موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ التَّأنِّي


التَّأنِّي مطلوبٌ في كثيرٍ من الأمورِ والأحوالِ والمواقِفِ التي تمُرُّ على الإنسانِ، ومن ذلك:
1- عندَ الذَّهابِ إلى الصَّلاةِ:
فعن أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بينما نحن نصَلِّي مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ سَمِعَ جَلَبةَ رِجالٍ [1433] أي: أصواتُهم حالَ حركتِهم. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/116). ، فلمَّا صلَّى قال: ما شأنُكم؟ قالوا: استعجَلْنا إلى الصَّلاةِ. قال: فلا تفعَلوا، إذا أتيتُم الصَّلاةَ فعليكم بالسَّكينةِ، فما أدرَكْتُم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا)) [1434] أخرجه البخاري (635) واللفظ له، ومسلم (603). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا سمِعتُم الإقامةَ فامشوا إلى الصَّلاةِ، وعليكم بالسَّكينةِ والوقارِ، ولا تُسرِعوا، فما أدركْتُم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا)) [1435] أخرجه البخاري (636) واللفظ له، ومسلم (602). .
ففي الحديثَينِ نهيٌ عن الاستعجالِ والإسراعِ لإدراكِ الصَّلاةِ، والأمرُ بالتَّأنِّي والسَّكينةِ في المجيءِ للصَّلاةِ والقيامِ لها [1436] يُنظَر: ((فتح الباري شرح صحيح البخاري))، لابن حجر (2/118)، ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري))، لبدر الدين العيني (5/150). .
2- التَّأنِّي في طَلَبِ العِلمِ:
قال تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] .
قال ابنُ القَيِّمِ في هذه الآيةِ: (ومن أسرارِها -سورةِ القيامةِ-: أنَّها تضمَّنَت التَّأنِّيَ والتَّثبُّتَ في تلقِّي العلمِ، وألَّا يحمِلَ السَّامِعَ شِدَّةُ محبَّتِه وحِرصِه وطَلَبِه على مبادرةِ المعَلِّمِ بالأخذِ قَبلَ فراغِه من كلامِه، بل من آدابِ الرَّبِّ التي أدَّب بها نبيَّه أمْرُه بتركِ الاستعجالِ على تلقِّي الوحيِ، بل يصبرُ إلى أن يفرُغَ جبريلُ من قراءتِه، ثمَّ يقرؤُه بعد فراغِه عليه، فهكذا ينبغي لطالِبِ العِلمِ ولسامِعِه أن يصبرَ على مُعَلِّمِه حتَّى يقضيَ كلامَه) [1437] ((التبيان في أقسام القرآن)) (1/159). .
وعن يونُسَ بنِ يزيدَ قال: قال لي ابنُ شِهابٍ: (يا يونُسُ، لا تكابِرِ العِلمَ؛ فإنَّ العِلمَ أوديةٌ، فأيُّها أخَذْتَ فيه قطَعَ بك قبل أن تبلُغَه، ولكِنْ خُذْه مع الأيَّامِ واللَّيالي، ولا تأخُذِ العِلمَ جُملةً؛ فإنَّ من رام أخْذَه جملةً ذَهَب عنه جملةً، ولكِنِ الشَّيءَ بَعدَ الشَّيءِ مع اللَّيالي والأيَّامِ) [1438] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 431). .
وفي روايةٍ عن الزُّهْريِّ قال: (من طَلَب العِلمَ جُملةً فاته جملةً، وإنَّما يُدرَكُ العِلمُ حديثٌ وحديثانِ) [1439] ((الطيوريات)) لأبي طاهر السلفي (4/ 1373). .
3- التَّأنِّي عندَ مُواجَهةِ العَدُوِّ في ساحةِ القتالِ:
قال النُّعمانُ بنُ مُقرِّنٍ للمُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنهما في تأخيرِ القتالِ يومَ نَهاوَنْدَ: ((ربَّما أشهَدَك اللهُ مِثلَها مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يُنَدِّمْك، ولم يُخْزِك، ولكِنِّي شَهِدتُ القتالَ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا لم يقاتِلْ في أوَّلِ النَّهارِ انتَظَر حتَّى تهُبَّ الأرواحُ [1440] الأرواحُ: جمعُ رِيحٍ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (5/ 232). والمعنى: حتى تجيءَ الرِّياحُ -ومنها ريحُ النصرِ- وتكسِرَ حرارةَ النَّهارِ وشوكةَ الشَّمسِ التي هي معبودةُ الكُفَّارِ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (6/ 2532). ، وتحضُرَ الصَّلَواتُ)) [1441] أخرجه البخاري (3160). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قولُه: ((فلم يُنَدِّمْك)) أي: على التَّأنِّي والصَّبرِ حتَّى تزولَ الشَّمسُ) [1442] ((فتح الباري)) (6/256). .
وقال الشَّافعيُّ: (لا ينبغي أن يولِّيَ الإمامُ الغَزْوَ إلَّا ثقةً في دينِه، شُجاعًا ببَدَنِه، حَسَنَ الأناةِ، عاقِلًا للحَربِ بصيرًا بها، غيرَ عَجِلٍ ولا نَزِقٍ [1443] النَّزَقُ: الخِفَّةُ والطَّيشُ. يُنظَر: ((الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (4/ 1558). ، ويتقدَّمُ إليه ألَّا يحمِلَ المُسلِمين على مَهلَكةٍ بحالٍ) [1444] ((السنن الكبرى)) للبيهقي (9/70). .
4- التَّأنِّي في الإنكارِ في الأمورِ المحتَمَلةِ:
فعن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قصَّةِ موسى والخَضِرِ عليهما السَّلامُ، وفيه: ((فعَمَد الخَضِرُ إلى لوحٍ من ألواحِ السَّفينةِ فنَزَعه، فقال موسى: قومٌ حملونا بغيرِ نَولٍ [1445] النَّولُ: الأجرُ. ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/129). ، عمَدْتَ إلى سفينتِهم فخرَقْتَها لتُغرِقَ أهلَها؟! قال: ألم أقُلْ: إنَّك لن تستطيعَ معي صبرًا؟ قال: لا تؤاخِذْني بما نَسيتُ)) [1446] رواه مطوَّلًا البخاري (122) واللفظ له، ومسلم (2380). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (إنَّ الذي فعَلَه الخَضِرُ ليس في شيءٍ منه ما يناقِضُ الشَّرعَ، فإنَّ نقضَ لوحٍ من ألواحِ السَّفينةِ لدفعِ الظَّالمِ عن غَصْبِها، ثمَّ إذا تركها أعيدَ اللَّوحُ- جائزٌ شرعًا وعقلًا، ولكِنْ مُبادرةُ موسى بالإنكارِ بحَسَبِ الظَّاهِرِ، وقد وقع ذلك واضِحًا في روايةِ أبي إسحاقَ التي أخرجها مسلِمٌ، ولفظُه: فإذا جاء الذي يُسَخِّرُها فوجدها منخَرِقةً، تجاوَزَها فأصلَحَها [1447] ((صحيح مسلم)) (2380/ 172). ، فيُستفادُ منه وجوبُ التَّأنِّي عن الإنكارِ في المحتَمَلاتِ) [1448] ((فتح الباري)) (1/222). .
5- التَّأنِّي في التَّحدُّثِ مع الآخَرينَ:
عن أمِّ المؤمنين عائشةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنها قالت: ((إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يحَدِّثُ حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه)) [1449] أخرجه البخاري (3567) واللفظ له، ومسلم (2493). . وفي لفظٍ: ((إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يَسرُدُ الحديثَ كسَرْدِكم)) [1450] أخرجه البخاري (3568)، ومسلم (2493). .
قال بدرُ الدِّينِ العَينيُّ: (... ((لم يكُنْ يَسرُدُ ...)). أي: لم يكُنْ يتابِعُ الحديثَ استِعْجالًا، أي: كان يتكَلَّمُ بكلامٍ متتابعٍ مفهومٍ واضحٍ على سبيلِ التَّأنِّي؛ لئلَّا يلتَبِسَ على المستَمِعِ) [1451] ((عمدة القاري)) (16/115). .
6- عندَ الفصلِ في المنازَعاتِ وإنزالِ العُقوباتِ:
ففي قصَّةِ أميرِ المؤمنين عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه في قضائِه بَينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ والعبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنهما، في فَيءِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بني النَّضيرِ، قال لهما عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: (اتَّئِدوا) [1452] أخرجه البخاري (4033) من حديثِ مالِكِ بنِ أوسِ بنِ الحدثانِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قولُه: "اتَّئِدوا". المرادُ: التَّأنِّي والرَّزانةُ) [1453] ((فتح الباري)) (1/91). .
وقال أبو عُثمانَ بنُ الحدَّادِ: (القاضي شأنُه الأناةُ والتَّثبُّتُ، ومن تأنَّى وتثبت تهيَّأَ له من الصَّوابِ ما لا يتهيَّأُ لصاحِبِ البَديهةِ) [1454] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1127). .
وقال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (قال بعضُهم: ينبغي للسُّلطانِ أن يؤخِّرَ العقوبةَ حتَّى ينقضيَ سُلطانُ غَضَبِه، ويُعَجِّلَ مكافأةَ المحسِنِ، ويَستعمِلَ الأناةَ فيما يُحدِثُ؛ ففي تأخيرِ العقوبةِ إمكانُ العفوِ إن أحَبَّ ذلك، وفي تعجيلِ المكافأةِ بالإحسانِ مُسارعةُ الأولياءِ إلى الطَّاعةِ) [1455] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (1/242). .
7- التَّأنِّي في الدُّعاءِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يستجابُ لأحَدِكم ما لم يَعجَلْ، يقولُ: دعَوتُ فلم يُستجَبْ لي)) [1456] أخرجه البخاري (6340) واللفظ له، ومسلم (2735). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (قال بعضُ العُلَماءِ: قولُه: (ما لم يَعْجَلْ) يعنى: يسأمُ الدُّعاءَ ويتركُه فيكونُ كالمانِّ بدعائِه، وأنَّه قد أتى من الدُّعاءِ ما كان يستَحِقُّ به الإجابةَ، فيصيرُ كالمُبخِّلِ لرَبٍّ كريمٍ لا تُعجِزُه الإجابةُ، ولا يَنقُصُه العطاءُ، ولا تَضُرُّه الذُّنوبُ!) [1457] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/100).
8- التَّأنِّي في نقلِ الأخبارِ:
كأخبارِ الصُّحُفِ والمجلَّاتِ والمواقِعِ الإلكترونيَّةِ؛ حتَّى لا يندَمَ على تسرُّعِه في نقلِ خبرٍ يظهَرُ فيما بَعدُ عَدَمُ صِحَّتِه، فينبغي على العاقِلِ أن يتأنَّى في ذلك ولا يتسَرَّعَ.
(والمشاهَدُ والواقِعُ أنَّ عَدَمَ التَّثبُّتِ وعَدَمَ التَّأنِّي يؤدِّيانِ إلى كثيرٍ من الأضرارِ والمفاسِدِ؛ فقد يَسمَعُ الإنسانُ خبَرًا أو يقرَأُ نبَأً في صحيفةٍ أو مجلَّةٍ، فيسارِعُ بتصديقِه، ويعادي ويصادِقُ، ويبني على ذلك التَّصرُّفاتِ والأعمالَ التي يُصدِرُها للمقاومةِ أو الموافقةِ، على أساسِ أنَّه حقٌّ واقعٌ، ثمَّ يظهَرُ أنَّه كان مكذوبًا، أو محرَّفًا، أو مزوَّرًا، أو مبالَغًا فيه، أو مرادًا به غيرُ ما فَهِمه الإنسانُ، ومن هنا يكتوي المتسَرِّعُ بلَهَبِ النَّدمِ والحَسرةِ بسبَبِ استعجالِه وعَدَمِ تثبُّتِه) [1458] ((الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى)) لسعيد بن وهف القحطاني (1/71). .
9- التَّأنِّي في الفتوى:
قال مالِكُ بنُ أنسٍ: (العَجَلةُ في الفتوى نوعٌ من الجَهلِ والخُرقِ، قال: وكان يـقالُ: التَّأنِّي من اللَّهِ، والعَجَلةُ من الشَّيطانِ) [1459] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/128). .

انظر أيضا: