موسوعة اللغة العربية

الفرع الأوَّلُ: النَّظَريَّةُ الأُولى: اللُّغةُ إلهامٌ إلهيٌّ


مُتبَنُّو هذا الرأي يرون أنَّ الفَضلَ في نَشأةِ اللُّغةِ الإنسانيَّةِ يعود إلى إلهامٍ إلهيٍّ نزل على الإنسانِ، وقام بتعليمه أسماء الأشياء النُّطْقَ.
وأخذ بهذا الرأي العالمُ اللُّغَويُّ العَربيُّ: أحمَدُ بنُ فارِسٍ في كِتابِه ((الصَّاحِبي))؛ إِذْ قال: (إنَّ لُغةَ العَرَبِ تَوقيفٌ ودَليلَ ذلك قَولُه جَلَّ ثَناؤُه: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلها [البقرة: 31] ، فكان ابنُ عَباسٍ يَقولُ: عَلَّمَه الأسماءَ كُلها وهيَ هذه التي يَتَعارَفُها النَّاسُ من: دابَّةٍ، وأرضٍ، وسَهلٍ، وجَبَلٍ، وحِمارٍ، وأشباهِ ذلك منَ الأُممِ وغَيرِها) [5] ((الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها)) لابن فارس (ص: 13). .
وهذا الرأي قاله السُّيوطيُّ في كِتابِه ((المُزهر في عُلومِ اللُّغةِ وأنواعِها))، بَل نَقله بأكمَلِه دونَ مُناقَشةٍ له [6] يُنظر: ((المزهر في علوم اللغة وأنواعها)) للسيوطي (1/ 12). .
ولَكِنَّ ابنَ جِنِّي نَقَدَ هذا الدَّليلَ النَّقليَّ قائِلًا في قَولِه تَعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا: (قد يَجوزُ أن يَكونَ تَأويلُه: أقدَرَ آدَمَ على أنْ واضَعَ عليها، وهذا المَعنى من عِندِ اللهِ سُبحانَه لا مَحالةَ، فإذا كان ذلك مُحتَمِلًا غَيرَ مُستَنكَرٍ، سقَطَ الاستِدلالُ به) [7] ((الخصائص)) لابن جني (1/41-42). .
وقد تبنَّى تلك النظرية في العَصرِ الحَديثِ كُلٌّ من:
1- الأبِ الفَرَنسيِّ: "لامي"، في كِتابِه: ((فَن الكَلامِ)).
2- الفيلسوفِ الفَرَنسيِّ "دوبو لاند"، في كِتابِه ((التَّشريع القَديم)).
إن هذين العالمين قد استندا على دَليلٍ نَقليٍّ، الوارد في ((العَهدِ القَديمِ منَ التَّوراةِ، سِفرِ التَّكوينِ، الإصحاحِ الثَّاني، الآيَتيْنِ: 19، 20)): (وكان الرَّبُّ الإلهُ قد جَبَلَ منَ التُّرابِ كُلَّ وُحوشِ البَرِّيَّةِ وطُيورِ الفَضاءِ وأحضَرها إلى آدَمَ ليَرى بأيِّ أسماءٍ يَدعوها، فصارَ كُلُّ اسمٍ أطلَقَه آدَمُ على كُلِّ مَخلوقٍ حَيٍّ اسمًا له وهكذا أَطلقَ آدَمُ أسماءً على كُلِّ الطُّيورِ والحَيَواناتِ والبِهائِمِ) [8] ((العهد القديم "التوراة")) (ص: 5-6). .
وذلك النَّصُّ الإنجيليُّ التَّوراتيُّ لا يُعدُّ برهانًا على أنَّ اللُّغةَ إلهامٌ إلهيٌّ نزل على الإنسانِ، فعَلَّمَه النُّطقَ وأسماءَ الأشياءِ، إنما يدُلُّ على أنَّها مُواضَعةٌ، والدَّليلُ هو ما جاءَ فيه أنَّ الله أحضَرَ لآدمَ جميعَ الطُّيورِ والحيواناتِ (ليَرى ماذا يَدْعوها)، وبالتأمُّلِ في هذه الجُملةِ نعرِفُ أنَّها لا تُعَدُّ برهانًا على أيِّ إلهامٍ أو إيحاءٍ، إنَّما تشيرُ إلى أنَّ اللهَ تَرَكَ لآدَمَ حُرِّيَّةَ وضعِ الأسماءِ للمُسَمَّياتِ المَوجودةِ آنذاك.
وهذا ما قد جاء في تَفسيرَ ابنِ جِنِّي لقَولِه تَعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا من أنَّ هذه الآيةَ يَصِحُّ أن تُؤَوَّلَ بـ: أقدَرَه على وضعِ الأسماءِ للمُسَمَّياتِ [9] يُنظر: ((فقه اللغة العربية وخصائصها)) لإميل يعقوب (ص: 15). .
وقَدِ برهَنَ أصحابُ هذه النَّظَريَّةِ بأدِلَّةٍ عَقليَّةٍ لإثبات صِحَّةِ نَظَريَّتِهم، منها ما ساقَه ابنُ فارِسٍ في ((الصَّاحِبي)) في عِدَّةِ نِقاطٍ؛ قال:
1- والدَّليلُ على صِحَّةِ ما نَذهبُ إليه إتفاق العُلَماءِ على الاعتراض بلُغةِ القَومِ فيما يَختَلفونَ فيه أو يَتَّفِقونَ عليه، ثُمَّ احتِجاجُهم بأشعارِهم، ولَو كانتِ اللُّغةُ مُواضَعةً واصطِلاحًا لم يَكُن أولئك في الاحتِجاجِ بهم بأَولى منَّا في الاحتِجاجِ لَوِ اصطَلَحنا على لُغةِ اليَومِ، ولا فَرْقَ.
2- لم يَبلُغْنا أنَّ قَومًا منَ العَرَبِ في زَمانٍ يُقارِبُ زَمانَه أجمَعوا على تَسميةِ شَيءٍ منَ الأشياءِ مُصطَلِحينَ عليه، فكُنَّا نَستَدِلُّ بذلك على اصطِلاحٍ قد كان قَبلَهم.
3- وقد كان في الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهم -وهمُ البُلُغاءُ والفُصَحاءُ- منَ النَّظَرِ في العُلومِ الشَّريفةِ ما لا خَفاءَ به، وما عَلِمناهمُ اصطَلَحوا على اختِراعِ لُغةٍ أو إحداثِ لَفظةٍ لم تَتَقَدَّمْهم  [10]يُنظر: ((الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها)) لابن فارس (ص: 14)، ((فقه اللغة في الكتب العربية)) لعبده الراجحي (ص: 79). .
نَقْدُ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ على هذه النَّظَريَّةِ:
رَدَّ العديدُ منَ اللُّغَويِّينَ تلكم الأدِلَّةَ التي طرحها ابنُ فارِسٍ وغير واحد مِمَّن قال بها، ونعتوها بالتَّهافُتِ، وبرروا ذلك بأنَّ مَوضوعَ الاحتِجاجِ باللُّغةِ العَربيَّةِ -في زَمانِها العَرَبيِّ المَعروفِ- لا يَدُلُّ على أنَّها تَوقيفيَّةٌ من عِندِ اللهِ تَعالى؛ لأنَّ حَصْرَ الاحتِجاجِ اللُّغَويِّ ببيئةٍ بعينها -هيَ بيئةُ شِبه الجَزيرةِ العَربيَّةِ- وبِزَمانٍ مُعَيَّنٍ -هو نِهايةُ القَرنِ الثَّاني الهجريِّ بالنِّسبةِ للمُدُنِ العَرَبيَّةِ، ومُنتَصَفِ القَرنِ الرَّابِعِ الهجَريِّ، بالنِّسبةِ لعَربِ الباديةِ- إنَّما يعود لعدة أسبابٍ منهجيَّةٍ، متعلقة بالصِّحَّةِ اللُّغَويَّةِ، وبالعزوف عنِ التَّأثُّرِ باللُّغاتِ الأُخرى، خصوصًا بَعدَ أنِ اشتَدَّ اختِلاطُ العَرَبِ بغَيرِهم منَ الأُمَمِ الأُخرى.
والدَّليلُ على ذلك أنَّ عَصرَ الاحتِجاجِ هذا لم يَقِفْ في عهد الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إنما تَعَدَّاه إلى ما بَعدَ ذلك [11] يُنظر: ((فقه اللغة في الكتب العربية)) لعبده الراجحي (ص: 79-80). .

انظر أيضا: