موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: من معالِمِ منهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في تقريرِ العقيدةِ الصَّحيحةِ: التَّلَقِّي من الكِتابِ والسُّنَّةِ


قد وردت في القرآنِ الكريمِ آياتٌ كثيرةٌ تدُلُّ على وُجوبِ التَّمسُّكِ بالقرآنِ الكريمِ، وأنَّه لا يخرُجُ عنه مؤمِنٌ، وأنَّ الدِّينَ لا يُؤخَذُ إلَّا منه ومِن سُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن زاغ عنهما خرَج إلى الضَّلالةِ، وفارَق هُدى الإسلامِ.
1- قال اللهُ تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .
قال ابنُ القيِّمِ عن الاعتِصامِ بوحيِ اللّهِ تعالى: (هو تَحكيمُه دونَ آراءِ الرَّجالِ ومَقاييسِهم ومَعقولاتِهم وأذواقِهم وكُشوفاتِهم، ومَواجيدِهم؛ فمن لم يَكُن كذلك فهو مُنسَلٌّ من هذا الاعتِصامِ، فالدِّينُ كُلُّه في الاعتِصامِ به وبِحَبلِه، عِلمًا وعَمَلًا، وإخلاصًا واستِعانةً، ومُتابَعةً، واستِمرارًا على ذلك إلى يَومِ القيامةِ) [39] ((مدارج السالكين)) (3/323). .
2- قال اللهُ سُبحانَه: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلك خيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
قال ابنُ القيِّمِ: (إنَّ النَّاسَ أجمَعوا أنَّ الرَّدَّ إلى اللّهِ سُبحانَهُ هو الرَّدُّ إلى كِتابِه، والرَّدَّ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الرَّدُّ إلى نَفسِه في حياتِه، وإلى سُنَّتِه بَعدَ وفاتِه) [40] ((إعلام الموقعين)) (2/92). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (هذا أمرٌ مِنَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ بأنَّ كُلَّ شيءٍ تَنازَعَ النَّاسُ فيه من أصولِ الدِّينِ وفُروعِه أن يُرَدَّ التَّنازُعُ في ذلك إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ) [41] ((تفسير ابن كثير)) (2/345). .
وقال السَّعديُّ: (فإنَّ فيهما الفَصلَ في جَميعِ المَسائِلِ الخِلافيَّةِ إمَّا بصَريحِهما أو عُمومِهما، أو إيماءٍ، أو تَنبيهٍ، أو مَفهومٍ، أو عُمومِ مَعنًى يُقاسُ عليه ما أشبَهه؛ لأنَّ كِتابَ اللّهِ وسُنَّةَ رَسولِه عليهما بِناءُ الدِّينِ، ولا يَستَقيمُ الإيمانُ إلَّا بهما، فالرَّدُّ إليهما شَرطٌ في الإيمانِ) [42] ((تفسير السعدي)) (ص: 184). .
3- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] .
عن عَبدِ اللّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما قال: (لا تَقولوا خِلافَ الكِتابِ والسُّنَّةِ) [43] رواه ابن جرير (22/272)، وابن أبي حاتم (19102)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (10/398). .
وعنِ الضَّحَّاكِ قال: (لا تَقْضوا أمرًا دونَ اللّهِ ورَسولِه من شَرائِعِ دينِكم) [44] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/364). .
ولْيُعلَمْ أنَّ كتابَ اللهِ تعالى مُشتَمِلٌ على بيانِ كُلِّ شَيءٍ، وفيه الخَيرُ كُلُّه لِمن اتَّبَعه وعَمِل به.
1- قال اللَّهُ تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .
قال الشِّنقيطيُّ: (القرآنُ العظيمُ الذي هو أعظَمُ الكُتُبِ السَّماويَّةِ، وأجمَعُها لجميعِ العُلومِ، وآخِرُها عَهدًا برَبِّ العالَمينَ جَلَّ وعلا، يهدي للتي هي أقومُ، أي: الطَّريقةِ التي هي أسَدُّ وأعدَلُ وأصوَبُ. وهذه الآيةُ الكريمةُ أجملَ اللهُ جَلَّ وعلا فيها جميعَ ما في القرآنِ من الهُدى إلى خيرِ الطُّرُقِ وأعدَلِها وأصوَبِها، فلو تتَبَّعْنا تفصيلَها على وجهِ الكمالِ لأتينا على جميعِ القرآنِ العظيمِ؛ لشُمولِها لجميعِ ما فيه مِن الهُدى إلى خيرَيِ الدُّنيا والآخِرةِ) [45] ((أضواء البيان)) (3/ 17). .
2- قال اللَّهُ سُبحانَه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
قال الشَّافعيُّ: (كُلُّ ما أنزَل في كتابِه جَلَّ ثناؤه رحمةٌ وحُجَّةٌ، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه، لا يَعلَمُ مَن جَهِلَه ولا يَجهَلُ مَن عَلِمَه. والنَّاسُ في العِلمِ طبَقاتٌ، مَوقِعُهم من العلمِ بقَدْرِ دَرَجاتِهم في العِلمِ به؛ فحُقَّ على طلَبةِ العلمِ بلوغُ غايةِ جُهدِهم في الاستِكثارِ مِن عِلمِه، والصَّبرُ على كُلِّ عارضٍ دونَ طَلَبِه، وإخلاصُ النِّيَّةِ للهِ في استدراكِ عِلمِه نصًّا واستنباطًا، والرَّغبةُ إلى اللهِ في العَونِ عليه؛ فإنَّه لا يُدرَكُ خيرٌ إلَّا بعَونِه.
فإنَّ من أدرك عِلمَ أحكامِ اللهِ في كتابِه نَصًّا واستِدلالًا، ووفَّقه اللهُ للقولِ والعَمَلِ بما عَلِمَ منه؛ فاز بالفضيلةِ في دينِه ودُنياه، وانتفَت عنه الرِّيَبُ، ونوَّرَت في قلبِه الحِكمةُ، واستوجب في الدِّينِ مَوضِعَ الإمامةِ... فليست تَنزِلُ بأحدٍ من أهلِ دينِ اللهِ نازلةٌ إلَّا وفي كتابِ اللهِ الدَّليلُ على سبيلِ الهُدى فيها) [46] ((الرسالة)) (1/ 19). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (لا شَكَّ أنَّ القرآنَ فيه بيانُ كُلِّ شيءٍ، والسُّنَّةُ كُلُّها تدخُلُ في آيةٍ واحدةٍ منه، وهي قولُه تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ) [47] ((أضواء البيان)) (2/ 427). .
وقد ورَدَت عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحاديثُ كثيرةٌ فيها الحَثُّ على التَّمسُّكِ بكتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
1- عن عَبدِ اللّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنِّي قد تَركْتُ فيكُم ما إنِ اعتَصَمْتُم به فلَن تَضِلُّوا أبَدًا، كِتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ نَبيِّه )) [48] رواه الحاكم (318)، والبيهقي (20833) مطوَّلًا. صحَّحه ابنُ حزم في ((أصول الأحكام)) (2/251)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (40)، وجوَّد إسنادَه ابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (24/182)، وقال الحاكِمُ: سائِرُ رُواتِه متَّفَقٌ عليهم، وهذا الحديثُ لخُطبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متَّفَقٌ على إخراجِه في الصَّحيحِ... وله شاهِدٌ. .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (الهُدى كُلُّ الهُدى في اتِّباعِ كِتابِ اللّهِ وسُنَّةِ رَسولِ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهيَ المُبيِّنةُ لمُرادِ كِتابِ اللّهِ؛ إذا أشَكَلَ ظاهِرُه أبانَتِ السُّنَّة عن باطِنِه، وعن مُرادِ اللّهِ منه) [49] ((الاستذكار)) (8/265). .
2- عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الرَّاشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنّواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كُلّ محدثة بدعة وإن كُلّ بدعة ضلالة )) [50] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزَّار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5)، والحاكم في ((المستدرك)) (329) .
قال عَلِي القاري: («تَمسَّكوا بها» أي بالسُّنَّةِ «وعَضُّوا» بفَتحِ العَينِ «عليها» أي: على السُّنَّةِ «بالنَّواجِذِ» جَمعُ ناجِذةٍ بالذَّالِ المُعجَمةِ، وهيَ الضِّرسُ الأخيرُ... والعَضُّ كِنايةٌ عن شِدَّةِ مُلازَمةِ السُّنَّةِ والتَّمَسُّكِ بها؛ فإنَّ من أرادَ أن يَأخُذَ شيئًا أخذًا شَديدًا يَأخُذُه بأسنانِه. أو: المُحافَظةِ على هذه الوَصيَّةِ بالصَّبرِ على مُقاساةِ الشَّدائِدِ، كمَن أصابَه ألمٌ لا يُريدُ أن يُظهِرَهُ فيَشتَدُّ بأسنانِه بَعضِها على بَعضٍ، قال بَعضُ المُحَقِّقينَ: هذه استِعارةٌ تَمثيليَّةٌ، شَبَّه حالَ المُتَمَسِّكِ بالسُّنَّة المُحَمَّديَّةِ بجَميعِ ما يُمكِنُ من الأسبابِ المُعينةِ عليه بحالِ مَن يَتَمَسَّكُ بشيءٍ بيديه، ثُمَّ يَستَعينُ عليه استِظهارًا للمُحافَظةِ في ذلك؛ لأنَّ تَحصيلَ السَّعاداتِ الحَقيقيَّةِ بَعدَ مُجانَبةِ كُلِّ صاحِبٍ يُفسِدُ الوَقتَ، وكُلِّ سَبَبٍ يَفتِنُ القَلبَ: مَنُوطٌ باتِّباعِ السُّنَّة بأن يَمتَثِلَ الأمرَ على مُشاهدةِ الإخلاصِ، ويُعظِّمَ النَّهيَ على مُشاهدةِ الخَوفِ، بَل باقتِفاءِ آثارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَميعِ مَوارِدِه ومَصادِرِه وحَرَكاتِه وسَكَناتِه ويَقَظَتِه ومَنامِه، حَتَّى يُلجِمَ النَّفسَ بلجامِ الشَّريعةِ) [51] ((مرقاة المفاتيح)) (1/253). .
3- عنِ المِقدامِ بن مَعْدِيكَرِبَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألا إنِّي أوتيتُ الكِتابَ ومِثلَه مَعَهُ، لا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعانُ على أريكَتِه يَقولُ: عليكم بهذا القُرآنِ، فما وجَدتُم فيه من حَلالٍ فأحِلُّوه، وما وجَدتُم فيه من حَرامٍ فحَرِّموه)) [52] أخرجه من طُرُقٍ: أبو داود (4604) واللَّفظُ له، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (12)، وابن تيمية في ((الإيمان)) (37)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324). .
قال الخَطابيُّ: (يُحذِّرُ بذلك مُخالَفةَ السُّنَنِ الَّتي سَنَّها رَسولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا ليسَ لَهُ في القُرآنِ ذِكْرٌ، على ما ذَهبَت إليه الخَوارِجُ والرَّوافِضُ؛ فإنَّهم تَعلَّقوا بظاهِرِ القُرآنِ، وتَرَكوا السُّنَنَ الَّتي قد ضَمِنَت بيانَ الكِتابِ، فتَحيَّروا وضَلُّوا) [53] ((معالم السنن)) (4/298). .
وقال ابنُ بَطَّةَ: (ليَعْلَم المُؤمِنونَ من أهلِ العَقلِ والعِلمِ أنَّ قَومًا يُريدونَ إبطالَ الشَّريعةِ ودُروسَ آثارِ العِلمِ والسُّنَّةِ، فهم يُمَوِّهونَ على من قَلَّ عِلمُه وضَعُفَ قَلبُه بأنَّهم يَدْعُونَ إلى كِتابِ اللَّهِ، ويَعمَلونَ به، وهم من كِتابِ اللّهِ يَهرُبونَ، وعنه يُدبِرونَ، ولَهُ يُخالِفونَ؛ وذلك أنَّهم إذا سَمِعوا سُنَّةً رُوِيَت عن رَسولِ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رواها الأكابِرُ عن الأكابِرِ، ونَقلَها أهلُ العَدَالةِ والأمانةِ، ومَن كان مَوضِعَ القُدوةِ والأمانةِ، وأجمَعَ أئِمَّةُ المُسلِمينَ على صِحَّتِها، أو حَكمَ فُقَهاؤُهم بها؛ عارَضوا تِلكَ السُّنَّةَ بالخِلافِ عليها، وتَلَقَّوها بالرَّدِّ لَها، وقالوا لِمن رواها عِندَهم: تَجِدُ هذا في كِتابِ اللَّهِ؟! وهل نَزَلَ هذا في القُرآنِ؟ وأْتُوني بآيةٍ من كِتابِ اللّهِ حَتَّى أُصَدِّقَ بهذا!) [54] ((الإبانة الكبرى)) (1/223). .

انظر أيضا: