الموسوعة الفقهية

المبحث التَّاسع: لُبس الخفَّين بعد كمال الطَّهارة


اختلف أهلُ العِلمِ في اشتراط لُبسِ الخفَّين بعد كمالِ الطَّهارةِ، على قولين:
القول الأوّل: يُشتَرطُ لِجوازِ المسحِ على الخفَّين أن يكونَ لَبِسَهما بعد غَسلِ الرِّجلين كِلتَيهما، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (1/320)، ((حاشية الدسوقي)) (1/143) ، والشَّافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (1/124)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/48). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/171-172)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/126، 127)
الدليل مِن السُّنَّةِ:
عن المُغيرة بن شُعبة رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كنتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سفَرٍ، فأهويتُ لأنزِعَ خفَّيه، فقال: دعْهما؛ فإنِّي أدخلتُهما طاهِرَتينِ، فمسَح عليهما )) رواه البخاري (206) واللفظ له، ومسلم (274).
وجه الدَّلالة:
أنَّ عمومَ قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أدخلتُهما طاهرتين)) يدلُّ على اشتراطِ الطَّهارة الكاملةِ عند إدخال الخفَّين؛ لصحَّةِ المَسحِ عليهما يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/116).
القول الثاني: لا يُشتَرَطُ أن يكون لُبسُ الخفَّينِ بعد كمالِ الطَّهارةِ؛ وهو مذهَبُ الحنفيَّة ((البناية شرح الهداية)) للعيني (1/ 578)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/9)، ((شرح فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/147) ، والظَّاهريَّة قال ابن حزم: (مَن توضَّأ فلبِس أحد خفَّيه بعد أن غسَل تلك الرِّجل، ثم إنَّه غسَل الأخرى بعد لِباسه الخفَّ على المغسولةِ، ثم لبِس الخفَّ الآخَرَ، ثم أحْدث، فالمسحُ له جائزٌ، كما لو ابتدأ لباسَهما بعد غَسلِ كِلتَي رِجلَيه، وبه يقول أبو حنيفةَ وداود، وأصحابهما). ((المحلى)) (1/333). ، وروايةٌ عند الحنابلة ((المغني)) لابن قدامة (1/207)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (21/209). ، وبه قال طائفةٌ مِن السَّلَفِ قال ابن حزم: (وهو قولُ يحيى بن آدَم وأبي ثور والمُزَني). ((المحلى)) (1/333). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (ولو غَسَل إحدى رِجلَيه وأدخَلَها الخفَّ، ثم فعَلَ بالأخرى مثلَ ذلك، ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: يجوز المسح... والثانية: لا يجوز... والقولُ الأوَّل هو الصَّوابُ بلا شك). ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (21/209-210). ، وابنُ القيِّم قال ابن القيِّم: (إذا توضَّأ ولبس إحدى خفَّيه قَبل غسْلِ رِجله الأخرى، ثم غسَل رِجلَه الأخرى وأدْخَلَها في الخفِّ؛ جاز له المسحُ على أصحِّ القولين). ((إعلام الموقعين)) (3/370).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن المُغيرةِ بن شُعبَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كنتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفرٍ، فأهويتُ لِأنزعَ خُفَّيه، فقال: ((دَعْهما؛ فإنِّي أدخلتُهما طاهرتينِ، فمَسَح عليهما )) رواه البخاري (206)، ومسلم (274)
وجه الدَّلالة:
أنَّ مَن غَسلَ إحدى رِجلَيه ثم ألبَسَها الخفَّ، ثم غسَل الثَّانية ثم ألبَسها الخفَّ، فإنَّه يصدُقُ عليه أنَّه أدخل قدَميه في الخفِّ طاهِرَتينِ قال ابنُ حزم: (كِلا القَولينِ عمدةُ أهلِه، على قولِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دعْهما؛ فإنِّي أدخَلْتُهما طاهِرَتينِ))، فوجب النَّظرُ في أيِّ القَولينِ هو أسعدُ بهذا القَولِ، فوجدْنا مَن طهَّرَ إحدى رجلَيه ثم ألبَسَها الخفَّ، فلم يلبَسِ الخفَّين وإنَّما لَبِسَ الواحد، ولا أدخَلَ القدمين الخفَّينِ، إنما أدخل القدمَ الواحدة، فلمَّا طهَّرَ الثَّانية ثم ألبَسَها الخفَّ الثاني، صار حينئذٍ مستحقًّا لأنْ يُخبرَ عنه أنَّه أدخَلَهما طاهِرَتينِ، ولم يستحقَّ هذا الوصفَ قبل ذلك، فصحَّ أنَّ له أن يمسَحَ، ولو أراد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما ذهب إليه مالكٌ والشافعيُّ لَما قال هذا اللَّفظَ، وإنَّما كان يقول: (دَعْهما؛ فإنِّي ابتدأتُ إدخالَهما في الخفَّينِ بَعد تمامِ طَهارَتِهما جميعًا)، فإذ لم يقُل عليه السَّلام هذا القولَ؛ فكلُّ مَن صدَّقَ الخبَرَ عنه بأنَّه أدخل قدَمَيه جميعًا في الخفَّين وهما طاهرتانِ؛ فجائزٌ له أن يمسَح إذا أحْدَثَ بعد الإدخالِ، وما عَلِمْنا خلْعَ خفٍّ وإعادَتَه في الوقتِ يُحدِثُ طهارةً لم تكُن، ولا حُكمًا في الشَّرعِ لم يكُن، فالموجِب له مُدَّعٍ بلا برهانٍ). ((المحلى)) (1/334).
ثانيًا: أنَّ المخالِفَ يأمُرُه- حتى تصحَّ طهارَتُه- أن ينزعَ خفَّه الأيمنَ، ثم يلبَسَه مرةً أخرى؛ حتى يصدُقَ عليه أنَّه لَبِسَه على طهارةٍ كاملة، وهذا عبَثٌ محضٌ يُنزَّه الشَّارِعُ عن الأمر به، ولا مصلحةَ للمكلَّفِ في القيامِ به ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/249).

انظر أيضا: