موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالِثُ: من أوجُهِ الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ في استدلالِهم بقَولِ اللهِ تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17]


فقالوا: إنَّ الذي رمى في الحقيقةِ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، ولكِنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما رمى.
وهذا الاستدلالُ على مُعتقَدِهم في القَدَرِ مردودٌ عليهم من وجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ ظاهِرَ الآيةِ كما هو واضِحٌ أثبت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رميًا، فقال إِذْ رَمَيْتَ، ونفى عنه رميًا بقولِه: وَمَا رَمَيْتَ، والنَّظَرُ الصَّحيحُ يدُلُّ على أنَّه لا بُدَّ من الجَمعِ ما بَينَ الرَّميِ المنفيِّ والرَّميِ المُثبَتِ، وهذا يتَّضحُ بأنَّ العبدَ إذا فعَلَ الفِعلَ فإنَّ الفِعلَ الذي يفعَلُه سَبَبٌ في حدوثِ المسبَّبِ، ولا يحصُلُ المسبَّبُ ولا تحصُلُ النتيجةُ بفعلِ العبدِ وَحدَه، بل لا بدَّ من إعانةٍ من اللهِ عزَّ وجلَّ.
وهذا ظاهِرٌ في الرَّميِ بخُصوصِه؛ لأنَّ الرَّميَ عن بُعدٍ له ابتداءٌ وله انتهاءٌ؛ فابتداءُ الرَّميِ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لكِنَّ الانتهاءَ -بأن يصيبَ رَميُ النَّبلِ أو رَميُ الحصاةِ- أن يصيبَ فُلانًا المُشرِكَ ويموتَ منه، هذا من اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ العبدَ لا يملِكُ أن تكونَ رميَتُه ماضيةً فتُصيبَ.
ولهذا فيكونُ العبدُ هنا متخلِّصًا من رؤيتِه لنفسِه، ومِن حَولِه وقُوَّتِه مع فِعلِه، فأراد عزَّ وجلَّ أن يُعلِمَ نبيَّه والمُؤمِنينَ أن يتخلَّصوا من إعجابِهم ورؤيتِهم لأفعالِهم وأنفُسِهم، فقال: افعَلوا ولكِنَّ الذي يمُنُّ عليكم ويُسَدِّدُ رَميَكم هو اللهُ جلَّ جلالُه.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه لو قيلَ -على قَولِ الجَبْريَّةِ-: إنَّ اللهَ هو الذي يفعَلُ الأشياءَ، لكان تقديرُ الآيةِ -كما قاله جماعةٌ- أن يقالَ في كُلِّ فِعلٍ فعَلَه العبدُ: (ما فعَلَه العبدُ، ولكِنَّ اللهَ فعَلَه)، كأن تقولَ: ما صلَّيتَ إذ صلَّيتَ، ولكِنَّ اللهَ صلَّى، وما زكَّيتَ إذ زكَّيتَ، ولكِنَّ الله زكَّى، وما مشَيتَ إذ مشَيتَ، ولكِنَّ الله مشى! وهكذا حتَّى في الأعمالِ القبيحةِ المَشينةِ التي يُنزَّهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عنها بالإجماعِ، كقَولِ القائِلِ -عياذًا باللهِ- وما سرَقتُ إذ سرَقتُ، ولكِنَّ اللهَ... تعالى اللهُ عمَّا يقولونَ علُوًّا كبيرًا. والقَولُ إذا كان يلزَمُ منه اللازمُ الباطِلُ يدُلُّ على فسادِه وعدَمِ اعتبارِه؛ لأنَّ القَولَ الحقَّ الصَّحيحَ لا يلزَمُ منه لوازِمُ باطلةٌ، والقَولُ الباطِلُ هو الذي ينشَأُ عنه لوازمُ باطِلةٌ [240] يُنظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لصالح آل الشيخ (2/ 750). .

انظر أيضا: