موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشِرًا: نماذِجُ من المُداهَنةِ


مُداهَنةُ ذي وَجهَينِ بَيْنَ يَدَيْ معاويةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه والأحنَفِ بنِ قَيسٍ:
(لمَّا نَصَب معاويةُ وَلَدَه يزيدَ لولايةِ العَهدِ أقعَدَه في قُبَّةٍ حمراءَ، فجعل النَّاسُ يُسَلِّمون على معاويةَ، ثمَّ يُسَلِّمون على يزيدَ، حتَّى جاء رجُلٌ ففَعَل ذلك، ثمَّ رَجَع إلى معاويةَ فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، إنَّك لو لم تُوَلِّ هذا أمورَ المُسلِمين لأضَعْتَها! والأحنَفُ بنُ قَيسٍ جالِسٌ. فقال له معاويةُ: ما لك؟! ألا تقولُ يا أبا بَحْرٍ؟ فقال: أخافُ اللَّهَ إن كذَبْتُ، وأخافُكم إن صدَقْتُ. فقال له معاويةُ: جزاك اللَّهُ عن الطَّاعةِ خيرًا، وأمَرَ له بألوفٍ كثيرةٍ. فلمَّا خَرَج لَقِيَه ذلك الرَّجُلُ بالبابِ، فقال: يا أبا بحرٍ، إني لأعلَمُ أنَّ شَرَّ خَلقِ اللَّهِ هذا وابنُه، ولكِنَّهم قد استوثَقوا من هذه الأموالِ بالأبوابِ والأقفالِ، وليس نَطمَعُ في استخراجِها إلَّا كما سمِعْتَ! فقال له الأحنَفُ: أمسِكْ عليك، إنَّ ذا الوجهَينِ خَليقٌ ألَّا يكونَ عِندَ اللَّه وجيهًا) [6641] ((كنز الدرر وجامع الغرر)) لابن الدواداري (4/43، 44). .
فُقَهاءُ السُّوءِ يُداهِنون مع الوقيعةِ في غَيرِهم:
قال التَّاجُ السُّبكيُّ: (ولقد كان شيخُ الإسلامِ والمُسلِمين الوالِدُ رحمه اللَّهُ يقومُ في الحَقِّ ويَفوهُ بَيْنَ يَدَيِ الأمراءِ بما لا يقومُ به غيرُه، فيُذعِنون لطاعتِه، ثمَّ إذا خرج مِن عِندِهم دخَل إليهم مِن فُقَهاءِ السُّوءِ مَن يَعكِسُ ذلك الأمرَ، وينسُبُ الشَّيخَ الإمامَ إلى خلافِ ما هو عليه، فلا يندفعُ شيءٌ من المفاسِدِ، بل يزدادُ الحالُ، ولقد قال مرَّةً لبعضِ الأُمَراءِ وقد رأى عليه طِرزًا من ذَهَبٍ عريضًا على قباءِ حريرٍ: يا أميرُ، أليس في الثِّيابِ الصُّوفِ ما هو أحسَنُ من هذا الحريرِ؟ أليس في السَّكندريِّ ما هو أظرَفُ من هذا الطِّرزِ؟ أيُّ لذَّةٍ لك في لُبسِ الحريرِ والذَّهَبِ؟ وعلى أيِّ شيءٍ يَدخُلُ المرءُ جَهنَّمَ؟ وعذله في ذلك حتَّى قال له ذلك الأميُر: اشهَدْ عَلَيَّ أنِّي لا ألبَسُ بعدَها حريرًا ولا طِرزًا، وقد تركتُ ذلك للهِ على يدَيك، فلمَّا فارقه جاءَه مَن أعرِفُه من الفُقَهاءِ، وقال له: أمَّا الطِّرزُ فقد جوَّز أبو حنيفةَ ما دونَ أربعةِ أصابِعَ، وأمَّا الحريرُ فقد أباحه فلانٌ، وأمَّا وأمَّا ورخَّص له، ثمَّ قال له: لمَ لا نهى عن المكوسِ، لمَ لا نهى عن كذا وكذا؟ وذكَرَ ما لو نهى الشَّيخُ الإمامُ أو غيرُه عنه لما أفاد، وقال له: إنَّما قَصَد بهذا إهانتَك وأن يُبَيِّنَ للنَّاسِ أنَّك تعمَلُ حَرامًا، فلم يخرُجْ مِن عِندِه حتَّى عاد إلى حالِه الأوَّلِ وحَنَق على الشَّيخِ الإمامِ، وظَنَّه قَصَد تنقيصَه عِندَ الخَلقِ، ولم يكنْ قَصدُ هذا الفقيهِ إلَّا إيقاعَ الفتنةِ بَيْنَ الشَّيخِ الإمامِ والأميرِ، ولا عليه أن يُفتيَ بمُحَرَّمٍ في قضاءِ غَرَضِه!
وهذا المِسكينُ لم يكُنْ يخفى عليه أنَّ تَرْكَ النَّهيِ عمَّا لا يفيدُ النَّهيُ عنه من المفاسِدِ، لا يوجِبُ الإمساكَ عن غيرِه، ولكِنْ حَمَله هواه على الوقوعِ في هذه العظائِمِ، والأميرُ مِسكينٌ ليس له من العِلمِ والعَقلِ ما يُمَيِّزُ به. والحكاياتُ في هذا البابِ كثيرةٌ، ومَسْكُ اللِّسانِ أَولى، واللَّهُ المُستعانُ) [6642] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (2/ 59، 60). .
من عُقوباتِ المُداهِنينَ:
(لمَّا جلَسَ المُتوَكِّلُ دَخَل عليه عبدُ العزيزِ بنُ يحيى المكِّيُّ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، ما رُئِيَ أعجَبُ مِن أمرِ الواثِقِ؛ قَتَل أحمدَ بنَ نَصرٍ، وكان لِسانُه يقرأُ القُرآنَ إلى أن دُفِنَ! قال: فوجد المتوكِّلُ من ذلك، وساءه ما سمِعَه في أخيه، إذ دخل عليه محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الزَّيَّاتُ، فقال له: يا ابنَ عَبدِ المَلِكِ، في قلبي مِن قَتلِ أحمدَ بنِ نَصرٍ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، أحرَقَني اللَّهُ بالنَّارِ إنْ قَتَله أميرُ المُؤمِنين الواثِقُ إلَّا كافِرًا! قال: ودخَل عليه هَرثَمُة، فقال: يا هَرثَمُة: في قلبي مِن قَتلِ أحمدَ بنِ نَصرٍ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، قَطَّعَني اللَّهُ إرْبًا إرْبًا إن قَتَله أميرُ المُؤمِنين الواثِقُ إلَّا كافرًا! قال: ودخل عليه أحمدُ بنُ أبي دُؤادَ، فقال: يا أحمدُ، في قلبي مِن قَتلِ أحمدَ بنِ نَصرٍ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، ضَرَبني اللَّهُ بالفالجِ إن قتَلَه أميرُ المُؤمِنين الواثقُ إلَّا كافِرًا! قال المتوكِّلُ: فأمَّا ابنُ الزَّيَّاتِ فأنا أحرَقْتُه بالنَّارِ، وأمَّا هَرثَمةُ فإنَّه هَرَب، وتبَدَّى، واجتاز بقبيلةِ خُزاعةَ، فعَرَفه رجُلٌ في الحَيِّ، فقال: يا مَعشَرَ خُزاعةَ، هذا الذي قَتَل ابنَ عَمِّكم أحمدَ بنَ نَصرٍ، فقَطَّعوه إرْبًا إرْبًا، وأمَّا ابنُ أبي دؤادَ فقد سجَنه اللَّهُ في جِلْدِه!) [6643] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (6/ 402، 403). .
وَضعُ الأحاديثِ مُداهَنةً للحُكَّامِ:
قال الحاكِمُ: (ومنهم جماعةٌ وضَعوا الحديثَ للمُلوكِ في الوَقتِ ممَّا تقَرَّبوا به إليهم. حدَّثنا أبو أحمدَ مولى بني هاشِمٍ، قال سمِعتُ داودَ بنَ رَشيدٍ يقولُ: دَخَل غِياثُ بنُ إبراهيمَ على المهديِّ وكان يُعجِبُه الحَمامُ الطَّيَّارةُ التي تجيءُ من البُعدِ، فروى حديثًا أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لا سَبَقَ إلَّا في خَفٍّ أو حافِرٍ أو نَصلٍ أو جَناحٍ! قال: فأمَرَ له بعَشَرةِ آلافِ دِرهَمٍ، فلمَّا قام وخرج قال: أشهَدُ أنَّ قفاك قفا كَذَّابٍ على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! واللَّهِ ما قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «جَناح»، ولكِنْ هذا أراد أن يتقَرَّبَ إلينا، يا غُلامُ اذبَحِ الحَمامَ! قال: فذَبَح الحَمَامَ في الحالِ) [6644] ((المدخل إلى كتاب الإكليل)) (ص: 55). .

انظر أيضا: