موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: عذابُ القبرِ ونَعيمُه


الشَّائِعُ المشهورُ أنَّ المُعتَزِلةَ يُنكِرون عذابَ القبرِ ونعيمَه على الإطلاقِ، وهذا ما نقله كثيرٌ من المصَنِّفين، منهم الأشعريُّ؛ حيث يقولُ: (واختلفوا في عذابِ القبرِ؛ فمنهم من نفاه، وهم المُعتَزِلةُ والخوارجُ) [1532] ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 116). .
وأمَّا الإيجي فقال: (أنكره ضِرارُ بنُ عَمرٍو، وبِشرٌ المِرِّيسيُّ، وأكثَرُ المتأخِّرين من المُعتَزِلةِ) [1533] ((المواقف)) (ص: 382). .
بينما يؤكِّدُ القاضي عبدُ الجَبَّارِ إجماعَ الأمَّةِ على الاعترافِ بعذابِ القبرِ ونعيمِه، ويخَصِّصُ لهذا المبحثِ فَصلًا كاملًا في كتابِه (شرحُ الأُصولِ الخَمسةِ) عُنوانُه: (فَصلٌ في عذابِ القبرِ)، ذكَر فيه أنَّه لا خلافَ بَينَ الأمَّةِ في عذابِ القبرِ إلَّا ما نُقِل عن ضِرارِ بنِ عَمرٍو الذي انفصل عن المُعتَزِلةِ، والتَحَق بالمُجْبِرةِ، وأنَّ القولَ بأنَّ المُعتَزِلةَ يُنكِرونَ عذابَ القبرِ ولا يُقِرُّونَ به هو من تشنيعاتِ ابنِ الرَّاوَنْديِّ.
قال عبدُ الجَبَّارِ: (وجملةُ القولِ في ذلك: أنَّه لا خلافَ فيه بَينَ الأمَّةِ إلَّا شيءٌ يُحكى عن ضِرارِ بنِ عَمرٍو، وكان من أصحابِ المُعتَزِلةِ ثمَّ التَحَق بالمُجْبِرةِ؛ ولهذا ترى أنَّ ابنَ الرَّاوَنديِّ يُشَنِّعُ علينا ويقولُ: إنَّ المُعتَزِلةَ يُنكِرون عذابَ القَبرِ ولا يُقِرُّون به) [1534] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 730). .
وذكر القاضي عبدُ الجَبَّارِ أنَّ الكلامَ فيه يقعُ في أربعةِ مَواضِعَ؛ أحَدُها: في ثُبوتِه، والثَّاني: في كيفيَّتِه، والثَّالثُ: في الوقتِ الذي يقعُ فيه، والرَّابع: في فائِدتِه [1535] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 730). .
وذكر أنَّ تعيينَ وَقتِ عذابِ القبرِ ممَّا لا طريقَ إليه، وقال: (من الجائِزِ أن يكونَ بَينَ النَّفخَتَينِ، على ما قال الله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 100-101] ، والبرزخُ في اللُّغةِ إنَّما هو الأمرُ الهائِلُ العظيمُ، ولا معنى لها إلَّا العذابُ) [1536] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 731). .
وهذا رجوعٌ من القاضي لِما أثبَته في بدايةِ حديثِه؛ لأنَّ في قولِه: من الجائِزِ أن يكونَ بَينَ النَّفختَينِ، نفيًا لعذابِ القبرِ بَعدَ المماتِ وحتَّى النَّفخةِ الأولى، وفي هذا تسويةٌ في العذابِ لِمن مات في زمَنِ آدَمَ ومن مات ساعةَ النَّفخةِ الأولى، وفي هذا مخالفةٌ صريحةٌ لصريحِ المنقولِ والمعقولِ.
والذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ الميِّتَ إذا مات يكونُ في نعيمٍ أو عذابٍ، وأنَّ ذلك يحصُلُ لرُوحِه وبَدَنِه، وأنَّ الرُّوحَ تبقى بَعدَ مُفارقةِ البَدَنِ مُنَعَّمةً أو مُعَذَّبةً، وأنَّها تتَّصِلُ بالبَدَنِ أحيانًا، فيَحصُلُ له معها النَّعيمُ أو العذابُ [1537] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 224). .

انظر أيضا: