موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: الفِرقةُ النَّاجيةُ


الفِرقةُ: اسمٌ يُطلَقُ على الطَّائفةِ أو الجماعةِ من النَّاسِ.
والنَّاجيةُ: وَصفٌ لتلك الفِرقةِ بالنَّجاةِ، دونَ أن يكونَ له تعَلُّقٌ بالزَّمَنِ، والمقصودُ بهم هم أهلُ الحَقِّ الذين تمسَّكوا بكتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا عِبرةَ بدعاوى المُنحَرِفين أنَّهم هم تلك الفِرقةُ النَّاجيةُ.
ووَصْفُهم بالنَّاجيةِ لعَلَّه أُخِذَ من قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... يا أيُّها النَّاسُ إنِّي قد ترَكْتُ فيكم ما إنِ اعتصَمْتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا: كتابَ اللهِ، وسُنَّةَ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [25] أخرجه الحاكم (318)، والبيهقي (20833). صحَّحه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (40)، وصَحَّح إسنادَه الحاكم كما في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (1/61)، وقال المُنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (1/61): له أصلٌ في الصَّحيحِ. ، أو لأنَّ المتمَسِّكَ بالوحيَينِ سَبيلُه النَّجاةُ، أو لقولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهِرين حتَّى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم ظاهِرون )) [26] رواه البخاري (7311) واللَّفظُ له، ومسلم (1921) من حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ولا ريبَ أنَّ من تمسَّك بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه فإنَّه من النَّاجين بتوفيقِ اللهِ له، ينجو من الضَّلالةِ والفِتَنِ في الدُّنيا، وينجو إذا مات من عذابِ اللهِ وغَضَبِه.
عن العِرْباضِ بنِ ساريةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قد ترَكْتُكم على البيضاءِ لَيلُها كنَهارِها، لا يَزيغُ عنها بَعدي إلَّا هالِكٌ )) [27] أخرجه ابن ماجه (43)، وأحمد (17142) مُطَوَّلًا. صحَّحه الشَّوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/131) بلفظ: "الواضحة" بدلًا من "البيضاء"، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (43)، وشعيب الأرناؤوط بطُرُقِه وشواهِدِه في تخريج ((مسند أحمد)) (17142)، وحَسَّن إسنادَه المُنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (1/68). .
قال الصَّنعانيُّ: («قد ترَكْتُكم» أيُّها المُخاطَبون من أمَّةِ الإجابةِ «على البيضاءِ»، في لفظٍ: «على المحَجَّةِ البيضاءِ»، وهي جادَّةُ الطَّريقِ. «لَيلُها» في إشراقِه. «كنَهارِها» المرادُ: أنَّه لا لَبْسَ فيها ولا رَيبَ، بل قد اتَّضَحت إيضاحَ النَّهارِ، ومنه يُعلَمُ أنَّه لا لَبْسَ في دينِ اللهِ، ولا يحتاجُ إلى تكَلُّفاتِ المتكَلِّمين وشطَحاتِ المُتَهَوِّكين. «لا يَزيغُ عنها بَعدي» لا يميلُ عنها إلى غيرِها. «إلَّا هالِكٌ» محكومٌ عليه بالهَلاكِ، أُتيَ من قِبَلِ نَفسِه) [28] ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (8/ 49). .
وأهلُ السُّنَّةِ حينَ تَسَمَّوا بهذه التَّسميةِ لا يَقصِدون بها الشَّهادةَ لكُلِّ من ينتَسِبُ إلى أهلِ السُّنَّةِ بالجنَّةِ، ولا تزكيةَ أنفُسِهم، وإنَّما المقصودُ بها إظهارُ ما هم عليه من التَّمَسُّكِ بكتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهما مصدَرُ النَّجاةِ، فهم يَرجون رحمةَ اللهِ، ولا يَشهَدون لكُلِّ فردٍ منهم بالنَّجاةِ، فاللهُ أعلَمُ بالمتَّقين والمُخلِصين الصَّادِقين.
قال ابنُ تيميَّةَ: (وَصفَ الفِرقةَ النَّاجيةَ بأنَّها أهلُ السُّنَّةِ، وهم الجُمهورُ الأكبَرُ والسَّوادُ الأعظَمُ، وأمَّا الفِرَقُ الباقيةُ فإنَّهم أهلُ الشُّذوذِ والتَّفرُّقِ والبِدَعِ والأهواءِ، ولا تبلُغُ من هؤلاء قريبًا من مَبلَغِ الفِرقةِ النَّاجيةِ، فضلًا عن أن تكونَ بقَدْرِها) [29] ((مجموع الفتاوى)) (3/345). .
وقال أيضًا: (إنَّ أحَقَّ النَّاسِ بأن تكونَ هي الفِرقةَ النَّاجيةَ: أهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ، الذين ليس لهم مَتبوعٌ يتَعصَّبونَ له إلَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم أعلَمُ النَّاسِ بأقوالِه وأحوالِه، وأعظمُهم تمييزًا بين صَحيحِها وسَقيمِها، وأئمَّتُهم فُقهاءُ فيها، وأهلُ مَعرفةٍ بمعانيها، واتِّباعًا لها؛ تصديقًا وعَمَلًا، وحبًّا وموالاةً لِمَن والاها، ومُعاداةً لِمَن عاداها، الذين يَرُدُّون المقالاتِ المجمَلةَ إلى ما جاء به من الكتابِ والحِكمةِ، فلا يَنصِبون مقالةً ويجعَلونها من أصولِ دينِهم وجُمَلِ كَلامِهم إنْ لم تكُنْ ثابتةً فيما جاء به الرَّسولُ، بل يجعَلون ما بُعِث به الرَّسولُ من الكِتابِ والحِكمةِ هو الأصلَ الذي يَعتَقِدونه ويَعتَمِدونه) [30] ((مجموع الفتاوى)) (3/347). .
وقال ابنُ باز: (الفِرْقةُ النَّاجيةُ: هيَ الجَماعةُ المُستَقيمةُ على ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه رَضيَ اللهُ عنهم؛ من تَوحيدِ اللَّهِ، وطاعةِ أوامِرِه وتَرِكِ نواهيه، والاستِقامةِ على ذلك قَولًا وعَمَلًا وعَقيدةً، هم أهلُ الحَقِّ، وهم دُعاةُ الهُدَى ولَو تَفَرَّقوا في البِلادِ، يَكونُ منهم في الجَزيرةِ العَرَبيَّةِ، ويَكونُ منهم في الشَّامِ، ويَكونُ منهم في أمريكا، ويَكونُ منهم في مِصرَ، ويَكونُ منهم في دُولِ أفريقيا، ويَكونُ منهم في آسيا، فهم جَماعاتٌ كَثيرةٌ يُعرَفونَ بعَقيدَتِهم وأعمالِهم، فإذا كانوا على طَريقةِ التَّوحيدِ والإيمانِ باللّهِ ورَسولِه، والاستِقامةِ على دينِ اللّهِ الَّذي جاءَ به الكِتابُ وسُنَّةُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهمْ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وإن كانوا في جِهاتٍ كَثيرةٍ، ولَكِن في آخِرِ الزَّمانِ يَقِلُّونَ جِدًّا. فالحاصِلُ: أنَّ الضَّابِطَ هو استِقامَتُهم على الحَقِّ، فإذا وُجِدَ إنسانٌ أو جَماعةٌ تَدعو إلى كِتابِ اللّهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَدعو إلى تَوحيدِ اللّهِ واتِّباعِ شَريعَتِه، فهؤلاء همُ الجَماعةُ، وهم من الفِرْقةِ النَّاجيةِ، وأمَّا من دَعا إلى غيرِ كِتابِ اللّهِ، أو إلى غيرِ سُنَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهذا ليسَ من الجَماعةِ، بَل من الفِرَقِ الضَّالَّةِ الهالِكةِ، وإنَّما الفِرقةُ النَّاجيةُ: دُعاةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإن كانت منهم جَماعةٌ هُنا، وجَماعةٌ هُناكَ، ما دامَ الهدَفُ والعَقيدةُ واحِدةً) [31] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (8/182). .

انظر أيضا: