موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نماذِجُ من التَّعاوُنِ عندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


كان الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم مثالًا يُحتذى في التَّعاوُنِ، وكانوا في ذلك المثَلَ الأسمى، فكانوا كالجسَدِ الواحِدِ إذا اشتكى منهم عضوٌ تداعى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى، و(في الوقتِ الذي كان فيه أبو عُبيدةَ بنُ الجرَّاحِ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وخالدُ بنُ الوليدِ، وعمرُو بنُ العاصِ؛ يفتحون مصرَ والشَّامَ والعراقَ، كان أبو بكرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ وعَليٌّ يسوسون النَّاسَ، ويرعون شُؤونَهم، وكان معاذُ بنُ جَبَلٍ وابنُ عبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ يُعَلِّمون النَّاسَ، ويُفتونهم ويُرَبونهم، وكان أبو هريرةَ وأنَسٌ وعائشةُ يحفظون الحديثَ ويَروونه، وكان أبو ذَرٍّ وأبو الدَّرداءِ يَعِظون النَّاسَ والحُكَّامَ ويَنصَحونهم؛ فتعاوَنوا ولم يَتعايَبوا، وتناصَروا ولم يَتدابروا) [1815] ((التيه والمخرج)) لعدنان عرعور (53،54). .
ونَقِفُ هنا وقَفاتٍ مع نماذِجَ من تعاوُنِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم.
تعاوُنُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم في حَفرِ الخَندَقِ:
نقَل لنا الصَّحابيُّ الجليلُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه صورةً من تعاوُنِ الصَّحابةِ وتكاتُفِهم في حَفرِ الخندَقِ، فيقولُ: (جعَل المهاجِرون والأنصارُ يحفِرون الخندَقَ حولَ المدينةِ، وينقُلون التُّرابَ على متونِهم، ويقولونَ:
نحنُ الذين بايَعوا محمَّدَا
على الإسلامِ ما بَقِينا أبَدَا
والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجيبُهم ويقولُ:
اللَّهُمَّ إنَّه لا خيرَ إلَّا خيرُ الآخِرَهْ
فبارِكْ في الأنصارِ والمُهاجِرَهْ) [1816] أخرجه البخاري (2835) واللفظ له، ومسلم (1805).
تعاوُنُ أبي بكرٍ وأهلِ بيتِه مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هِجرتِه:
 جهَّز أبو بكرٍ راحلَتينِ عندما أعلمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهِجرةِ، وخاطَر بنفسِه وهاجر مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((حبَس أبو بكرٍ نفسَه على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَصحَبَه، وعَلَف راحلتَينِ كانتا عندَه وَرَقَ السَّمُر -وهو الخَبطُ- أربعةَ أشهُرٍ... فبينما نحن يومًا جلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نحرِ الظَّهيرةِ قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متقَنِّعًا [1817] متقنِّعًا: أي: مُغَطِّيًا رأسَه بثوبٍ يستُرُه. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (4/381). في ساعةٍ لم يكُنْ يأتينا فيها، فقال أبو بكرٍ: فداءٌ له أبي وأمي! واللهِ ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أمرٌ. قالت: فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستأذن، فأذِنَ له فدَخَل، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكرٍ: أخرِجْ مَن عندَك. فقال أبو بكرٍ: إنما هم أهلُك بأبي أنت يا رسولَ اللَّهِ! قال: فإنِّي قد أُذِن لي في الخُروجِ. فقال أبو بكرٍ: الصَّحابةَ بأبي أنت يا رسولَ اللَّهِ؟! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعَمْ. قال أبو بكرٍ: فخُذْ بأبي أنت يا رسولَ اللهِ إحدى راحِلَتَيَّ هاتينِ. قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بالثَّمَنِ. قالت عائشةُ: فجَهَّزْناهما أحَثَّ الجَهازِ، وصنَعْنا لهما سُفرةً في جِرابٍ، فقطَعَت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قطعةً من نطاقِها، فربَطَت به على فَمِ الجِرابِ؛ فبذلك سمِّيَت ذاتَ النِّطاقِ، قالت: ثمَّ لحِقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ بغارٍ في جَبَلِ ثَورٍ، فكَمَنَا [1818] فكَمَنَا فيه: أي: اختَفَيا. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 180). فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندَهما عبدُ اللهِ بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامٌ شابٌّ ثَقِفٌ [1819] ثَقِفٌ: حاذِقٌ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/ 217). لَقِنٌ [1820] لَقِنٌ: سريعُ الفَهمِ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/ 217). ، فيُدلِجُ [1821] فيُدلجُ: يخرُجُ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/ 217). من عندِهما بسَحَرٍ، فيُصبِحُ مع قُرَيشٍ بمكَّةَ كبائتٍ، فلا يسمَعُ أمرًا يُكتادانِ به إلَّا وعاه حتَّى يأتيَهما بخبرِ ذلك حينَ يختَلِطُ الظَّلامُ، ويرعى عليهما عامِرُ بنُ فُهَيرةَ مولى أبي بكرٍ مِنحةً [1822] أي: شاةٌ تحلُبُ إناءً بالغداةِ وإناءً بالعَشيِّ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/218). من غَنَمٍ، فيُريُحها عليهما حين تذهَبُ ساعةٌ من العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ، وهو لَبَنُ مِنحَتِهما ورَضيفِهما [1823] ورضيفِهما: هو الموضوعُ فيه الحجارةُ المُحْماةُ لتذهَبَ وخامتُه وثِقلُه. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/218). حتى يَنعِقَ [1824] يَنعِق: يَصيحُ بالغَنَمِ ويَزجُرُها. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/218). بها عامِرُ بنُ فُهَيرةَ بغَلَسٍ [1825] بغَلَسٍ: هو ظلامُ آخِرِ اللَّيلِ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/218). ، يفعَلُ ذلك في كُلِّ ليلةٍ من تلك اللَّيالي الثَّلاثِ، واستأجَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ رَجُلًا من بني الدِّيلِ، وهو من بني عبدِ بنِ عَدِيٍّ، هادِيًا خِرِّيتًا -والخِرِّيتُ: الماهِرُ بالهدايةِ-، قد غَمَس حِلفًا في آلِ العاصِ بنِ وائِلٍ السَّهميِّ، وهو على دينِ كُفَّارِ قُرَيشٍ فأمِنَاه، فدَفَعا إليه راحِلَتَيهما، وواعَداه غارَ ثَورٍ بعدَ ثلاثِ ليالٍ براحِلَتَيهما صُبحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامِرُ بنُ فُهَيرةَ والدَّليلُ، فأخذ بهم طريقَ السَّواحِلِ)) [1826] أخرجه البخاري (3905). .
تعاوُنُ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم في بناءِ المسجِدِ النَّبَويِّ:
عندما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لبني النَّجَّارِ: ((يا بني النَّجَّارِ، ثامِنُوني بحائِطِكم هذا، قالوا: لا واللهِ لا نطلُبُ ثمَنَه إلَّا إلى اللَّهِ، فقال أنَسٌ: فكان فيه ما أقولُ لكم قبورُ المُشرِكين، وفيه خَرِبٌ وفيه نَخلٌ، فأمر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقبورِ المُشرِكين فنُبِشَت، ثمَّ بالخَرِبِ فسُوِّيَت، وبالنَّخلِ فقُطِع، فصَفُّوا النَّخلَ قِبلةَ المسجِدِ، وجعلوا عِضادَتَيه [1827] أي: عِضادَتَيِ البابِ، وهما خشبتان من جانِبَيه. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/233). الحِجارةَ، وجعلوا يَنقُلون الصَّخرَ وهم يرتَجِزون والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معهم، وهو يقولُ: اللَّهُمَّ لا خيرَ إلَّا خيُر الآخِرهْ  فاغفِرْ للأنصارِ والمُهاجِرهْ)) [1828] رواه مطوَّلًا: البخاري (428) واللفظ له، ومسلم (524) من حديثِ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
تعاوُنُ الأنصارِ مع المهاجِرين بعدَ الهِجرةِ:
قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((لمَّا قدِمنا المدينةَ آخى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيني وبَينَ سعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقال سعدُ بنُ الرَّبيعِ: إني أكثَرُ الأنصارِ مالًا، فأقسِمُ لك نِصفَ مالي، وانظُرْ أيَّ زوجَتيَّ هَوِيتَ نزَلْتُ لك عنها، فإذا حَلَّت تزوَّجْتَها. قال: فقال عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجةَ لي في ذلك، هل من سُوقٍ فيه تجارةٌ؟ قال: سوقُ قَينُقاعٍ. قال: فغدا إليه عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ [1829] الأقِطُ: شيء يُعمَلُ من اللَّبَنِ ويجفَّفُ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/581). وسَمنٍ...)) [1830] أخرجه البخاري (2048) مطوَّلًا. .
وقالت الأنصارُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اقسِمْ بيننا وبينهم النَّخلَ، قال: لا. قال: يكفونَنا المَئونةَ وتَشْركَونَنا في التَّمرِ. قالوا: سمِعْنا وأطَعْنا)) [1831] أخرجه البخاري (3782) من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومِن تعاوُنِ الصَّحابةِ أيضًا:
موقِفُهم في قِصَّةِ سَلمانَ رَضِيَ اللهُ عنه عندما كاتَب سَيِّدَه، وكان فقيرًا لا يملِكُ ما كاتَبَ عليه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصَّحابةِ: ((أعينوا أخاكم)) [1832] رواه أحمد (23737)، والبزار (2500)، والطبراني (6/222) (6065) مطوَّلًا. حسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (442)، وحسَّن إسنادَه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (894)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (39/ 147)، وجوَّده ابن العراقي في ((طرح التثريب)) (4/42). . فأعانوه حتى تحَرَّر من رِقِّه، وأصبحَ حُرًّا.

انظر أيضا: