موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: من أوجُهِ الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ في مُعتقَدِهم في القَدَرِ: أنَّ حقيقةَ قولِهم أنَّ العبدَ مسلوبُ الإرادةِ والاختيارِ لأفعالِه


فمَثَلُه كمَثَلِ حَركةِ المرتَعِدِ، وهبوبِ الرِّياحِ، وحركةِ النَّائمِ، وحركةِ الأشجارِ وتمايُلِها بفِعلِ الرِّياحِ، ثُمَّ زعموا ما لا يعقِلُه أحدٌ إلَّا هم ومن قال بقولهم، وهو أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مع أنَّه هو الذي جبَرَ الإنسانَ على فِعلِه رغمًا عنه، ومع ذلك فإنَّ اللهَ يُعذِّبُه بنارِ جهنَّمَ، مع أنَّ الفِعلَ هو نفسُه فِعلُ اللهِ فيه! وقالوا: إنَّ هذا ليس بظُلمٍ؛ لأنَّ الإنسانَ مِلكُ اللهِ؛ لأنَّ الظُّلمَ في مفهومِهم هو المُحالُ لذاتِه غيرُ المتصَوَّرِ وقوعُه.
فهذا تكذيبٌ لقَولِ اللهِ تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] ، وقَولِه تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الكثيرةِ التي تفيدُ أنَّ اللهَ تعالى حرَّم الظُّلمَ على نفسِه، وقد مُدِح بذلك لبيانِ كَمالِ عَدلِه، فأين هذا المفهومُ من مفهومِ الجَهْميَّةِ حينما يُقرِّرونَ أنَّ الإنسانَ مجبورٌ على ما يأتيه من الأفعالِ القبيحةِ والمُنكَراتِ؛ لأنَّ مُوجِدَها إنَّما اللهُ تعالى، ثُمَّ كلَّفه بامتثالِ أمْرِه ونَهيِه؟ فكيف يُتصَوَّرُ هذا؟ يُكلِّفُه اللهُ بالامتثالِ ثُمَّ يُوجِدُ فيه قُوَّةَ العصيانِ، هذا تناقُضٌ وتكليفٌ بما لا يُطاقُ.
وقد أخبر اللهُ تعالى بأنَّ الحقَّ هو عَكسُ هذا المفهومِ؛ فقال عزَّ وجلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 86] ، وجبْرُ العبدِ على فِعلِه لا يتَّفِقُ مع مضمونِ هذه الآيةِ وغيرِها من الآياتِ والأحاديثِ، ويصِحُّ على مفهومِ هؤلاء الجَهْميَّةِ ألَّا يقالَ للزَّاني: إنَّه زانٍ، ولا للسَّارِقِ: إنَّه سارِقٌ، ولا للمُصَلِّي: إنَّه مُصِلٍّ... إلخ؛ لأنَّ هذه الأفعالَ هي أفعالُ اللهِ فيهم، وإنَّما هم مُنفِّذون لها، لقد أعظموا على اللهِ الفِريةَ، واتَّبَعوا ما ليس لهم بحَقٍّ [238] يُنظر: ((فرق معاصرة)) لغالب عواجي (3/1145- 1148). وللاستزادة يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 3)، ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) لابن الوزير (7/ 145)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/ 411). .
قال ابنُ القيِّمِ: (زعَمَت ‌هذه ‌الفِرقةُ أنَّهم بذلك للسُّنَّةِ ناصِرونَ، وللقَدَرِ مُثبِتونَ، ولأقوالِ أهلِ البِدَعِ مُبطِلونَ، هذا وقد طوَوا بِساطَ التكليفِ، وطفَّفوا في الميزانِ غايةَ التطفيفِ، وحملوا ذنوبَهم على الأقدارِ، وبرَّؤوا أنفُسَهم في الحقيقةِ مِن فِعلِ الذُّنوبِ والأوزارِ، وقالوا إنَّها في الحقيقةِ فِعلُ الخلَّاقِ العليمِ! وإذا سمِعَ المُنزِّهُ لرَبِّه هذا قال: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور: 16] ! فالشَّرُّ ليس إليك، والخَيرُ كُلُّه في يديك، ولقد ظنَّت هذه الطَّائفةُ باللهِ أسوأَ الظَّنِّ ونسبَتْه إلى أقبَحِ الظُّلمِ، وقالوا: إنَّ أوامِرَ الرَّبِّ ونواهيَه كتكليفِ العبدِ أن يرقى فَوقَ السَّمَواتِ، وكتكليفِ الميِّتِ إحياءَ الأمواتِ، واللهُ يُعذِّبُ عبادَه أشدَّ العذابِ على فِعلِ ما لا يقدِرونَ على تَركِه، وعلى تَركِ ما لا يقدِرونَ على فِعلِه، بل يعاقِبُهم على نَفسِ فِعلِه الذي هو لهم غيرُ مقدورٍ، وليس أحدٌ مُيَسَّرًا له، بل هو عليه مقهورٌ! ونرى العارِفَ منهم يُنشِدُ مُترنِّمًا، ومن ربِّه مُتشكِّيًا ومُتظلِّمًا:
ألقاه في اليَمِّ مكتوفًا وقال له
إيَّاك إيَّاك أن تبتَلَّ بالماءِ
وليس عِندَ القومِ في نَفسِ الأمرِ سَبَبٌ ولا غايةٌ، ولا حِكمةٌ ولا قُوَّةٌ في الأجسامِ، ولا طبيعةٌ ولا غريزةٌ؛ فليس في الماءِ قُوَّةُ التبريدِ، ولا في النَّارِ قُوَّةُ التسخينِ، ولا في الأغذيةِ قُوَّةُ الغذاءِ، ولا في الأدويةِ قُوَّةُ الدَّواءِ، ولا في العَينِ قُوَّةُ الإبصارِ، ولا في الأذُنِ قُوَّةُ السَّماعِ، ولا في الأنفِ قُوَّةُ الشَّمِّ، ولا في الحيوانِ قُوَّةٌ فاعلةٌ ولا جاذِبةٌ، ولا مُمسِكةٌ ولا دافِعةٌ، والرَّبُّ تعالى لم يفعَلْ شيئًا بشيءٍ ولا شيئًا لشيءٍ) [239] ((شفاء العليل)) (ص: 4). .

انظر أيضا: