موسوعة الفرق

المسألةُ الأولى: تقسيمُ الماتُريديَّةِ للصِّفاتِ الإلهيَّةِ


1- حصَروا جميعَ الصِّفاتِ في إحدى وعشرينَ صِفةً لا غيرُ، وصرَّح البياضيُّ الماتُريديُّ بحصرِ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ الثُّبوتيَّةِ في سبعٍ، والصِّفةُ الثَّامنةُ هي التَّكوينُ، وهي صفةٌ فِعليَّةٌ، فقال: (عند جِلَّةِ الخَلَفِ لا يزيدُ على الصِّفاتِ الثَّمانيةِ، والصِّفاتُ الأخرى راجعةٌ إليها) [463] ((إشارات المرام)) (ص: 188) .
كما صرَّح الشَّاه محمَّد أنور الكَشْمِيريُّ بأنَّ الأسماءَ الحسنى كُلَّها مندَرِجةٌ في صفةِ التَّكوينِ [464] يُنظر: ((فيض الباري)) (4/517). .
ومعلومٌ أنَّ صفةَ التَّكوينِ مَرجِعٌ للصِّفاتِ الفِعليَّةِ عِندَهم فهي صفةُ فِعلٍ، فأين يضعون لفظَ الجلالةِ "الله" ونحوَه من الأسماءِ الحسنى التي تدُلُّ على ذاتِ اللهِ تعالى، وعلى الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةِ الذَّاتيَّةِ الكماليَّةِ؟!
2- الماتُريديَّةُ وإن أثبتوا سبعَ صِفاتٍ ذاتيَّةٍ ثبوتيَّةٍ، وهي: الحياةُ، والقُدرةُ، والعِلمُ، والإرادةُ، والسَّمعُ، والبَصَرُ، والكلامُ، لكِنَّهم في الحقيقةِ اتَّفقوا على إثباتِ الصِّفاتِ الأربَعِ الأُوَلِ فقط، وأمَّا صِفتا "السَّمع والبَصَر" فجمهورُهم يثبتونها، وخالفهم بعضُهم، كابنِ الهُمَامِ، فأرجعهما إلى صفةِ "العِلم" [465] يُنظر: ((المسايرة)) مع شرحها لقاسم بن قطلوبغا (ص: 69). .
ومعلومٌ أنَّ إرجاعَ صفةٍ إلى أخرى وتفسيرَ صفةٍ بمعنى أخرى: تعطيلٌ صريحٌ، فمن فسَّر "العِلم" بالحياةِ، أو فسَّر "اليد" بالقُدرةِ، ونحو ذلك؛ فقد أبطل وعطَّل.
ومع إثباتِهم هذه الصِّفاتِ تفلسَفوا في إثباتِها، حتى كادوا أن ينفوها ويعَطِّلوها، فإنَّهم صرَّحوا كالأشاعرةِ بأنَّ كُلًّا من هذه الصِّفاتِ صفةٌ واحدةٌ قديمةٌ أزليَّةٌ لا تكثُّرَ فيها ولا تجدُّدَ، وإنما التَّجدُّدُ في متعلِّقاتِها؛ لأنَّ ذلك أليَقُ بكمالِ التَّوحيدِ [466] يُنظر: ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 55-56)، ((النبراس)) للفريهاري (ص: 217-218)، ((تحقيق المقام على كفاية العوام)) للباجوري (ص: 121). .
فأخرجوا الصِّفاتِ عمَّا عُرِف في الشَّرعِ والعقلِ والفِطرةِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (إثباتُ إرادةٍ واحدةٍ، كما ذكروه، لا يُعرَفُ بشَرعٍ ولا عقلٍ، بل هو مخالِفٌ للشَّرعِ والعقلِ؛ فإنَّه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يقتضي أنَّ جميعَ الكائناتِ حصلت بإرادةٍ واحدةٍ بالعينِ تَسبِقُ جميعَ المراداتِ بما لا نهايةَ له، وكذلك سائِرُ ما ذكروه) [467] ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/283). .
كما أنَّهم قالوا صراحةً بخَلقِ القرآنِ فسايروا الجَهْميَّةَ الأولى وشيوخَهم المُعتزِلةَ، وفارقوا أهلَ السُّنَّةِ [468] يُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 58، 59)، ((تفسير الماتريدي)) (9/ 141)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 151، 152). .
وقالوا بالكلامِ النَّفسيِّ الذي لم يعرِفْه الأوَّلون والآخِرون من الأنبياءِ والمُرسَلين والصَّحابةِ والتَّابعينَ، وأئمَّةِ هذا الدِّينِ قبلَ ابنِ كُلَّابٍ الذي ابتدع القولَ به، وتابعه الأشْعَريُّ والماتُريديُّ.
3- الماتُريديَّةُ لا يُثبتون الصِّفاتِ الفِعليَّةَ، ولا يقولون بقيامِها باللهِ تعالى، ومعلومٌ أنَّ الصِّفةَ لا تكونُ صفةً إلَّا إذا قامت بالموصوفِ واتَّصف الموصوفُ بها، وإلَّا لزم أن تكونَ صفاتُ عَمرٍو صفاتٍ لزيدٍ، وهذا قلبٌ للحقائِقِ.
ومعلومٌ أيضًا أنَّهم أرجَعوا جميعَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ إلى صفةِ التَّكوينِ، وأنَّ جميعَ الصِّفاتِ الفعليَّةِ ليست صفاتٍ حقيقةً للهِ تعالى، وإنَّما هي من متعلِّقاتِ صِفةِ التَّكوينِ، والتَّكوينُ صفةٌ أزليَّةٌ، وهي عندَهم: مبدأُ الإخراجِ من العَدَمِ إلى الوُجودِ.
فلا شكَّ أنَّ ما يزعمون من صفةِ التَّكوينِ ليس إلَّا مجموعَ صِفتَي "القُدرة والإرادة"، ولا شيءَ غيرُ ذلك، وأنَّه لا خلافَ في الحقيقةِ بَينَ الماتُريديَّةِ وبَينَ الأشْعَريَّةِ، فهم متَّفِقون على نفي الصِّفاتِ الفعليَّةِ، ونفيِ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ بالله تعالى؛ حذرًا عن تعدُّدِ القُدماءِ، وفرارًا عن حلولِ الحوادِثِ بذاتِه تعالى في زَعمِهم.
4- الماتُريديَّةُ خالفوا طريقةَ الكتابِ والسُّنَّةِ، ونابذوا منهجَ سَلَفِ هذه الأمَّةِ في بابِ الصِّفاتِ السَّلبيَّةِ، فأجملوا في الإثباتِ، وفصَّلوا في النَّفيِ المحضِ؛ ولذلك نرى الإثباتَ عندهم قليلًا، والنَّفيَ كثيرًا، فعامَّةُ توحيدِهم سُلوبٌ خالصةٌ تأثرًا بالمُعتزِلةِ، ويفسِّرون الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةَ الذَّاتيَّةَ الدَّالَّةَ على كمالِه سُبحانَه وتعالى، كصفةِ "العُلوِّ" لله سُبحانَه وتعالى بالسُّلوبِ، فيقولون: المرادُ تعاليه عن الأمكِنةِ، والمرادُ عُلوُّ القَهرِ، والتَّنزيهُ، وتعاليه عن كُلِّ موهومٍ، وتعاليه عن الأشباهِ والأندادِ، والصِّفاتِ التي لا تليقُ به.
وتوحيدُ السُّلوبِ قد شغَفَهم حُبًّا إلى أن قالوا: إنَّ اللهَ تعالى لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، ولا متَّصِلًا به، ولا منفَصِلًا عنه، ولا فوقَ العرشِ، ولا يمينَ ولا شمالَ، ولا أمامَ ولا خَلْفَ [469] يُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 67 - 69، 85). ، فقالوا بما لا يُقِرُّه عقلٌ صريحٌ ولا نقلٌ صحيحٌ، ولا فطرةٌ سليمةٌ، ولا إجماعٌ، وأرادوا الفرارَ من التَّشبيهِ وقصَدوا التَّنزيهَ، فنزَّهوا اللهَ تعالى عن كثيرٍ من صفاتِه الكماليَّةِ، ووقعوا في أبشَعِ التَّشبيهِ وأشنَعِه، وهو تشبيهُ اللهِ تعالى بالحيواناتِ بل بالجماداتِ، بل بالمعدوماتِ، بل بالممتنعاتِ! وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى لا كلامَ له، ولا يتكلَّمُ ولا يناجي، ولا ينادي بالمعنى الذي دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ وفَهِمه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّةُ السُّنَّةِ! ولا له يدانِ، ولا وجهٌ، ولا عينٌ، ولا يرضى، ولا يحِبُّ ولا يكرهُ، ولا يغضَبُ، وأوَّلوا هذه الصِّفاتِ إلى معانٍ أُخرى.

انظر أيضا: