موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: مِن مَضارِّ الفُرقةِ وآثارِها على المُجتمَعِ المُسلِمِ: ذَهابُ قوَّةِ المُسلِمينَ ووُقوعُهم في الهزيمةِ والفَشلِ


إنَّ مِن مَضارِّ الفُرقةِ الجسيمةِ التي تقعُ على الأمَّةِ ما يحدُثُ مِن ذهابِ قوَّةِ المُسلِمينَ: القوَّةِ المعنويَّةِ، والقوَّةِ الماديَّةِ؛ لِما تُسبِّبُه الفُرقةُ مِن تناحُرٍ وتقاتُلٍ بَينَ المُسلِمينَ، كما في حديثِ ثَوبانَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ ربِّي قال: يا مُحمَّدُ، إنِّي إذا قضَيتُ قضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ، وإنِّي أعطَيتُك لأمَّتِك ألَّا أُهلِكَهم بسنةٍ عامَّةٍ، وألَّا أُسلِّطَ عليهم عَدُوًّا مِن سِوى أنفُسِهم يستبيحُ بَيضتَهم، ولو اجتمَع عليهم مَن بأقطارِها -أو قال: مَن بَينَ أقطارِها- حتَّى يكونَ بعضُهم يُهلِكُ بعضًا، ويَسبي بعضُهم بعضًا)) [282] رواه مسلم (2889). .
قال القُرطُبيُّ: (يقتضي ظاهِرُ هذا الكلامِ: أنَّه لا يُسلِّطُ عليهم عُدُوَّهم فيستبيحَهم، إلَّا إذا كان منهم إهلاكُ بعضِهم لبعضٍ، وسَبيُ بعضِهم لبعضٍ، وحاصِلُ هذا أنَّه إذا كان مِن المُسلِمينَ ذلك تفرَّقَت جماعتُهم، واشتغَل بعضُهم ببعضٍ عن جِهادِ العدُوِّ، فقوِيَت شوكةُ العَدوِّ، واستولى، كما شاهَدْناه في أزمانِنا هذه في المَشرِقِ والمَغرِبِ؛ وذلك أنَّه لمَّا اختلَف مُلوكُ الشَّرقِ وتجادَلوا استَولى كُفَّارُ التُّركِ على جميعِ عِراقِ العَجَمِ، ولمَّا اختلَف مُلوكُ المَغرِبِ وتجادَلوا استولَت الإفرنجُ على جميعِ بلادِ الأندلُسِ، والجُزُرِ القريبةِ منها، وها هم قد طمِعوا في جميعِ بلادِ الإسلامِ) [283] ((المفهم)) (7/ 218). .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِي اللهُ عنهما قال: ((لمَّا نزَل على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام: 65] ، قال: أعوذُ بوَجهِك، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام: 65] ، قال: أعوذُ بوَجهِك، فلمَّا نزَلَت: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65] ، قال: هاتان أهوَنُ، أو أيسَرُ)) [284] رواه البخاري (7313). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (ذكَر المُفسِّرونَ في قولِه تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ، قالوا: يَحصِبُكم بالحِجارةِ، أو يُغرِقُكم بالطُّوفانِ الذي غَرِق به قومُ نوحٍ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ؛ الخَسفُ الذي نال قارونَ ومَن خُسِف به، وقيل: الرِّيحُ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا يعني: يخلِطَ أمرَكم، فيَجعَلَكم مُختلِفي الأهواءِ، يُقالُ: لبَسْتُ عليكم الأمرَ أَلبِسُه: إذا لم أُبيِّنْه، ومعنى شِيَعًا، أي: فِرَقًا، لا نكونُ شيعةً واحِدةً، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65] ، يعني بالحربِ والقَتلِ، ويُروى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سأل ربَّه عزَّ وجلَّ ألَّا يستأصِلَ أمَّتَه بعذابٍ، ولا يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعضٍ، فأجابه عزَّ وجلَّ في صَرفِ العذابِ، ولم يُجِبْه في ألَّا يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعضٍ، وألَّا تختلِفَ [285] رواه مسلم (2889). ؛ فلذلك قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (هاتانِ أهوَنُ أو أيسَرُ)، أي: الاختِلافُ والفِتنةُ أيسَرُ مِن الاستِئصالِ والانتِقامِ بعذابِ اللهِ، وإن كانت الفِتنةُ مِن عذابِ اللهِ، لكن هي أخَفُّ؛ لأنَّها كفَّارةٌ للمُؤمِنينَ) [286] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 218). .
إنَّ الفُرقةَ متى ما دبَّت في الأمَّةِ قاتَل بعضُهم بعضًا، وصار كُلٌّ يُريدُ الغَلبةَ لنَفسِه، والسِّيادةَ لمُلكِه، وتحقيقَ مَصلحةِ نَفسِه، حتَّى لو قتَل أخاه المُسلِمَ، وسبى أهلَه، واعتَدى على أرضِه ومالِه.
وذهابُ قوَّةِ المُسلِمينَ يُؤدِّي للهزيمةِ والفَشلِ.
قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكرُه للمُؤمِنينَ به: أطيعوا -أيُّها المُؤمِنونَ- ربَّكم ورسولَه فيما أمرَكم به ونهاكم عنه، ولا تُخالِفوهما في شيءٍ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال: 46] ، يقولُ: ولا تختلِفوا فتفرَّقوا وتختلِفَ قُلوبُكم فتَفشَلوا، يقولُ: فتَضعُفوا وتجبُنوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وهذا مَثَلٌ؛ يُقالُ للرَّجلِ إذا كان مُقبِلًا عليه ما يُحبُّه ويُسَرُّ به: الرِّيحُ مُقبِلةٌ عليه، يعني بذلك ما يُحبُّه، وإنَّما يُرادُ به في هذا الموضِعِ: وتذهَبَ قوَّتُكم وبأسُكم فتَضعُفوا، ويدخُلَكم الوَهْنَ والخَللُ) [287] ((تفسير ابن جرير)) (11/ 214). .

انظر أيضا: