موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: أُفُولُ المَدرَسةِ الاعتِزاليَّةِ القديمةِ


لم تكُنِ المَدرَسةُ الاعتزاليَّةُ محَلَّ القَبولِ في الجُملةِ عِندَ النَّاسِ، سواءٌ خاصَّتُهم وعامَّتُهم، إلَّا حالاتٍ قليلةً لها ظروفُها وعوامِلُها المساعِدةُ؛ ممَّا كان يُبَشِّرُ بأُفولِ هذه المَدرَسةِ وانزوائِها، وهنا نُسَلِّطُ الضَّوءَ على أُفولِ تلك المَدرَسةِ.
ولم تكُنْ كراهيةُ المُعتَزِلةِ ورَفضُهم مقصورةً على العُلَماءِ، بل كانوا مكروهينَ من العامَّةِ؛ لأنَّ المُعتَزِلةَ أيَّامَ دَولتِهم في عَهدِ المأمونِ والمعتَصِمِ والواثِقِ عَسَفوا بالنَّاسِ مِن كُلِّ فِئةٍ، واستباحوا دماءَهم وملَؤوا منهم السُّجونَ؛ فكانوا عِبئًا ثقيلًا على النَّاسِ عُلَماءَ وعامَّةً.
فلمَّا جاء عَهدُ المتوكِّلِ وفَّقَه اللهُ إلى إبطالِ القَولِ بخَلقِ القرآنِ، وذلك سنةَ 234هـ بَعدَ أن عانى منها المُسلِمون مُدَّةَ 15 عامًا، وكان ذلك بتوفيقٍ من اللهِ له بعدَمِ اقتناعِه بهذا القولِ، ثمَّ لقُوَّةِ الرَّأيِ العامِّ ضِدَّ المُعتَزِلةِ، وكراهيةِ النَّاسِ لهم، فأعاد الحقَّ إلى نِصابِه.
قال السُّيوطيُّ: (استقدم المحَدِّثينَ إلى سامَرَّاءَ، وأجزَل عطاياهم وأكرَمهم، وأمَرَهم بأن يحَدِّثوا بأحاديثِ الصِّفاتِ والرُّؤيةِ... وتوفَّر دُعاءُ الخَلقِ للمُتوكِّلِ وبالغوا في الثَّناءِ عليه والتَّعظيمِ له) [1610] ((تاريخ الخلفاء)) (ص: 230). . وبذلك أزاح المتوكِّلُ هذا العِبءَ الثَّقيلَ عن كاهِلِ المُسلِمين، ودالت الدَّولةُ إلى المـُحَدِّثين، وانتَصروا انتصارًا كبيرًا، وأفَل نجمُ المُعتَزِلةِ، ولم يجرُؤْ أحدٌ على الجَهرِ باعتزالِه، ولم يستَرِدَّ المُعتَزِلةُ سُلطتَهم يومًا بَعدَ ذلك، ولم تَزَلْ عُلومُهم العَقليَّةُ المجرَّدةُ عن النُّصوصِ في خُمودٍ.
ولا يُنكَرُ قيامُ جماعةٍ من الفلاسِفةِ -كالفارابيِّ، وابنِ سِينا، وابنِ رُشدٍ، والكِنديِّ، وأمثالِهم- على أنقاضِ المُعتَزِلةِ، ولكِنَّ الفرقَ بَينَهم وبَينَ المُعتَزِلةِ كبيرٌ؛ إذ إنَّ المُعتَزِلةَ أكثَرُ عَمَلًا بَينَ صُفوفِ المُسلِمين من الفلاسِفةِ فقط، فكان هَمُّ المُعتَزِلةِ إقامةَ دولةٍ اعتزاليَّةٍ، وبَثَّ الأفكارِ بَينَ مختَلِفِ الطَّبَقاتِ، وسلَكوا لهذا طُرُقًا عِدَّةً، وكانوا يَدُسُّون اعتزالَهم في ثنايا قَولِهم ومَنطِقِهم الفَصيحِ، وعبارتِهم السَّائغةِ لكُلِّ الأذواقِ، وقرأ النَّاسُ ما كتبوا إن لم يكُنْ لاعتزالِهم فلأدَبِهم وبلاغتِهم [1611] يُنظر: ((ضحى الإسلام)) لأمين (3/205). .
وحصَل لهم ما أرادوا، فقامت لهم دولةٌ، لكِنَّهم لم يُحسِنوا قيادتَها، فلم تلبَثْ أنِ انهارت فوقَ رُؤوسِهم. أمَّا أولئك الفلاسِفةُ فلم يهتَمُّوا بما اهتَمَّ به المُعتَزِلةُ؛ فكانت عباراتُ عِلمِهم وكتُبِهم عباراتٍ ثقيلةً لا يكادُ يَفهَمُها إلَّا من سلَك سبيلَهم، فكأنَّما وضعوها ليُقنِعَ بعضُهم بها بعضًا، وما التفَتوا إلى غيرِهم.

انظر أيضا: