موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامنًا: حُكمُ المَنِّ


قال أبو عبدِ اللهِ القُرطبيُّ: (المَنُّ من الكبائِرِ، ثَبَت ذلك في صحيحِ مُسلِمٍ [6792] يُنظَر: ((صحيح مسلم)) (106). وغيرِه، وأنَّه أحدُ الثَّلاثةِ الذين لا ينظُرُ اللهُ إليهم ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ) [6793] ((الجامع لأحكام القرآن)) (3/ 308). ويُنظَر: ((الكبائر)) للذهبي (ص: 111)، ((الفروع)) لابن مُفلِح (4/ 382)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (1/ 313). .
لكِنْ من أهلِ العِلمِ مَن قال: يجوزُ إذا كُفِرَت النِّعمةُ، وعومِلَ المتفَضِّلُ بالإساءةِ، أو كان لقَصدِ تربيةٍ وتأديبٍ.
وقد ذكَر الرَّاغبُ أنَّ المَنَّ (مستقبَحٌ فيما بَيْنَ النَّاسِ إلَّا عِندَ كُفرانِ النِّعمةِ، ولقُبحِ ذلك قيل: المِنَّةُ تهدِمُ الصَّنيعةَ، ولحُسنِ ذِكرِها عِندَ الكُفرانِ قيل: إذا كُفِرَت النِّعمةُ حَسُنَت المِنَّةُ) [6794] ((المفردات)) (ص: 777). .
وقال ابنُ حزمٍ في: (ولا يحِلُّ لأحَدٍ أن يمَنَّ بما فعَلَ من خيرٍ إلَّا مَن كَثُر إحسانُه وعومِلَ بالمَساءةِ، فله أن يعَدِّدَ إحسانَه) [6795] ((المحلى بالآثار)) (8/ 123). ويُنظَر: ((الفروع)) لابن مُفلِح (4/ 383)، ((الإنصاف)) للمرداوي (7/ 321)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (2/ 167). .
عن عبدِ اللهِ بنِ زيدِ بنِ عاصِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا أفاء اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنَينٍ قَسَّم في النَّاسِ في المؤلَّفةِ قُلوبُهم، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئًا، فكأنَّهم وجَدوا إذ لم يُصِبْهم ما أصاب النَّاسَ، فخطَبَهم فقال: يا مَعشَرَ الأنصارِ، ألم أجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي، وكنتُم متفَرِّقين فألَّفكم اللهُ بي، وعالةً فأغناكم اللهُ بي؟ كلَّما قال شيئًا قالوا: اللهُ ورسولُه أمَنُّ، قال: ما يمنَعُكم أن تجيبوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: كلَّما قال شيئًا، قالوا: اللهُ ورسولُه أمَنُّ، قال: لو شِئتُم قُلتُم: جِئْتَنا كذا وكذا، أترضَون أن يذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبعيرِ، وتذهبون بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى رِحالِكم؟! لولا الهِجرةُ لكنتُ امرَأً من الأنصارِ، ولو سَلَك النَّاسُ واديًا وشِعبًا لسلَكْتُ واديَ الأنصارِ وشِعْبَها، الأنصارُ شِعارٌ والنَّاسُ دِثارٌ! إنَّكم ستَلْقَون بعدي أَثرةً فاصبِروا حتَّى تَلقَوني على الحوضِ)) [6796] أخرجه البخاري (4330) واللفظ له، ومسلم (1061). .
وعن أبي عبدِ الرَّحمنِ، أنَّ عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه حينَ حُوصِرَ أشرَفَ عليهم، وقال: ((أَنشُدُكم اللهَ، ولا أَنشُدُ إلَّا أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ألسْتُم تَعلَمون أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: مَن حَفَر رُومةَ فله الجنَّةُ. فحفَرْتُها؟ ألستُم تَعلَمون أنَّه قال: مَن جهَّز جيشَ العُسرةِ فله الجنَّةُ. فجَهَّزْتُهم؟ قال: فصَدَّقوه بما قال)) [6797] أخرجه البخاري (2778). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (... ثمَّ قُلتُ للأميرِ والحاضِرين: أنا أعلَمُ أنَّ أقوامًا يَكذِبون علَيَّ، كما قد كذَبوا عليَّ غيرَ مَرَّةٍ. وإن أملَيتُ الاعتقادَ مِن حفظي، ربَّما يقولون: كَتَم بعضَه أو داهَنَ ودارى، فأنا أُحضِرُ عقيدةً مكتوبةً من نحوِ سَبعِ سِنينَ قبلَ مجيءِ التَّتَرِ إلى الشَّامِ. وقُلتُ قبلَ حُضورِها كلامًا قد بَعُدَ عهدي به وغَضِبتُ غضبًا شديدًا، لكِنِّي أذكُرُ أنِّي قُلتُ: أنا أعلَمُ أنَّ أقوامًا كذَبوا علَيَّ وقالوا للسُّلطانِ أشياءَ، وتكَلَّمْتُ بكلامٍ احتَجْتُ إليه، مِثلُ أن قلتُ: من قام بالإسلامِ أوقاتَ الحاجةِ غيري؟ ومَن الذي أوضَح دلائِلَه وبَيَّنَه؟ وجاهَد أعداءَه وأقامه لمَّا مال؟ حينَ تخَلَّى عنه كُلُّ أحدٍ، ولا أحَدَ يَنطِقُ بحُجَّتِه ولا أحدَ يجاهِدُ عنه، وقُمتُ مُظهِرًا لحُجَّتِه مجاهِدًا عنه مرغِّبًا فيه؟ فإذا كان هؤلاء يطمَعون في الكلامِ فيَّ فكيف يصنَعون بغيري، ولو أنَّ يهوديًّا طَلَب من السُّلطانِ الإنصافَ لوجَب عليه أن يُنصِفَه، وأنا قد أعفو عن حقِّي وقد لا أعفو، بل قد أطلُبُ الإنصافَ منه وأن يُحضِرَ هؤلاء الذين يَكذِبون؛ ليوافِقوا على افترائِهم) [6798] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 162، 163). .

انظر أيضا: