موسوعة الفرق

الفصلُ السَّابعُ: مِن أسبابِ التَّفرُّقِ: التَّنازُعُ على السُّلطةِ والبَغيُ وحُبُّ الرِّئاسةِ والظُّهورِ


أخبَرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ عن أهلِ الكتابِ واختِلافِهم، وكشَف لنا سبحانَه عن سببِ تفرُّقِهم معَ ما عندَهم مِن العِلمِ الذي كان يجِبُ أن يجمَعَهم، ويحسِمَ الخلافَ الذي وقَعوا فيه، ولكنَّهم اختلَفوا عن عِلمٍ، وتفرَّقوا عن عَمدٍ، وما ذاك إلَّا لبَغيِ بعضِهم على بعضٍ، كما قال اللهُ سبحانَه وتعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 19] ، وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشُّورى: 14] .
قال أبو العالِيةِ في قولِه تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ: (بغيًا على الدُّنيا وطَلبِ مُلكِها وسُلطانِها، فقتَل بعضُهم بعضًا على الدُّنيا مِن بعدِ ما كانوا عُلَماءَ النَّاسِ)  [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/142). .
وقال ابنُ جَريرٍ: (إنَّهم أتَوا ما أتَوا مِن الباطِلِ على عِلمٍ منهم بخطأِ ما قالوه، وإنَّهم لم يقولوا ذلك جَهلًا منهم، ولكنَّهم قالوه واختلَفوا فيه تعدِّيًا مِن بعضِهم على بعضٍ، وطَلبَ الرِّياساتِ والمُلكِ والسُّلطانِ)  [215] ((تفسير ابن جرير)) (3/142). .
فالذي فرَّق أهلَ الكتابِ هو تنازُعُهم على السُّلطةِ والمُلكِ، وحبُّ الرِّئاسةِ والظُّهورِ، والسَّعيُ لحصولِ ذلك، ولو بظُلمِ النَّاسِ وأخذِ أموالِهم وقَطعِ رِقابِهم  [216] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (3/23) (4/29)، ((تفسير الشوكاني)) (1/213، 326). .
إنَّ التَّهالُكَ على الدُّنيا والسَّعيَ الحثيثَ للحُصولِ على المناصِبِ والرِّئاسةِ فيها مذمومٌ؛ إذ يطبَعُ صاحِبَه على الحَسدِ والشُّحِّ، ويدفَعُ ساعيَه لظُلمِ النَّاسِ ليتحقَّقَ مطلوبُه.
عن عَمرِو بنِ عَوفٍ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((واللهِ ما الفَقرَ أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى عليكم أن تُبسَطَ الدُّنيا عليكم كما بُسِطَت على مَن كان قَبلَكم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتُهلِكَكم كما أهلَكَتْهم! ))  [217] رواه البخاري (6425)، ومسلم (2961) واللَّفظُ له. .
قال القُرطُبيُّ: (أي: تَتحاسَدونَ فيها، فتختلِفونَ وتتقاتَلونَ، فيُهلِكُ بعضُكم بعضًا، كما قد ظهَر ووُجِد، وقد سمَّى في هذا الحديثِ التَّحاسُدَ تنافُسًا؛ توسُّعًا لقُربِ ما بَينَهما، ومعنى تُلهيكم: تَشغَلُكم عن أمورِ دينِكم، وعن الاستِعدادِ لآخِرتِكم)  [218] ((المفهم)) (7/ 113). .
ولقد عاب الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم التَّنازُعَ على السُّلطةِ والتَّقاتُلَ على المُلكِ؛ فعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (خرَج علينا عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ، فرجَونا أن يُحدِّثَنا حديثًا حَسنًا، قال فبادَرَنا إليه رجُلٌ، فقال: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، حدِّثْنا عن القِتالِ في الفِتنةِ، واللهُ يقولُ: قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، فقال: هل تدري ما الفِتنةُ ثكِلَتك أمُّك؟ إنَّما كان مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقاتِلُ المُشرِكينَ، وكان الدُّخولُ في دينِهم فِتنةً، وليس كقِتالِكم على المُلكِ!)  [219] رواه البخاري (7095). .

انظر أيضا: