موسوعة الفرق

المَطلَبُ الرَّابعُ: مِن أوجُهِ الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ في زَعمِهم أنَّ إثباتَ تأثيرِ قُدرةِ العبدِ المخلوقةِ في وُجودِ فِعلِه يلزَمُ منه الشِّركُ، فيَرَونَ القَولَ بالجَبْرِ فِرارًا من الوُقوعِ في الشِّركِ


وقد وُجِّه هذا الإيرادُ لابنِ تيميَّةَ، فأجاب عنه بأنَّ: (التَّأثيرَ اسمٌ مُشتَرَكٌ؛ قد يرادُ بالتأثيرِ الانفرادُ بالابتداعِ، والتوحيدُ بالاختراعِ.
فإن أُريدَ بتأثيرِ قُدرةِ العبدِ هذه القُدرةُ فحاشا للهِ، لم يَقُلْه سُنِّيٌّ، وإنَّما هو المعزوُّ إلى أهلِ الضَّلالِ.
وإن أُريدَ بالتأثيرِ نوعُ مُعاونةٍ إمَّا في صفةٍ من صفاتِ الفِعلِ، أو في وَجهٍ من وُجوهِه، كما قاله كثيرٌ من مُتكلِّمي أهلِ الإثباتِ، فهو أيضًا باطلٌ بما به بَطَلَ التأثيرُ في ذاتِ الفعلِ؛ إذ لا فَرقَ بَينَ إضافةِ الانفرادِ بالتأثيرِ إلى غَيرِ اللهِ سُبحانَه في ذرَّةٍ أو فيلٍ، وهل هو إلَّا شِركٌ دونَ شِركٍ، وإن كان قائِلُ هذه المقالةِ ما نحا إلَّا نحوَ الحَقِّ.
وإن أُريدَ بالتأثيرِ أنَّ خُروجَ الفِعلِ مِن العَدَمِ إلى الوُجودِ كان بتوسُّطِ القُدرةِ المحدَثةِ، بمعنى أنَّ القُدرةَ المخلوقةَ هي سبَبٌ وواسِطةٌ في خلْقِ اللهِ سُبحانَه وتعالى الفِعلَ بهذه القُدرةِ، كما خلَقَ النَّباتَ بالماءِ، وكما خلَقَ الغَيثَ بالسَّحابِ، وكما خلَقَ جَميعَ المُسَبَّباتِ والمخلوقاتِ بوسائِطَ وأسبابٍ، فهذا حَقٌّ.
وهذا شأنُ جميعِ الأسبابِ والمُسَبَّباتِ، وليس إضافةُ التأثيرِ بهذا التفسيرِ إلى قُدرةِ العبدِ شِركًا، وإلَّا فيكونُ إثباتُ جميعِ الأسبابِ شِركًا، وقد قال الحكيمُ الخبيرُ: فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف: 57] ، فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل: 60] ، وقال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة: 14] ، فبيَّن أنَّه المعذِّبُ، وأنَّ أيديَنا أسبابٌ وآلاتٌ وأوساطٌ وأدواتٌ في وُصولِ العذابِ إليهم، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يموتَنَّ أحَدٌ منكم إلَّا آذَنْتُموني حتى أصلِّيَ عليه؛ فإنَّ اللهَ جاعِلٌ بصلاتي عليه بركةً ورحمةً)) [241] أخرجه النسائي (2022)، وابن ماجه (1528)، وأحمد (19452) باختلاف يسير من حديث يزيد بن ثابت رضي الله عنه، ولفظ النَّسائي: ((لا يموتُ فيكم ميِّتٌ ما دمتُ بين أظهُرِكم إلَّا آذنتُموني به؛ فإنَّ صلاتي له رحمةٌ)). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (3087)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2022)، وحسنه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (6/271). ، فاللهُ سُبحانَه هو الذي يجعَلُ الرَّحمةَ، وذلك إنما يجعَلُه بصلاةِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [242] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 389). .
وفرَّق ابنُ القيِّمِ بَينَ ما يُضافُ إلى قُدرةِ اللهِ تعالى وما يُضافُ إلى قُدرةِ العبدِ من أفعالِ العبادِ، فقال: (يُضافُ الفِعلُ إلى قُدرةِ العبدِ ‌إضافةَ ‌السَّبَبِ ‌إلى ‌مُسبِّبه، ويضافُ إلى قُدرةِ الرَّبِّ إضافةَ المخلوقِ إلى الخالِقِ، فلا يمتنِعُ وقوعُ مقدورٍ بَينَ قادرَينِ قدرةُ أحدِهما أثَرٌ لقُدرةِ الآخَرِ، وهي جزءُ سَبَبٍ، وقُدرةُ القادِرِ الآخَرِ مُستقِلَّةٌ بالتأثيرِ... فنقولُ: الفِعلُ وَقَع بقُدرةِ الرَّبِّ خَلْقًا وتكوينًا، كما وقعَت سائرُ المخلوقاتِ بقُدرتِه وتكوينِه، وبقُدرةِ العبدِ سببًا ومباشَرةً، واللهُ خَلَق الفِعلَ، والعبدُ فعَلَهُ وباشرَه، والقُدرةُ الحادثةُ وأثَرُها واقعانِ بقُدرةِ الرَّبِّ ومشيئتِه) [243] ((شفاء العليل)) (ص: 146). .

انظر أيضا: