موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: سلامةُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم مِن الفُرقةِ


إنَّ النَّاظِرَ في حالِ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم يظهَر له ويتبيَّنُ سلامتُهم مِن الفُرقةِ؛ فقد كانوا على الجماعةِ حريصينَ، ومِن الفُرقةِ بعيدينَ، وفي موقِفِهم مِن الفُرقةِ مُتَّحِدينَ؛ لتقديمِهم نُصوصَ الوَحيِ، ولاتِّباعِهم هَديَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولسُلوكِهم السَّبيلَ الذي دعا إليه مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال اللهُ تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108] .
فهم -رضِي اللهُ عنهم- سائِرونَ على الصِّراطِ المُستقيمِ الذي وصَّاهم به ربُّهم تعالى، مُجانِبونَ في ذلك سُبلَ الضَّلالةِ، قال اللهُ تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] .
قال الواحِديُّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، أي: تمسَّكوا بدينِ اللهِ، والخِطابُ للأوسِ والخَزرَجِ وَلَا تَفَرَّقُوا كما كنْتُم في الجاهليَّةِ مُقتتِلينَ على غَيرِ دينِ اللهِ، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلامِ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً، يعني: ما كان بَينَ الأوسِ والخَزرَجِ مِن الحَربِ إلى أن ألَّف اللهُ بَينَ قُلوبِهم بالإسلامِ، فزالَت تلك الأحقادُ، وصاروا إخوانًا مُتوادِّينَ) [288] ((الوجيز)) (ص: 225). .
فقد اختار اللهُ عزَّ وجلَّ الصَّحابةَ رضِي اللهُ عنهم لصُحبةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتبليغِ دينِه إلى النَّاسِ كافَّةً، وما ذاك إلَّا لِما عَلِم ما في قُلوبِهم مِن محبَّةِ الحقِّ، والعَملِ على نُصرتِه، والاجتِماعِ عليه، وبَذلِ الأموالِ والأنفُسِ في سبيلِ ذلك.
قال الحَسنُ البَصريُّ واصِفًا الصَّحابةَ رضِي اللهُ عنهم: (أولئك أصحابُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانوا أبَرَّ هذه الأمَّةِ قُلوبًا، وأعمَقَها عِلمًا، وأقَلَّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم اللهُ عزَّ وجلَّ لصُحبةِ نبيِّه، وإقامةِ دينِه، فتشبَّهوا بأخلاقِهم وطرائِقِهم؛ فإنَّهم كانوا على الهُدى المُستقيمِ) [289] ((الشريعة)) للآجري (4/1686). .
وقال أبو القاسِمِ الأصبَهانيُّ: (إنَّا وجَدْنا أصحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اختلَفوا في أحكامِ الدِّينِ، فلم يفتَرِقوا، ولم يَصيروا شِيَعًا؛ لأنَّهم لم يُفارِقوا الدِّينَ، ونظَروا فيما أُذِن لهم، فاختلَفَت أقوالُهم وآراؤُهم في مسائِلَ كثيرةٍ...، وكانوا معَ هذا الاختِلافِ أهلَ مودَّةٍ ونُصحٍ، وبقيَت بَينَهم أخوَّةُ الإسلامِ، ولم ينقطِعْ منهم نِظامُ الأُلفةِ) [290] ((الحجة في بيان المحجة)) (ص: 241) باختصارٍ. .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (قد كان العُلَماءُ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بَعدَهم إذا تنازَعوا في الأمرِ اتَّبَعوا أمرَ اللهِ تعالى في قولِه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] ، وكانوا يتناظَرونَ في المسألةِ مُناظَرةَ مُشاوَرةٍ ومُناصَحةٍ، وربَّما اختلَف قولُهم في المسألةِ العِلميَّةِ والعَمليَّةِ معَ بقاءِ الأُلفةِ والعِصمةِ وأخوَّةِ الدِّينِ) [291] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (42/95). .
هكذا كان الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم مُتآلِفينَ، مُجتمِعينَ، بعيدينَ عن أهلِ الفُرقةِ وعن مَناهِجِهم، وهناك نماذِجُ ودلائِلُ عِدَّةٌ على حِرصِهم على الاجتِماعِ وتحذيرِهم مِن الفُرقةِ والاختِلافِ، فقال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه: (يا أيُّها النَّاسُ، عليكم بالطَّاعةِ والجماعةِ؛ فإنَّهما حَبلُ اللهِ الذي أمَر به، وإنَّ ما تكرَهونَ في الجماعةِ والطَّاعةِ هو خيرٌ ممَّا تستحِبُّونَ في الفُرقةِ) [292] رواه ابن جرير في تفسيره (5/ 648). .
وخوفًا مِن الفُرقةِ سارَع الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم بتَوليةِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ الخلافةَ بَعدَ وَفاةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولإدراكِهم أهميَّةَ جَمعِ كلمةِ المُسلِمينَ على رجُلٍ يتولَّاهم، ولم يقضوا شيئًا مِن أمرِ تجهيزِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَفنِه حتَّى أحكَموا أمرَ البَيعةِ [293] يُنظر: ((شرح السُّنَّة)) للبغوي (10/78-84). .
ولمَّا حجَّ عُثمانُ رضِي اللهُ عنه سنةَ 29هـ وهو خليفةٌ، وأتمَّ الصَّلاةَ في مِنًى ولم يقصُرْها؛ عاتَبه في ذلك عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، واعتذَر له عُثمانُ رضِي اللهُ عنهما بأنَّه قد تزوَّج بمكَّةَ، فكان في حُكمِ المُقيمِ لا المُسافِرِ، وبأنَّ أناسًا مِن أهلِ اليَمنِ ظنُّوا أنَّ الصَّلاةَ للمُقيمِ ركعتانِ، فأتمَّ عُثمانُ رضِي اللهُ عنه لذلك، وصلَّى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه معَ عُثمانَ أربعَ رَكَعاتٍ في مِنًى، ولم يُخالِفْه، وقال: الخِلافُ شرٌّ [294] يُنظر: حاشية ((العواصم من القواصم)) للخطيب (ص: 89)، وعزاه لـ ((تاريخ الطبري)) (5/56 -57)، ((تهذيب الآثار)) للطبري (1/224 -226) ((مسند عمر بن الخطاب))، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/154). .
وذكَر المَقبَليُّ مُبيِّنًا حِرصَ الصَّحابةِ على جَمعِ الكلمةِ، واحتِواءِ الخلافِ وتجاوُزِه مِن أجلِ ذلك: أنَّ أكثَرَ إغضائِهم كان لصِيانةِ أخوَّةِ الإسلامِ وحُرمةِ أهلِه، لا لتساهُلٍ في الخلافِ، حتَّى ربَّما يقضي أحدُهم ويترُكُ رأيَه خَشيةَ شُيوعِ الخِلافِ، كقولِ عليٍّ رضِي اللهُ عنه: اقضوا كما كنْتُم تقضونَ؛ فإنِّي أكرَهُ الخلافَ، حتَّى تكونَ النَّاسُ جماعةً، أو أموتَ كما مات أصحابي [295] رواه البخاري (3707). .
وضرَب ذو النُّورَينِ عُثمانُ بنُ عفَّانَ رضِي اللهُ عنه مِثالًا صادِقًا لحِرصِ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم على جَمعِ الكلمةِ، والعَملِ على حَقنِ دِماءِ المُسلِمينَ، ولو بسَفكِ دِمائِهم، فلقد ضحَّى بنَفسِه، ولم ينخَلِعْ مِن الخِلافةِ خَشيةً على أمَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُترَكوا بلا إمامٍ، أو تكونَ سُنَّةً للخارِجينَ، فينفتِحَ بابُ شرٍّ على الأمَّةِ.
ونهى عُثمانُ رضِي اللهُ عنه الصَّحابةَ عن الدِّفاعِ عنه، حتَّى لا يُراقَ دمٌ بسببِه؛ فقد جاء زيدُ بنُ ثابِتٍ إلى عُثمانَ، وقال له: هذه الأنصارُ بالبابِ، يقولونَ: إن شِئْتَ كنَّا أنصارًا للهِ مرَّتَينِ. فقال له عُثمانُ: أمَّا القِتالُ فلا [296] يُنظر: ((الطبقات)) (3/70). ويُنظر: ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 125 -129). .
فعُثمانُ رضِي اللهُ عنه اختار أهوَنَ الشَّرَّينِ، فآثَر التَّضحيةَ بنَفسِه على توسيعِ دائِرةِ الفِتنةِ وسَفكِ دِماءِ المُسلِمينَ [297] يُنظر: حاشية الخطيب على ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 129). ، والصَّحابةُ حَولَه امتثَلوا أمرَ اللهِ بطاعةِ الإمامِ، وكان رضِي اللهُ عنه قد عزَم عليهم بحقِّه في طاعتِهم له ألَّا يُقاتِلوا، فقال: أعزِمُ على كُلِّ مَن رأى أنَّ لي عليه سَمعًا وطاعةً إلَّا كفَّ يدَه وسلاحَه؛ فإنَّ أفضَلَكم غَناءً مَن كفَّ يدَه وسِلاحَه [298] يُنظر: ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 133). !
ولمَّا وقعَت الفِتنةُ الكُبرى بَينَ عليٍّ ومُعاوِيةَ رضِي اللهُ عنهما اعتزَل تلك الفِتنةَ أكثَرُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم، قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا الصَّحابةُ فجُمهورُهم وجُمهورُ أفاضِلِهم ما دخَلوا في فِتنةٍ، قال عبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمَدَ: حدَّثَنا أبي، حدَّثنا إسماعيلُ، يعني ابنَ عُليَّةَ، حدَّثنا أيُّوبُ، يعني السَّختيانيُّ، عن مُحمَّدِ بنِ سيرينَ، قال: هاجت الفِتنةُ وأصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عشَرةُ آلافٍ، فما حضَرها منهم مائةٌ، بل لم يبلُغوا ثلاثينَ، وهذا الإسنادُ مِن أصَحِّ إسنادٍ على وَجهِ الأرضِ، ومُحمَّدُ بنُ سيرينَ مِن أورَعِ النَّاسِ في مَنطِقِه، ومراسيلُه مِن أصَحِّ المراسيلِ، وقال عبدُ اللهِ: حدَّثنا أبي، حدَّثنا إسماعيلُ، حدَّثنا منصورُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، قال: قال الشَّعبيُّ: لم يشهَدِ الجَملَ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَيرُ عليٍّ وعمَّارٍ وطَلحةَ والزُّبَيرِ، فإن جاؤوا بخامسٍ فأنا كذَّابٌ! وقال عبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ: حدَّثنا أبي، حدَّثنا أميَّةُ بنُ خالِدٍ قال: قيل لشُعبةَ: إنَّ أبا شَيبةَ روى عن الحَكمِ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى، قال: شهِد صِفِّينَ مِن أهلِ بدرٍ سبعونَ رجُلًا، فقال: كذَب واللهِ، لقد ذاكرْتُ الحَكمَ بذلك، وذاكَرْناه في بَيتِه، فما وجَدْناه شهِد صِفِّينَ مِن أهلِ بَدرٍ غَيرُ خُزَيمةَ بنِ ثابِتٍ، قلْتُ: هذا النَّفيُ يدُلُّ على قِلَّةِ مَن حضَرها، وقد قيل: إنَّه حضَرها سَهلُ بنُ حُنيَفٍ وأبو أيُّوبَ، وكلامُ ابنِ سيرينَ مُقارِبٌ، فما يكادُ يُذكَرُ مائةُ واحِدٍ، وقد روى ابنُ بطَّةَ عن بُكَيرِ بنِ الأشَجِّ قال: أمَا إنَّ رِجالًا مِن أهلِ بَدرٍ لزِموا بُيوتَهم بَعدَ قَتلِ عُثمانَ، فلم يخرُجوا إلَّا إلى قُبورِهم) [299] ((منهاج السُّنَّة النبوية)) (6/ 236). .
ولقد سار الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم على المَنهَجِ نَفسِه الذي ربَّاهم عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بُغضِ الفُرقةِ، والسَّعيِ لجَمعِ الكلمةِ، والتَّنازُلِ عن بعضِ الحُقوقِ مِن أجْلِ ذلك، فتنازَل الحَسنُ بنُ عليٍّ لمُعاوِيةَ بالخلافةِ حَقنًا لدِماءِ المُسلِمينَ [300] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (5/2169). .
ولمَّا تُوفِّي الحَسنُ بنُ عليٍّ رضِي اللهُ عنهما، وكان قد أوصى أخاه الحُسَينَ أن يُدفَنَ بجِوارِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإن خاف قِتالًا أو فِتنةً فليُدفَنْ بالبَقيعِ، فتسلَّح بنو أميَّةَ، وقالوا: لا ندَعُه يُدفَنُ معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أيُدفَنُ عُثمانُ بالبَقيعِ، ويُدفَنُ الحَسنُ بنُ عليٍّ في الحُجرةِ؟! ولبِس الحُسَينُ سِلاحَه ليَدفِنَ الحَسنَ في الحُجرةِ النَّبويَّةِ، وخاف النَّاسُ وُقوعَ الفِتنةِ والقِتالِ، فأشار عليه سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وأبو هُرَيرةَ، وجابِرٌ، وابنُ عُمرَ رضِي اللهُ عنهم، ألَّا يُقاتِلَ، فامتثَل الحُسَينُ رضِي اللهُ عنه مَشورتَهم، ودفَن أخاه الحَسنَ قريبًا مِن قَبرِ أمِّه فاطِمةَ رضِي اللهُ عنها بالبَقيعِ [301] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (8/44). .
وفي موقِفٍ لابنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنه يَظهَرُ حِرصُه على مُوافَقةِ الجماعةِ وعَدمِ الخُروجِ عنها، أو التَّسبُّبِ بالخُروجِ عليها؛ إذ طلَب مُعاوِيةُ بنُ أبي سُفيانَ منه مُبايَعةَ يَزيدَ ابنِه بالخلافةِ بَعدَه، وبيَّن مُعاوِيةُ سببَ ذلك؛ قال: إنِّي خِفْتُ أن أذَرَ الرَّعيةَ مِن بَعدي كالغَنمِ المطيرةِ ليس لها راعٍ، فقال له ابنُ عُمرَ: إذا بايَعه النَّاسُ كُلُّهم بايَعْتُه، ولو كان عَبدًا مُجدَّعَ الأطرافِ [302] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (8/80). .
ولقد رفَض عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ خَلعَ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ، واشتدَّ نَكيرُ ابنِ عُمرَ على مَن خلَعه، وخاف الفِتنةَ والفُرقةَ مِن خَلعِه والخُروجِ عليه، فجمَع حَشَمَه ووَلدَه، فقال: إنِّي سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُنصَبُ لكُلِّ غادِرٍ لواءٌ يومَ القِيامةِ ))، وإنَّا قد بايَعْنا هذا الرَّجلَ على بَيعِ اللهِ ورسولِه...، وإنِّي لا أعلَمُ أحدًا منكم خلَعَه ولا تابَع في هذا الأمرِ إلَّا كانت الفَيصلَ بَيني وبَينَه [303] رواه البخاري (7111) واللَّفظُ له، ومسلم (1735). .
بل لِعِلمِه رضِي اللهُ عنه بحُرمةِ الخُروجِ على السُّلطانِ، وخُطورتِه وضَررِه على المُسلِمينَ، ذهَب ناصِحًا لعبدِ اللهِ بنِ مُطيعٍ ومَن معَه مِن أهلِ المدينةِ لمَّا أرادوا خَلعَ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ، فذهَب إليه ابنُ عُمرَ، فيقولُ عبدُ اللهِ بنُ مُطيعٍ: اطرَحوا لأبي عبدِ الرَّحمنِ وِسادةً، فقال ابنُ عُمرَ: إنِّي لم آتِك لأجلِسَ، أتَيتُك لأُحدِّثَك حديثًا؛ سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن خلَع يدًا مِن طاعةٍ لَقِي اللهَ يومَ القِيامةِ لا حُجَّةَ له، ومَن مات وليس في عُنقِه بَيعةٌ مات مِيتةً جاهليَّةً )) [304] رواه مسلم (1851). .
كما حرَص الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم على اجتِماعِ الأمَّةِ، وعَدمِ حُدوثِ شيءٍ يُشوِّشُ على العامَّةِ، أو يوجِبُ اختِلافَهم؛ لذلك لمَّا رأى عُمرُ بنُ الخطَّابِ أُبَيَّ بنَ كَعبٍ وعبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ يختلِفانِ في الصَّلاةِ في الثَّوبِ الواحِدِ -إذ قال أُبَيٌّ: الصَّلاةُ في الثَّوبِ الواحِدِ حَسنٌ جميلٌ، وقال ابنُ مسعودٍ: إنَّما كان والثِّيابُ قليلةٌ- خرَج عُمرُ مُغضَبًا، وقال: (اختلَف رجُلانِ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن يُنظَرُ إليه ويُؤخَذُ عنه؟ وقد صدَق أُبَيٌّ، ولم يألُ ابنُ مسعودٍ، ولكنِّي لا أسمَعُ أحدًا يختلِفُ فيه بَعدَ مُقامي هذا إلَّا فعلْتُ به كذا وكذا) [305] يُنظر: ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (2/911، 914). .
وأوصى الصَّحابةُ بهَجرِ أصحابِ البِدَعِ، ونهَوا عن مُجالَستِهم ومُحادَثتِهم، حتَّى السَّلامِ عليهم.
فهذا عُمرُ بنُ الخطَّابِ يضرِبُ صَبيغَ بنَ عِسْلٍ لمَّا كان يسألُ أسئِلةً تُثيرُ الشُّبهةَ في نُفوسِ النَّاسِ، وأمَر النَّاسَ بهَجرِه وعَدمِ الجُلوسِ معَه؛ تأديبًا له، ومَنعًا مِن انتِشارِ شرِّه بَينَ النَّاسِ حتَّى أعلَن توبتَه [306] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (1/481)، شرح أصول اعتقاد أهل ((السُّنَّة)) للالكائي (4/634)، ولقد نَفَع ذلك مع صَبيغِ بنِ عِسلٍ؛ إذ إنَّه دُعِي بعد ذلك إلى اللَّحاقِ بالخوارجِ الحَروريَّةِ فرَفَض، وقال: "هيهاتَ! قد نفعني اللهُ بموعظةِ الرَّجُلِ الصَّالحِ"، يقصِدُ تأديبَ عُمَرَ له. يُنظر: مصنف عبد الرازق (11/426)، ((التنبيه والرد)) للمَلَطي (ص: 181). .
وأوصى ابنُ عبَّاسٍ بهَجرِ القَدَريَّةِ، فقال: (لا تُجالِسْهم، ولا تُكلِّمْهم) [307] يُنظر: ((الشريعة)) للآجُرِّي (2/875)، و(5/2024، 2524، 2544). .
ومِن مواقِفِ الصَّحابةِ -رضِي اللهُ عنهم- ومُحاوَلتِهم استِدراكَ الخلافِ واحتِواءَه قَبلَ فُشوِّه وانتِشارِه؛ ما حصَل في زمنِ عُثمانَ رضِي اللهُ عنه؛ ذلك أنَّ حُذَيفةَ بنَ اليَمانِ قدِم عليه، وكان يُغازي بأهلِ الشَّامِ في فَتحِ أَرمِينيَةَ وأَذْرَبِيجانَ معَ أهلِ العِراقِ، فأفزَع حُذَيفةَ اختِلافُهم في قراءةِ القرآنِ، فلمَّا رجَع قال لعُثمانَ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أدرِكْ هذه الأمَّةَ قَبلَ أن يختَلِفوا في الكتابِ اختِلافَ اليهودِ والنَّصارى؛ إذ بلَغ اختِلافُهم أنْ كفَّر بعضُهم بعضًا، فاستشار عُثمانُ الصَّحابةَ رضِي اللهُ عنهم في أن يجمَعَ النَّاسَ على مُصحَفٍ واحِدٍ، فلا تكونَ فُرقةٌ ولا اختِلافٌ؛ فكان ذلك [308] رواه البخاري (4987) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وما وقَع بَينَ الصَّحابةِ يومَ الجَملِ وصِفِّينَ يشهَدُ لهم -رضِي اللهُ عنهم- بسلامتِهم مِن قَصدِ الفُرقةِ، وحِرصِهم -رضِي اللهُ عنهم- على إقامةِ الحقِّ، فأمَّا ما حدَث في وقعةِ الجَملِ ومسيرِ أمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ، والزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ وطَلحةَ -رضِي اللهُ عنهم- إلى البَصرةِ، إنَّما كان غَرضُهم في ذلك أمرَينِ:
1- الصُّلحُ ولمُّ الشَّملِ وجَمعُ كلمةِ المُسلِمينَ.
2- الطَّلبُ بدمِ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ بنِ عفَّانَ [309] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (7/230، 239، 241). .
وكان قَصدُ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رضِي اللهُ عنه الصُّلحَ أيضًا [310] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (7/234، 235، 238). .
قال ابنُ حَزمٍ: (أمَّا أمُّ المُؤمِنينَ والزُّبَيرُ وطَلحةُ -رضِي اللهُ عنهم- لم يَمضوا إلى البَصرةِ لحَربِ عليٍّ، ولا خِلافًا عليه ولا نَقضًا لبَيعتِه، ولو أرادوا ذلك لأحدَثوا بَيعةً غَيرَ بَيعتِه، فصحَّ أنَّهم إنَّما نهَضوا إلى البَصرةِ لسدِّ الفَتقِ الحادِثِ في الإسلامِ مِن قَتلِ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ رضِي اللهُ عنه ظُلمًا، ولم يكنْ نُهوضُ عليٍّ إلى البَصرةِ لِقِتالِهم، لكنْ مُوافِقًا لهم على ذلك؛ ليقوى بهم، وتجتمِعَ الكلمةُ على قَتَلةِ عُثمانَ رضِي اللهُ عنه، وبُرهانُ ذلك أنَّهم اجتمَعوا ولم يقتِتلوا ولا تحارَبوا، فلمَّا كان اللَّيلُ عرَف قَتَلةُ عُثمانَ أنَّ الإراغةَ والتَّدبيرَ عليهم، فبيَّتوا عَسكَرَ طلحةَ والزُّبَيرِ، وبذَلوا السَّيفَ فيهم، فدفَع القومُ عن أنفُسِهم، فردَعوا حتَّى خالَطوا عَسكَرَ عليٍّ، فدفَع أهلُه عن أنفُسِهم، وكُلُّ طائِفةٍ تظُنُّ ولا تشُكُّ أنَّ الأخرى بدأَتها بالقِتالِ، فاختلَط الأمرُ اختِلاطًا لم يقدِرْ أحدٌ على أكثَرَ مِن الدِّفاعِ عن نَفسِه، والفَسَقةُ قَتَلةُ عُثمانَ -لعَنهم اللهُ- لا يَفتُرونَ مِن شبِّ الحربِ وإضرامِها؛ فكلتا الطَّائِفتَينِ مُصيبةٌ في غَرضِها ومَقصَدِها، مُدافِعةٌ عن نَفسِها) [311] ((الفصل)) (4/ 238). .
فالقِتالُ وقَع بقَصدِ أهلِ الفِتنةِ لا بقَصدِ السَّابِقينَ الأوَّلينَ [312] يُنظر: ((منهاج السُّنَّة)) النبوية لابن تيمية (6/339). ويُنظر: ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) لأبي بكر الباقلاني (553، 557). ، فرضِي اللهُ عنهم وأرضاهم.
أمَّا ما جرى بَينَ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ ومُعاوِيةَ بنِ أبي سُفيانَ رضِي اللهُ عنهم في صِفِّينَ؛ فبيَّن ابنُ حَزمٍ أنَّ ما حدَث كان اجتِهادًا في الرَّأيِ مِن مُعاوِيةَ رضِي اللهُ عنه؛ حيثُ إنَّه رأى تقديمَ أخذِ القَوَدِ مِن قَتَلةِ عُثمانَ رضِي اللهُ عنه على البَيعةِ، ورأى نَفسَه أحَقَّ بطَلبِ دمِ عُثمانَ مِن وَلَدِ عُثمانَ، وله في ذلك مُستنَدٌ [313] مُستَنَدُه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر عبدَ الرَّحمنِ بنَ سَهلٍ أخا عبدِ اللهِ بنِ سَهلٍ المقتولِ بخيبرَ بالسُّكوتِ، وهو أخو المقتولِ، وقال له: كَبِّرْ... كَبِّرْ، وروى: الكُبْرَ الكُبْرَ، فسَكَت عبدُ الرَّحمنِ وتكلَّم مُحَيِّصةُ وحُوَيِّصةُ ابنا مسعودٍ، وهما ابنا عَمِّ المقتولِ؛ لأنَّهما كانا أسَنَّ من أخيه. يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/241). ، وإنَّما أخطأَ مِن تقديمِه ذلك على البيعةِ فقط، وأمَّا عليٌّ رضِي اللهُ عنه فقاتَل مُعاوِيةَ لامتِناعِه عن إنفاذِ أوامِرِه في جميعِ أرضِ الشَّامِ، وهو الإمامُ الواجِبةُ طاعتُه، ومَن لزِمه حقٌّ واجِبٌ، وامتنَع مِن أدائِه، وقاتَل دونَه؛ فإنَّه يجِبُ على الإمامِ أن يُقاتِلَه، وإن كان مُتأوِّلًا، وليس ذلك بمُؤثِّرٍ في عدالتِه وفَضلِه، ولا بموجِبٍ له فِسقًا، بل هو مأجورٌ إن شاء اللهُ؛ لاجتِهادِه ونيَّتِه في طَلبِ الخيرِ [314] يُنظر: ((الفصل)) (4/240 – 244). ويُنظر: ((الرد على الرافضة)) لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 364 – 371)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/268)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (8/252 – 277). .
وقال النَّوَويُّ في شرحِ حديثِ: ((إذا تواجَه المُسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتِلُ والمقتولُ في النَّارِ )) [315] رواه البخاري (31)، ومسلم (2888) واللَّفظُ له من حديثِ أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه. : (اعلَمْ أنَّ الدِّماءَ التي جرَت بَينَ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم ليست بداخِلةٍ في هذا الوعيدِ، ومذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والحقِّ إحسانُ الظَّنِّ بهم، والإمساكُ عمَّا شجَر بَينَهم، وتأويلُ قِتالِهم، وأنَّهم مُجتهِدونَ مُتأوِّلونَ لم يقصِدوا معصيةً ولا مَحْضَ الدُّنيا، بل اعتقَد كُلُّ فريقٍ أنَّه المُحِقُّ، ومُخالِفَه باغٍ، فوجَب عليه قِتالُه ليرجِعَ إلى أمرِ اللهِ، وكان بعضُهم مُصيبًا وبعضُهم مُخطِئًا معذورًا في الخطأِ؛ لأنَّه لاجتهادٍ، والمُجتهِدُ إذا أخطَأ لا إثمَ عليه، وكان عليٌّ رضِي اللهُ عنه هو المُحِقَّ المُصيبَ في تلك الحُروبِ، هذا مذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ، وكانت القضايا مُشتبِهةً، حتَّى إنَّ جماعةً مِن الصَّحابةِ تحيَّروا فيها فاعتزَلوا الطَّائفتَينِ، ولم يُقاتِلوا، أو لم يتيقَّنوا الصَّوابَ، ثُمَّ تأخَّروا عن مساعدتِه منهم) [316] ((شرح مسلم)) (18/11). .


انظر أيضا: