موسوعة اللغة العربية

الفرع الرابع: النَّظَريَّةُ الرَّابِعةُ: اللُّغةُ الأولى نَشَأت من مُحاكاةِ أصَواتِ الطَّبيعةِ وغَيرِها


يَذهبُ أصحابُ هذه النَّظَريَّةِ إلى أنَّ اللُّغةَ الإنسانيَّةَ نَشَأت من مُحاكاةِ الأصَواتِ الطَّبيعيَّةِ، التي تَشمَلُ ما يَلي:
1- التَّعبيرَ الطَّبيعيَّ عن الانفِعالاتِ؛ كالصُّراخِ، والبُكاءِ، والتَّأوُّهِ، والضَّحِكِ... إلَخ.
2- أصَواتَ مَظاهرِ الطَّبيعةِ، كخَريرِ الماءِ، والرَّعدِ والبَرقِ... إلَخ.
3- أصَواتَ الحَيَواناتِ، كالقِطَطِ والكِلابِ، والذِّئابِ، والأُسودِ... إلَخ.
4- الأصَواتَ التي تَحدِثُها الأفعالُ عِندَ وُقوعِها، كُصَوتِ الضَّربِ، والقَطْعِ، والكَسْرِ... إلَخ.
أمَّا أصحابُ هذه النَّظَريَّةِ فهم:
1- كثيرٌ من فلاسِفةِ العُصورِ القَديمةِ.
2- ابنُ جِنِّي (ت 399 ه).
3- العَلامةُ اللُّغَويُّ "وتني" (ق 19م) في العَصرِ الحَديثِ.
وقد تَحدَّثَ ابنُ جِنِّي عن هذه النَّظَريَّةِ بأُسلوبٍ يَدُلُّ على تَوغُّلِها في القِدَمِ، كما يَدُلُّ على كثرةِ المُعتَنِقينَ لها من قَبلِه.
فقال: (وذَهبَ بَعضُهم إلى أنَّ أصلَ اللُّغاتِ كُلِّها إنَّما هو منَ الأصَواتِ المَسموعاتِ؛ كدَويِّ الرِّيحِ، وحَنينِ الرَّعدِ، وخَريرِ المياهِ، وشَحيجِ الحِمارِ، ونَعيقِ الغُرابِ، وصَهيلِ الفَرَسِ، ونَزيبِ [23] النَّزيب: صوتُ تَيسِ الظِّباء عند السِّفادِ. يُنظر: ((الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (1/ 224)، ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 755). الظَّبيِ، ونَحوِ ذلك، ثُمَّ وُلِّدَتِ اللُّغاتُ عن ذلك فيما بَعدُ)  [24]يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (1/ 47-48). .
ولقد عَلَّقَ ابنُ جِنِّي على هذه النَّظَريَّةِ بقَولِه: (وهذا عِندي وَجهٌ صالحٌ، ومَذهَبٌ مُتَقَبَّلٌ) [25] ((الخصائص)) لابن جني (1/ 48). .
وهذه النَّظَريَّةُ تَدُلُّنا على أنَّ الإنسانَ الأوَّلَ كان يَقصِدُ من هذه المُحاكاةِ السَّابِقةِ الذِّكرِ التَّعبيرَ عنِ الشَّيءِ الذي يَصدُرُ عنه الصَّوتُ المُحاكي، أو عَمَّا يُلازِمُه أو يُصاحِبُه من حالاتٍ وشُؤونٍ، واستَخدَمَ في هذه المُحاكاةِ ما زُوِّدَ به من قُدرةٍ على لَفظِ أصَواتٍ مُرَكَّبةٍ ذاتِ مَقاطِعَ.
وكانت لُغَتُه في مَبدَأِ أمرِها:
- مَحدودةَ الألفاظِ.
- قَليلةَ التَّنَوُّعِ.
- قَريبةَ الشَّبَهِ بالأصَواتِ الطَّبيعيَّةِ التي أُخِذَت عنها.
- قاصِرةً عنِ الدَّلالةِ على المَقصودِ.
ولذلك كان لا بُدَّ لها من مُساعِدٍ يَصحَبُها، فيوضِّحُ مَدلولاتِها ويُعِينُ على إدراكِ ما تَرمي إليه، وقد وَجَدَ الإنسانَ خَيرَ مُساعِدٍ لها في الإشاراتِ اليَدَويَّةِ، والحَرَكاتِ الجِسْميةِ [26] يُنظر: ((علم اللغة)) لوافي (ص: 104). .
وقد لاقَت هذه النَّظَريَّةُ تَأييدًا منَ الدكتور إبراهيم أنيس [27] يُنظر: ((دلالة الألفاظ)) لإبراهيم أنيس (ص: 20: 22). .
وذَهبَ الدكتور وافي إلى أنَّها أدنى نَظَريَّاتِ هذا البَحثِ إلى الصِّحَّةِ، وأقرَبُها إلى المَعقولِ، وأكثَرُها اتِّفاقًا مع طَبيعةِ الأُمورِ.
وعَضَّدَ الدكتور وافي رَأيَه بقَولِه: (ومن أهمِّ أدِلَّتِها: أنَّ المَراحِلَ التي تُقَرِّرُها بصَدَدِ اللُّغةِ الإنسانيَّةِ تَتَّفِقُ في كثيرٍ من وُجوهِها مع مَراحِلِ الارتِقاءِ اللُّغَويِّ عِندَ الطِّفلِ؛ فقد ثَبَتَ أنَّ الطِّفلَ في المَرحَلةِ السَّابِقةِ لمَرحَلةِ الكَلامِ، يَلجَأُ في تَعبيرِه الإراديِّ إلى مُحاكاةِ الأصَواتِ الطَّبيعيَّةِ "أصَواتِ التَّعبيرِ الطَّبيعيِّ عن الانفِعالاتِ: أصَواتِ الحَيَوانِ، أصَواتِ مَظاهرِ الطَّبيعةِ والأشياءِ.." فيُحاكي الصَّوتَ قاصِدًا التَّعبيرَ عن مَصدَرِه، أو عن أمرٍ يَتَّصِلُ به، وثَبتَ كذلك أنَّه في هذه المَرحَلةِ وفي مَبدَأِ مَرحَلةِ الكَلامِ يَعتَمِدُ اعتِمادًا جَوهريًّا في تَوضيحِ تَعبيرِه الصَّوتيِّ على الإشاراتِ اليَدَويَّةِ والجِسميَّةِ)  [28]((علم اللغة)) لوافي (ص: 105). .
ثُمَّ ذكر الدكتور وافي دَليلًا غيره يبرهن على قُربِ هذه النَّظَريَّةِ إلى الصِّحَّةِ، فقال: (ما تُقَرِّرُه "هذه النَّظَريَّةُ" بصَدَدِ خَصائِصِ اللُّغةِ الإنسانيَّةِ في مَراحِلِها الأولى يَتَّفِقُ مع ما نَعرِفُه عن خَصائِصِ اللُّغاتِ في الأُمَمِ البُدائيَّةِ؛ ففي هذه اللُّغاتِ تَكثُرُ المُفرَداتُ التي تُشبِه أصَواتُها أصَواتَ ما تَدُلُّ عليه، ولنَقْصِ هذه اللُّغاتِ وسَذَاجَتِها وإبهامِها، وعَدَمِ كِفايَتِها للتَّعبيرِ؛ لا يَجِدُ المُتَكَلِّمونَ بها مَناصًا من الاستِعانةِ بالإشاراتِ اليَدَويَّةِ والجِسميَّةِ في أثناءِ حَديثِهم؛ لتَكمِلةِ ما يَفتَقِرُ إليه من عناصِرَ وما يُعْوِزُه من دَلالةٍ. ومنَ المُقَرَّرِ أنَّ هذه الأُمَمَ لبُعدِها عن تَيَّاراتِ الحَضارةِ، وبَقائِها بمَعزِلٍ عن أسبابِ النَّهضةِ الاجتِماعيَّةِ، تُمَثِّلُ إلى حَدٍّ كبيرٍ النُّظُمَ الإنسانيَّةَ في عُهودِها الأُولى) [29] ((علم اللغة)) لوافي (ص: 106). .
نَقْدُ هذه النَّظَريَّةِ:
وعلى الرَّغمِ من كُلِّ ما سبَقَ ذِكرُه، فقَدَ رَفَضَ المنهجُ العِلميُّ هذه الأدِلَّةَ؛ لأنَّ (لُغةَ البُدائيِّينَ، ومُراقَبةَ المَراحِلِ الأولى للأطفالِ لا تُساعِدُنا على الوُصولِ إلى شَيءٍ) [30] ((فقه اللغة في الكتب العربية)) لعبده الراجحي (ص: 90). .
ذلك أنَّه -كما يَقولُ فندريس- لا يُمكِنُ استِخلاصُ شَيءٍ في هذا الصَّدَدِ من لُغاتِ المُتَوحِّشينَ "القَبائِل البُدائيَّةِ"؛ فالمُتَوحِّشونَ لَيسوا بُدائيِّينَ، رَغمَ الإسرافِ في تَسميَتِهم بهذا الاسمِ في غالبِ الأحيانِ؛ فهم يَتَكَلَّمونَ أحيانًا لُغاتٍ على دَرَجةٍ منَ الصعوبة لا تَقِلُّ عَمَّا في أكثَرِ لُغاتِنا صعوبة، ولَكِن منهم مَن يَتَكَلَّمُ لُغاتٍ على دَرَجةٍ منَ السلامة والسهولة تَحسُدُهم عليها أكثَرُ لُغاتِنا بَساطةً! فهذه وتِلكَ ليست إلَّا نَتيجةَ متغيرات تُغَيِّبُ عنَّا نُقطةَ البَدءِ التي صَدَرَت عنها  [31]يُنظَر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 36). .
وقد يُوَفَّقُ الإنسانُ في البَحثِ عن هذا المُطلَبِ في كِلامِ الأطفالِ، وهذه المُحاولةُ أيضًا سيَكونُ مآلها إلى الفَشلُ؛ لأنَّ الأطفالَ لا يُعلِّمونَنا إلَّا كيفَ تَحصُلُ لُغةٌ مُنَظَّمةٌ، ولا يُعطونَنا أيَّةَ فِكرةٍ عَمَّا كان عليه الكَلامُ عِندَ أصلِ نُشَوئِه.... لأنَّ الطِّفلَ يَقومُ بعَمَل المُحاكاةِ لا الخَلقِ، وهو عَمَلٌ خالٍ من الارتِجال "الابتِكارِ" خُلُوًّا كاملًا.
ويقول أصحابُ المنهجِ العِلميِّ اللُّغَويِّ: (فالعالمُ اللُّغَويُّ سواءٌ أَلجَأَ إلى أقدَمِ اللُّغاتِ المَعروفةِ "اللُّغاتِ الهندأُوربيَّةِ" مَثَلًا، أم إلى لُغاتِ المُتَوحِّشينَ "القَبائِلِ البُدائيَّةِ المُعاصِرةِ"، أم إلى اللُّغاتِ التي يَتَعَلَّمُ الأطفالُ بها الكَلامَ؛ فلَن يَجِدَ أمامَهم -في كُلِّ حالٍ- إلَّا بُنيانًا "لُغَويًّا" شُيِّدَ مُنذُ زَمَنٍ طَويلٍ، وتَعاقَبَت على العَمَلِ فيه أجيالٌ عَديدةٌ، خِلالَ قُرونٍ طَويلةٍ. فتَبقى مَسألةُ أصل الكَلامِ خارِجةً عن نِطاقِ خِبرَتِه) [32] ((فقه اللغة في الكتب العربية)) لعبده الراجحي (ص: 91). .

انظر أيضا: