موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: مِن أسبابِ التَّفرُّقِ: الابتِداعُ وعَدمُ الاتِّباعِ


إنَّ مِن أعظَمِ ما فرَّق الأمَّةَ الإسلاميَّةَ وأوهَن جَسدَها: الابتِداعَ في دينِ اللهِ تعالى؛ لذلك نُهينا عن اتِّباعِ السُّبلِ، وأُمِرْنا باتِّباعِ الصِّراطِ المُستقيمِ، قال اللهُ تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
ولقد عَنوَن الآجُرِّيُّ البابَ الأوَّلَ مِن كتابِه «الشَّريعة»: بابُ: ذِكرُ الأمرِ بلُزومِ الجماعةِ والنَّهيِ عن الفُرقةِ، بل الاتِّباعُ وتَركُ الابتِداعِ [167] يُنظر: ((الشريعة)) (1/ 275). ، فهو يرى أنَّه بلُزومِ الجماعةِ يكونُ الاتِّباعُ، وأنَّ الفُرقةَ تكونُ بالابتِداعِ في دينِ اللهِ.
ولقد جاء الأمرُ الأكيدُ بطاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّحذيرِ مِن الإحداثِ في الدِّينِ الذي لا يكونُ إحداثًا إلَّا بتَركِ سُنَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ [النِّساء: 59] .
عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ قال: (طاعةُ اللهِ: اتِّباعُ كتابِه، وطاعةُ الرَّسولِ: اتِّباعُ سُنَّتِه) [168] يُنظر: ((تفسير القرآن من الجامع لابن وهب)) (2/ 9). .
وقال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (هذه الآيةُ عامَّةٌ في جميعِ الأمورِ؛ وذلك أنَّه إذا حكَم اللهُ ورَسولُه بشيءٍ فليس لأحدٍ مُخالَفتُه، ولا اختيارَ لأحدٍ هاهنا، ولا رأيَ ولا قولَ) [169] ((تفسير ابن كثير)) (6/423). .
وحذَّر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الإحداثِ في الدِّينِ، فقال: ((وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ )) [170] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) من حديث العِرْباضِ بنِ ساريةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5)، والحاكم في ((المستدرك)) (329). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (يَعني كُلَّ ما أُحدِث بَعدَه في كُلِّ شيءٍ إذا كان مُخالِفًا لِما شرَعه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكذلك قولُه: ((كُلُّ بِدعةٍ ضَلالةٌ)) إذا كانت مُخالِفةً أيضًا، وأصلُ البِدعةِ مِن حيثُ الاشتِقاقُ: الانفِرادُ، فصاحِبُها ينفرِدُ بها من جِهةِ أنَّه ابتدَأها، ومنه قولُه: أُبدِع بي، أي: أُفرِدْتُ، فلمَّا لم يرَها المُسلِمونَ حَسنةً كانت ضَلالةً) [171] ((الإفصاح)) (8/352). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قد توسَّعُ مَن تأخَّرَ عن القُرونِ الثَّلاثةِ الفاضِلةِ في غالِبِ الأمورِ التي أنكَرها أئمَّةُ التَّابِعينَ وأتباعُهم...؛ فالسَّعيدُ مَن تمسَّك بما كان عليه السَّلفُ، واجتَنَب ما أحدَثه الخَلفُ) [172] ((فتح الباري)) (13/253). .
وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رضِي اللهُ عنهما قال: ((كان النَّاسُ يسألونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الخيرِ، وكنْتُ أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يُدرِكَني، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا في جاهليَّةٍ وشرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ، فهل بَعدَ هذا الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال: نعَم، قلْتُ: وهل بَعدَ ذلك الشَّرِّ مِن خيرٍ؟ قال: نعَم، وفيه دَخَنٌ، قلْتُ: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يَهْدونَ بغَيرِ هَدْيِي، تعرِفُ منهم وتُنكِرُ، قلْتُ: فهل بَعدَ ذلك الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال: نعَم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّمَ، مَن أجابهم إليها قذَفوه فيها، قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، صِفْهم لنا، قال: هم مِن جِلْدتِنا، ويتكلَّمونَ بألسِنتِنا، قال: فما تأمُرُني إن أدرَكني ذلك؟ قال: تلزَمُ جماعةَ المُسلِمينَ وإمامَهم، قلْتُ: فإن لم يكنْ لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: فاعتزِلْ تلك الفِرَقَ كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ حتَّى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك )) [173] رواه البخاري (3606) واللَّفظُ له، ومسلم (1847). .
فذكَر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الأحوالِ التي ستحدُثُ أنَّه سيأتي أقوامٌ يهدونَ بغَيرِ هَديِه، ويستنُّونَ بغَيرِ سُنَّتِه.
ولقد جاء الحُكمُ صريحًا فيمَن أحدَث في الدِّينِ، بعَدمِ قَبولِ عَملِه؛ فعن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن أحدَث في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ )) [174] رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718) واللَّفظُ له. ، أي: مردودٌ عليه غَيرُ مقبولٍ؛ لِما في هذا الإحداثِ مِن خَطرٍ بالِغٍ على الدِّينِ.
قال ابنُ القيِّمِ: (ولهذا اشتدَّ نَكيرُ السَّلفِ والأئمَّةِ للبِدَعِ، وصاحوا بأهلِها من أقطارِ الأرضِ، وحذَّروا فِتنتَهم أشدَّ التَّحذيرِ، وبالَغوا في ذلك ما لم يُبالِغوا مِثلَه في إنكارِ الفواحِشِ والظُّلمِ والعُدوانِ؛ إذ مضرَّةُ البِدَعِ وهَدمُها للدِّينِ ومُنافاتُها له أشَدُّ) [175] ((مدارج السالكين)) (1/ 378). .
ولقد اشتدَّ نَكيرُ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه على مَن أحدَث في الدِّينِ وابتدَع قولًا وعَملًا، ومِن ذلك أنَّه جاء رضِي اللهُ عنه إلى قومٍ حِلَقٍ جُلوسٍ في المسجِدِ، ينتظِرونَ الصَّلاةَ، وفي كُلِّ حَلْقةٍ رجُلٌ، وفي أيديهم حصًى، فيقولُ: كبِّروا مئةً، فيُكبِّرونَ، فيقولُ: هلِّلوا مئةً، فيُهلِّلونَ مئةً، ويقولُ: سبِّحوا مئةً، فيُسبِّحونَ مئةً، فجاءهم رضِي اللهُ عنه معَ جَمعٍ مِن أصحابِه، ووقَف على إحدى تلك الحِلَقِ، وقال: ما هذا الذي أراكم تصنَعونَ؟! قالوا: حصًى نعُدُّ به التَّكبيرَ والتَّهليلَ والتَّسبيحَ، قال: فعُدُّوا سيِّئاتِكم! فأنا ضامِنٌ ألَّا يضعَ مِن حَسناتِكم شيئًا! وَيْحَكم يا أمَّةَ مُحمَّدٍ! ما أسرَع هَلَكتَكم! هؤلاء صحابةُ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتوافِرونَ، وهذه ثيابُه لم تَبْلَ، وآنيتُه لم تُكسَرْ، والذي نَفسي بيدِه إنِّكم لعلى مِلَّةٍ أهدى مِن مِلَّةِ مُحمَّدٍ، أو مُفتَتِحو بابَ ضلالةٍ، قالوا: واللهِ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ ما أردْنا إلَّا الخيرَ، قال: وكم مِن مُريدٍ للخيرِ لن يُصيبَه! إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حدَّثنا: ((إنَّ قومًا يقرؤونَ القرآنَ لا يُجاوِزُ تراقيَهم )) [176] أخرجه الدارمي (204). صحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/11). وأيمُ اللهِ ما أدري لعلَّ أكثَرَهم منكم، ثُمَّ تولَّى.
قال عَمرُو بنُ سَلَمةَ الكوفيُّ: رأَينا عامَّةَ أولئك الحِلَقِ يُطاعِنونا يومَ النَّهْرَوانِ معَ الخوارِجِ [177] رواه الدارمي (1/68-69)، وابن أبي شيبة (7/553). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/11): إسنادُه صحيحٌ. !
فانظُرْ كيف أنكَر عليهم ابنُ مسعودٍ بشدَّةٍ، ولم يَعذِرْهم لحُسنِ نيَّتِهم، بل قال: وكم مِن مُريدٍ للخيرِ لن يُصيبَه! إذ لا تكفي النِّيَّةُ الحَسنةُ للفِعلِ ليُقبَلَ، بل لا بُدَّ مِن اتِّباعِ هَديِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسُنَّتِه.
وقال الزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ رضِي اللهُ عنه: (السُّنَنَ السُّنَنَ؛ فإنَّ السُّنَنَ قِوامُ الدِّينِ) [178] يُنظر: ((السُّنَّة)) للمروزي (ص: 111). .
وقال عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: (عليكم بالاستِقامةِ والاتِّباعِ، وإيَّاكم والبِدَعَ) [179] يُنظر: ((ذم الكلام)) للهروي (4/14). .
قال البَرْبَهاريُّ: (احذَرْ صِغارَ المُحدَثاتِ مِن الأمورِ؛ فإنَّ صغيرَ البِدَعِ يعودُ حتَّى يصيرَ كبيرًا، وكذلك كُلُّ بِدعةٍ أُحدِثَت في هذه الأمَّةِ كان أوَّلُها صغيرًا يُشبِهُ الحقَّ، فاغترَّ بذلك مَن دخَل فيها، ثُمَّ لم يستطِعِ الخُروجَ منها، فعظُمَت وصارت دينًا يُدانُ بها، فخالَف الصِّراطَ المُستقيمَ، فخرَج مِن الإسلامِ، فانظُرْ -رحِمك اللهُ- كُلَّ مَن سمعْتَ مِن أهلِ زمانِك خاصَّةً، فلا تَعجلَنَّ ولا تَدخُلَنَّ في شيءٍ منه حتَّى تسألَ وتنظُرَ: هل تكلَّم به أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أحدٌ مِن العُلَماءِ، فإن وجدْتَ فيه أثرًا عنهم فتمسَّكْ به، ولا تتجاوَزْ لشيءٍ، ولا تختَرُ عليه شيئًا؛ فتسقُطَ في النَّارِ) [180] ((شرح السُّنَّة)) (ص: 61). .

انظر أيضا: