ الحُكَماءِ: بارَزَ الحاسِدُ رَبَّه مِن خمسةِ أوجُهٍ:
أحَدُها: أنَّه أبغَضَ كُلَّ نِعمةٍ ظهَرَت على غَيرِه.
وثانيها: أنَّه ساخِطٌ لقِسمةِ رَبِّه، كأنَّه يقولُ: لِمَ قَسَمْتَ هذه القِسمةَ؟
وثالثُها: أنَّه ضادَّ فِعلَ اللهِ، أي: أنَّ فَضلَ اللهِ يُؤتيه مَن يشاءُ، وهو يَبخَلُ بفَضلِ اللهِ.
ورابِعُها: أنَّه خَذَل أولياءَ اللهِ، أو يُريدُ خِذْلانَهم وزَوالَ النِّعمةِ عنهم.
وخامِسُها: أنَّه أعان عَدُوَّه إبليسَ [70] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/260). .
وقد قيل: ليس شيءٌ مِن الشرِّ أضرُّ مِن الحسدِ؛ لأنَّه يصِلُ إلى الحاسدِ خمسُ عقوباتٍ، قبلَ أنْ يصِلَ إلى المحسودِ مكروهٌ:
أولُها: غمٌّ لا ينقطِعُ. والثاني: مصيبةٌ لا يؤجرُ عليها. والثالثُ: مذمَّةٌ لا يُحمدُ بها. والرابعُ: يُسخِطُ عليه الربَّ. والخامسُ: تُغلَقُ عليه أبوابُ التَّوفيقِ [71] يُنظر: ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 177، 178). .
19- قال اللهُ تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ شَرُّ الحاسِدِ ومَضَرَّتُه إنَّما تَقَعُ إذا أمضى حَسَدَه، فحينَئذٍ يَضُرُّ بقَولِه أو بفِعْلِه أو بإصابتِه بالعَينِ؛ فإنَّ عينَ الحَسُودِ قاتِلةٌ، وأمَّا إذا لم يُمْضِ حَسَدَه ولم يتصَرَّفْ بمُقْتضاه فشَرُّه ضَعيفٌ [72] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/528). . فالحاسِدُ لا يَضُرُّ إلَّا إذا ظَهَر حَسَدُه بفِعلٍ أو قَولٍ، وذلك بأن يحمِلَه الحَسَدُ على إيقاعِ الشَّرِّ بالمحسودِ، فيَتبعَ مَساوِيَه، ويَطلُبَ عَثَراتِه، والحسَدُ أوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ به في السَّماءِ، وأوَّلُ ذَنبٍ عُصِيَ به في الأرضِ؛ فحَسَد إبليسُ آدَمَ، وحَسَد قابيلُ هابيلَ [73] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/259). .
20- قال اللهُ تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ أصلُ الحَسَدِ هو بُغضُ نِعمةِ اللهِ على المحسودِ، وتمَنِّي زوالِها؛ فالحاسِدُ عَدُوُّ النِّعَمِ، وهذا الشَّرُّ هو مِن نفْسِ الحاسِدِ وطَبْعِها، ليس هو شيئًا اكتسَبَه مِن غَيرِها، بل هو مِن خُبثِها وشَرِّها، بخِلافِ السِّحرِ؛ فإنَّه إنَّما يكونُ باكتسابِ أمورٍ أُخرى، واستِعانةٍ بالأرواحِ الشَّيطانيَّةِ؛ فلهذا -واللهُ أعلَمُ- قَرَن في السُّورةِ بيْن شَرِّ الحاسِدِ وشَرِّ السَّاحِرِ؛ لأنَّ الاستعاذةَ مِن شَرِّ هذينِ تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يأتي مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ؛ فالحسَدُ مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ، والسِّحرُ مِنَ النَّوعَينِ [74] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/233). .
21- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ يَعُمُّ الحاسِدَ مِن الجِنِّ والإنسِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ وحِزبَه يَحسُدونَ المؤمِنينَ على ما آتاهم اللهُ تعالى مِن فَضْلِه، كما حَسَد إبليسُ أبانا آدَمَ، وهو عَدُوٌّ لذُرِّيَّتِه، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] ، ولكِنَّ الوَسواسَ أخَصُّ بشياطينِ الجِنِّ، والحَسَدَ أخَصُّ بشياطينِ الإنسِ، والوَسواسُ يَعُمُّهما، والحَسَدُ يَعُمُّهما أيضًا، فكِلا الشَّيطانينِ حاسِدٌ مُوسوِسٌ؛ فالاستعاذةُ مِن شَرِّ الحاسِدِ تتناوَلُهما جميًعا؛ فقد اشتمَلَت السُّورةُ على الاستعاذةِ مِن كُلِّ شَرٍّ في العالَمِ [75] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/235). .
22- قال اللهُ تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ الحامِلُ على الحسَدِ أصْلُه أمْرانِ:
الأوَّلُ: ازدراءُ المحسودِ.
والثَّاني: إعجابُ الحاسِدِ بنَفْسِه [76] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/165). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ
- الخِطابُ بلَفظِ قُلْ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذ قد كان قُرآنًا كان خِطابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم به يَشملُ الأُمَّةَ حيث لا دَليلَ على تَخصيصِه به؛ فلذلك أمَرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بَعضَ أصحابِه بالتَّعوُّذِ بهذه السُّورةِ، فتكونُ صِيغةُ الأمرِ المُوجَّهةُ إلى المُخاطَبِ مُستعمَلةً في مَعنيَيِ الخِطابِ مِن تَوجُّهِه إلى مُعيَّنٍ -وهو الأصلُ-، ومِن إرادةِ كلِّ مَن يَصِحُّ خِطابُه، وهو طَريقٌ مِن طُرقِ الخِطابِ تدُلُّ على قَصْدِه القرائنُ، فيكونُ مِن استعمالِ المُشتركِ في مَعْنيَيه، واستعمالُ صِيغةِ التَّكلُّمِ في فِعلِ أَعُوذُ يَتبَعُ ما يُرادُ بصِيغةِ الخِطابِ في فِعلِ قُلْ؛ فهو مَأمورٌ به لكلِّ مَن يُريدُ التَّعوُّذَ بها [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/625، 626). .
- ولَفظُ الرَّبِّ هنا أوقَعُ مِن سائرِ أسمائِه تعالَى؛ لأنَّ الإعاذةَ مِن المَضارِّ تَربيةٌ [78] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/348). .
- وفِي تَعليقِ العِياذِ باسمِ الرَّبِّ المُضافِ إلى الفَلَقِ المُنبئِ عن النُّورِ عَقِيبَ الظُّلمةِ، والسَّعةِ بعْدَ الضِّيقِ، والفَتْقِ بعْدَ الرَّتْقِ؛ عِدَةٌ كَريمةٌ بإعاذةِ العائذِ مِمَّا يَعوذُ منْه، وإنجائِه منْه، وتَقويةٌ لرَجائِه بتَذكيرِ بَعضِ نَظائرِه، ومَزيدُ تَرغيبٍ له في الجِدِّ والاعتناءِ بقَرْعِ بابِ الالتِجاءِ إليه تعالَى [79] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/348)، ((تفسير أبي السعود)) (9/214). .
- ورَبُّ الفَلَقِ: هو اللهُ سُبحانَه؛ لأنَّه الَّذي خَلَقَ أسبابَ ظُهورِ الصُّبحِ، وتَخصيصُ وَصْفِ اللهِ بأنَّه ربُّ الفَلَقِ دونَ وصْفٍ آخَرَ؛ لأنَّ شرًّا كثيرًا يَحدُثُ في اللَّيلِ مِن لُصوصٍ، وسِباعٍ، وذَواتِ سُمومٍ، وتَعذُّرِ السَّيرِ، وعُسرِ النَّجدةِ، وبُعدِ الاستِغاثةِ، واشتِدادِ آلامِ المَرْضى، حتَّى ظنَّ بَعضُ أهلِ الضَّلالةِ اللَّيلَ إلهَ الشَّرِّ، والمعْنى: أعوذُ بفالِقِ الصُّبحِ مَنجاةً مِن شُرورِ اللَّيلِ؛ فإنَّه قادرٌ على أنْ يُنجِيَني في اللَّيلِ مِن الشَّرِّ كما أنْجى أهلَ الأرضِ كلَّهم بأنْ خَلَقَ لهم الصُّبحَ، فوُصِفَ اللهُ بالصِّفةِ الَّتي فيها تَمهيدٌ للإجابةِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/626). .
- وكُرِّرَ مِنْ شَرِّ أربعَ مرَّاتٍ؛ لأنَّ شرَّ كلٍّ منهما غيرُ شرِّ البَقيَّةِ عنها [81] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 257)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/556)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 633). . أو ذُكِرَت كَلمةُ مِنْ شَرِّ أربعَ مرَّاتٍ مع أنَّ حرْفَ العطفِ مُغْنٍ عن إعادةِ العامِلِ؛ قصْدًا لتَأكيدِ الدُّعاءِ؛ تَعرُّضًا للإجابةِ، وهذا مِن الابتهالِ، فيُناسِبُه الإطنابُ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/627). .
2- قولُه تعالَى: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ فيه تَخصيصٌ لبَعضِ الشُّرورِ بالذِّكرِ مع اندراجِه فيما قبْلَه؛ للحاجةِ الماسَّةِ إلى الاستعاذةِ منه؛ لكَثرةِ وُقوعِه، ولأنَّها الأسبابُ القَريبةُ للمَضرَّةِ، ولأنَّ تَعيينَ المُستعاذِ منه أدَلُّ على الاعتناءِ بالاستعاذةِ، وأدْعَى إلى الإعاذةِ [83] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/349)، ((تفسير أبي السعود)) (9/214). . أو فائدةُ التَّخصيصِ تَعظيمُ شرِّها، ودفْعُ تَوهُّمِ أنَّه لا شرَّ لها؛ لخَفائِه فيها، وأنَّه يَلحَقُ الإنسانَ مِن حيث لا يَعلَمُ، كأنَّما يُغتالُ به [84] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/822)، ((تفسير أبي حيان)) (10/576)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 633). .
- والغاسِقُ: وَصْفُ اللَّيلِ إذا اشتَدَّت ظُلمتُه، يُقالُ: غَسَقَ اللَّيلُ يَغسِقُ؛ إذا أظْلَمَ؛ فالغاسقُ صِفةٌ لمَوصوفٍ مَحذوفٍ؛ لظُهورِه مِن معْنى وَصْفِه [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/627). .
- وإضافةُ الشَّرِّ إلى اللَّيلِ؛ لمُلابَستِه له بحُدوثِه فيه. وتَنكيرُ غَاسِقٍ؛ لعَدَمِ شُمولِ الشَّرِّ لجَميعِ أفرادِه، ولا لكُلِّ أجزائِه. أو تَنكيرُ غَاسِقٍ للجِنسِ؛ لأنَّ المرادَ جِنسُ اللَّيلِ، وتَنكيرُ غَاسِقٍ في مَقامِ الدُّعاءِ يُرادُ به العُمومُ؛ لأنَّ مَقامَ الدُّعاءِ يُناسِبُ التَّعميمَ [86] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/822)، ((تفسير أبي السعود)) (9/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/627). .
- وتَقييدُ ذلك بظَرْفِ إِذَا وَقَبَ، أي: إذا اشتَدَّت ظُلمتُه؛ لأنَّ ذلك وقْتٌ يَتحيَّنُه الشُّطَّارُ [87] الشُّطَّارُ: جمعُ الشَّاطِرِ، وهو مَن أعيا أهْلَه ومؤدِّبَه خُبثًا ومَكرًا. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (12/171). وأصحابُ الدَّعارةِ والعَيثِ؛ لتَحقُّقِ غَلَبةِ الغفْلةِ والنَّومِ على النَّاسِ فيه، فحُدوثُ الشَّرِّ فيه أكثرُ، والتَّحرُّزُ منه أصعَبُ وأعسَرُ؛ فخُصَّ بالتَّعوُّذِ أشدُّ أوقاتِ اللَّيلِ تَوقُّعًا لحُصولِ المَكروهِ [88] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/821)، ((تفسير البيضاوي)) (5/348)، ((تفسير أبي حيان)) (10/575)، ((تفسير أبي السعود)) (9/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/627، 628). .
3- قولُه تعالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ
- إنَّما جُعِلَت الاستِعاذةُ مِن النَّفَّاثاتِ لا مِن النَّفْثِ، فلم يُقَلْ: إذا نَفَثْنَ في العُقَدِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ نَفْثَهنَّ في العُقَدِ ليس بشَيءٍ يَجلِبُ ضرًّا بذاتِه، وإنَّما يَجلِبُ الضُّرَّ النَّافثاتُ، وهنَّ مُتعاطياتُ السِّحرِ؛ لأنَّ السَّاحرَ يَحرِصُ على ألَّا يَترُكَ شَيئًا ممَّا يُحقِّقُ له ما يَعمَلُه مِن أجْلِه إلَّا احتالَ على إيصالِه إليه [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/629). .
- وعرَّفَ النَّفَّاثَاتِ ونكَّر ما قبْلَها وما بعْدَها؛ لأنَّ كلَّ نفَّاثةٍ لها شرٌّ، وليس كلُّ غاسقٍ وحاسدٍ له شرٌّ [90] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/822)، ((تفسير البيضاوي)) (5/348)، ((تفسير أبي حيان)) (10/577)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 633، 634). ، أو تَعريفُ النَّفَّاثَاتِ تَعريفُ الجِنسِ، وهو في معْنى النَّكرةِ؛ فلا تَفاوُتَ في المعْنى بيْنَه وبيْن قولِه: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ [الفلق: 3] وقولِه: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ [الفلق: 5] ، وإنَّما أُوثِرَ لَفظُ النَّفَّاثَاتِ بالتَّعريفِ؛ لأنَّ التَّعريفَ في مِثلِه للإشارةِ إلى أنَّه حَقيقةٌ مَعلومةٌ للسَّامعِ، وتَعريفُ النَّفَّاثَاتِ باللَّامِ إشارةٌ إلى أنَّهنَّ مَعهوداتٌ بيْن العرَبِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/629). .
أو التَّعريفُ إمَّا للعهدِ، أوْ للإيذانِ بشُمولِ الشَّرِّ لجَميعِ أفرادِهِنَّ، وتَمَحُّضِهنَّ فيه [92] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/215). .
4- قولُه تعالَى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ
- تَخصيصُ ذِكرِ الحسَدِ؛ لأنَّه العُمدةُ في إضرارِ الإنسانِ، بلِ الحيوانِ وغَيرِه [93] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/348). .
- وتَقييدُ الاستِعاذةِ مِن شرِّ الحاسدِ بوَقتِ إِذَا حَسَدَ؛ لأنَّه حِينَئذٍ يَندفِعُ إلى عمَلِ الشَّرِّ بالمَحسودِ حِينَ يَجيشُ الحسَدُ في نفْسِه، فتَتحرَّكُ له الحِيَلُ والنِّيَّاتُ لإلحاقِ الضُّرِّ به، فلا يَعودُ ضَررٌ منه قبْلَ ذلك إلى المحسودِ، بل يُخَصُّ به؛ لاغتِمامِه بسُرورِه [94] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/348)، ((تفسير أبي حيان)) (10/576)، ((تفسير أبي السعود)) (9/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/630). . وقيل: المرادُ مِن الحسَدِ في قَولِه: إِذَا حَسَدَ حسَدٌ خاصٌّ، وهو البالِغُ أشَدَّ حَقيقتِه؛ فلا إشكالَ في تَقييدِ الحسَدِ بـ حَسَدَ [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/630). قال ابن القيِّم: (وتأمَّلْ تقييدَه سُبحانَه شرَّ الحاسِدِ بقولِه: إِذَا حَسَدَ؛ لأنَّ الرَّجُلَ قد يكونُ عندَه حسَدٌ ولكنْ يُخْفيه، ولا يُرَتِّبُ عليه أذًى بوَجْهٍ ما؛ لا بقلبِه ولا بلِسانِه ولا بيَدِه، بل يَجِدُ في قلبِه شيئًا مِن ذلك ولا يُعامِلُ أخاه إلَّا بما يُحِبُّ اللهُ، فهذا لا يكادُ يَخلو منه أحدٌ إلَّا مَن عصَمَه اللهُ. وقيل للحسَنِ البصريِّ: أيَحْسُدُ المؤمنُ؟ قال: ما أنساك إخوةَ يوسُفَ! لكنَّ الفرقَ بيْن القوَّةِ الَّتي في قلبِه مِن ذلك وهو لا يُطيعُها، ولا يأْتَمِرُ بها، بل يَعصيها طاعةً لله، وخَوفًا وحَياءً منه، وإجلالًا له أن يَكرَهَ نِعَمَه على عِبادِه، فيَرى ذلك مُخالَفةً لله، وبُغضًا لِما يُحِبُّ اللهُ، ومحَبَّةً لِما يُبغِضُه، فهو يجاهِدُ نفْسَه على دفْعِ ذلك، ويُلزِمُها بالدُّعاءِ للمحسودِ، وتمَنِّي زيادةِ الخَيرِ له، بخِلافِ ما إذا حقَّق ذلك وحسَدَ، ورتَّب على حسَدِه مُقتضاه مِن الأذى بالقلبِ واللِّسانِ والجَوارحِ؛ فهذا الحسدُ المذمومُ هو كلُّه حسَدُ تمنِّي الزَّوالِ). ((بدائع الفوائد)) (2/236). .
- وفي قَولِه: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 3-5] مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قُيِّدَ بالظَّرفِ في قَولِه تعالَى: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وفي قَولِه: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، فلم تَقَعِ الاستِعاذةُ مِن شرِّ هَذينِ إلَّا بتَقييدِ الوُقوبِ في الغاسقِ، ووُقوعِ الحسَدِ مِن الحاسدِ، وأُطلِقَ حكْمُ الاستعاذةِ مِن شرِّ النَّفَّاثاتِ -وهُنَّ السَّاحراتُ- ولم يُقَلْ: (إذا نَفثْنَ) أو (سَحَرْنَ)، فيُقيَّدَ كما قُيِّدَ ما قبْلُ وما بعْدُ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ قولَه سُبحانه في سُورةِ (طه): وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] إطلاقٌ حاكمٌ بتَمادِيه وتَمادي حُكمِه على تلك الصِّفةِ المذمومةِ، فلم يكُنِ التَّقييدُ في آيةِ الفَلَقِ لو قِيل: (إذا كذا) ليُطابِقَ ما وَرَدَ في سُورةِ (طه) مِن الإطلاقِ، والسِّحرُ شَرٌّ مُطلَقٌ؛ فوَرَدَ التَّعوُّذُ منه مُطلَقًا. أمَّا الغاسقُ فإنَّه اللَّيلُ إذا أظلَمَ، وليس الشَّرُّ منه بما هو لَيلٌ مُظلِمٌ، إنَّما هو سِتْرٌ لِذَوي الشَّرِّ؛ لاحتِجابِهِم بظُلمتِه عن أعيُنِ النَّاسِ، فيُوقِعون فيه شَرَّهم، فالشَّرُّ فيه لا منه، ألَا تَرى أنَّه لأهلِ الخيرِ رَحمةٌ ونِعمةٌ، وكذلك لكلِّ مَن لا يَترصَّدُه لشَرٍّ، وتَردَّدَ ذِكرُ اللَّيلِ في غيرِ ما آيةٍ في كِتابِ اللهِ مَعدودًا في نِعَمِ اللهِ تعالَى على عِبادِه، وهو شَقيقُ النَّهارِ في تلك. ثمَّ إنَّه مِن حيثُ هو لِباسٌ وسِترٌ عن الأعيُنِ، فيُمكِنُ فيه لأهلِ الشَّرِّ ما لا يُمكِنُهم في نَهارِهم، فيَسْتَحكِمُ فيه شَرُّهم عندَ امتدادِ ظُلْمتِه؛ لأمْنِهم مِن النَّاسِ في ذلك، فتَبيَّنَ أنَّه ليس شَرًّا بما هو لَيلٌ، إنَّما الشَّرُّ فيه وعندَه، لا به بما هو لَيلٌ ولا منه، ولا يَتمكَّنُ مَطلوبُ ذوي الشَّرِّ إلَّا في ظُلمتِه، فنِسبةُ الشَّرِّ إليه بهذا الوجْهِ، والإضافةُ في لِسانِ العرَبِ تكونُ بأدْنى مُلابَسةٍ.
وأمَّا الحاسدُ فإنَّ القائمَ بنفْسِه مِن هذه الصِّفةِ قبْلَ أنْ يُمضِيَ يُمكِنُ أنْ يُنفِذَها حَسَدًا، ويُمكِنُ أنْ يُنفِذَها غِبطةً، فإذنْ لا يَتبيَّنُ كَونُه حسَدًا إلَّا بعْدَ أنْ يُمضِيَ ويُوقِعَ، ألَا تَرى اتِّحادَ ما يَقومُ بالنَّفْسِ أوَّلًا مِن هذه الصِّفةِ. بَيانُ ذلك أنَّ كلَّ عاقلٍ -بما هو عاقلٌ- إذا رأى نِعمةً على غيرِه مِن دِينٍ أو دُنيا، أعجَبَتْه وتَمنَّاها لنفْسِه، فإنْ أراد زَوالَها عمَّن ظَهَرَت عليه، وانفرادَه هو بها؛ فهذا هو الحسَدُ المذمومُ، وإنْ تَمنَّى مِثلَها أو أكثَرَ، وبَقاءَ تلك على صاحبِها؛ فهذه هي الغِبطةُ، وهي مِن صِفاتِ المؤمنينَ. فقد وضَحَ أنَّه إنَّما يكونُ حَسَدًا ويُوصَفُ بتلك الصِّفةِ عندَ ظُهورِه ووُقوعِه على الصِّفةِ المذمومةِ، وأمَّا قبْلَ ذلك فلا شَرَّ فيه ولا هو شرٌّ، فلمَّا كان حالُ الحسَدِ على ما ذُكِرَ، وحالُ الغاسقِ على ما تَقدَّم؛ لذلك وَقَعَ التَّقييدُ في الاستعاذةِ مِن شَرِّهما بالظَّرفِ فقِيل: إِذَا وَقَبَ وإِذَا حَسَدَ، ولم يقَعْ تَقييدٌ في الاستعاذةِ مِن شرِّ السَّحَرةِ، وجاء كلٌّ مِن ذلك على ما يُناسِبُ [96] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/517، 518). .