موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامنًا: الوسائِلُ المُعينةُ على تَركِ العُجْبِ


وصَف ابنُ حزمٍ عِلاجَ العُجْبِ، وجعَل له علاجًا عامًّا يتداوى به كُلُّ من أُصيبَ بهذا الدَّاءِ العُضالِ، والآفةِ القاتلةِ، وهذا العلاجُ يكمُنُ في التَّفكُّرِ في عيوبِ النَّفسِ، والنَّظَرِ إلى نقصِها وضَعفِها، فقال: (مَن امتُحِن بالعُجْبِ فلْيُفكِّرْ في عيوبِه، فإن أُعجِبَ بفضائِله فلْيُفتِّشْ ما فيه من الأخلاقِ الدَّنيَّةِ، فإن خَفِيت عليه عيوبُه جملةً حتَّى يَظُنَّ أنَّه لا عَيبَ فيه، فلْيَعلَمْ أنَّه مصيبةٌ للأبَدِ، وأنَّه أتمُّ النَّاسِ نقصًا، وأعظَمُهم عُيوبًا، وأضعَفُهم تمييزًا!... فليتدارَكْ نفسَه بالبَحثِ عن عيوبِه، والاشتغالِ بذلك عن الإعجابِ بها، وعن عيوبِ غيرِه التي لا تضُرُّه لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ...
ثمَّ تقولُ للمُعجَبِ: ارجِعْ إلى نفسِك، فإذا ميَّزْتَ عيوبَها فقد داويتَ عُجبَك، ولا تُمَيِّلْ [4836] التَّمييلُ بَيْنَ الشَّيئينِ: كالتَّرجيحِ بَيْنَهما. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/1823). بَيْنَ نفسِك وبينَ مَن هو أكثَرُ منها عيوبًا، فتستسهِلَ الرَّذائِلَ، وتكونَ مقَلِّدًا لأهلِ الشَّرِّ) [4837] ((رسائل ابن حزم)) (1/387). .
ثمَّ تكَلَّم ابنُ حزمٍ عن علاجٍ لبعضِ الحالاتِ الخاصَّةِ من حالاتِ العُجْبِ، ننقُلُها هنا بتصَرُّفٍ يسيرٍ:
- علاجُ مَن أُعجِبَ بعَقلِه:
(فإن أُعجِبتَ بعَقلِك ففَكِّرْ في كُلِّ فكرةِ سوءٍ تمُرُّ بخاطرِك، وفي أضاليلِ الأمانيِّ الطَّائفةِ بك؛ فإنَّك تعلَمُ نَقصَ عَقلِك حينَئذٍ.
- علاجُ مَن أُعجِبَ برأيِه:
وإن أُعجِبتَ بآرائِك فتفَكَّرْ في سَقَطاتِك، واحفَظْها ولا تَنْسَها، وفي كُلِّ رأيٍ قدَّرْتَه صوابًا فخَرج بخلافِ تقديرِك، وأصاب غيرُك وأخطأتَ أنت؛ فإنَّك إن فعَلْتَ ذلك فأقَلُّ أحوالِك أن يوازِنَ سُقوطُ رأيِك صوابَه، فتخرُجَ لا لك ولا عليك، والأغلَبُ أنَّ خطَأَك أكثَرُ من صوابِك. وهكذا كُلُّ أحدٍ من النَّاسِ بَعدَ النَّبيِّينَ صَلَواتُ اللَّهِ عليهم.
- علاجُ مَن أُعجِبَ بما يُقَدِّمُه من الخيرِ:
وإن أُعجِبْتَ بخَيرِك فتفَكَّرْ في معاصيك وتقصيرِك، وفي معايبِك ووُجوهِها؛ فواللَّهِ لتجِدَنَّ من ذلك ما يَغلِبُ على خيرِك، ويُعْفي [4838] أي: يمحو ويَطمِسُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 72). على حَسَناتِك، فلْيَطُلْ هَمُّك حينَئذٍ من ذلك، وأبدِلْ من العُجْبِ تنقيصًا لنفسِك.
- علاجُ من أُعجِب بعِلمِه:
وإن أُعجِبتَ بعِلمِك، فاعلَمْ أنَّه لا خَصلةَ لك فيه، وأنَّه موهِبةٌ من اللَّهِ مجرَّدةٌ وهَبَك إيَّاها ربُّك تعالى، فلا تقابِلْها بما يُسخِطُه؛ فلعَلَّه يُنسيك ذلك بعِلَّةٍ يمتَحِنُك بها، تولِّدُ عليك نِسيانَ ما عَلِمتَ وحَفِظتَ...
واعلَمْ أنَّ كثيرًا من أهلِ الحِرصِ على العِلمِ يَجِدُّون في القراءةِ والإكبابِ على الدَّرسِ والطَّلَبِ، ثمَّ لا يُرزَقون منه حَظًّا؛ فلْيعلَمْ ذو العِلمِ أنَّه لو كان بالإكبابِ وَحدَه لكان غيرُه فوقَه، فصَحَّ أنَّه مَوهِبةٌ من اللَّهِ تعالى، فأيُّ مكانٍ للعُجبِ هاهنا؟! ما هذا إلَّا موضِعُ تواضُعٍ وشُكرٍ للهِ تعالى، واستزادةٍ من نِعَمِه، واستعاذةٍ مِن سَلبِها.
ثمَّ تفكَّرْ أيضًا في أنَّ ما خَفِيَ عليك وجَهِلْتَه من أنواعِ العِلمِ الذي تختصُّ به، والذي أُعجِبتَ بنفاذِك فيه: أكثَرُ ممَّا تعلَمُ من ذلك؛ فاجعَلْ مكانَ العُجْبِ استنقاصًا لنفسِك واستقصارًا لها؛ فهو أَولى، وتفكَّرْ فيمن كان أعلَمَ منك تجِدْهم كثيرًا، فلْتَهُنْ نفسُك عندَك حينَئذٍ.
وتفكَّرْ في إخلالِك بعِلمِك؛ فإنَّك لا تعمَلُ بما عَلِمتَ منه، فعِلمُك عليك حُجَّةٌ حينئذٍ، لقد كان أسلَمَ لك لو لم تكُنْ عالِـمًا، واعلَمْ أنَّ الجاهِلَ حينَئذٍ أعقَلُ منك، وأحسَنُ حالًا وأعذَرُ، فلْيَسقُطْ عُجبُك بالكُلِّيَّةِ.
ثمَّ لعَلَّ عِلمُك الذي تُعجَبُ بنفاذِك فيه مِن العُلومِ المتأخِّرةِ التي لا كبيرَ خَصلةٍ فيها، كالشِّعرِ وما جرى مجراه، فانظُرْ حينَئذٍ إلى مَن عِلمُه أجَلُّ مِن عِلمِك في مراتِبِ الدُّنيا والآخِرةِ، فتهونَ نفسُك عليك.
- علاجُ مَن أُعجِبَ بشجاعتِه:
وإن أُعجِبتَ بشجاعتِك فتفَكَّرْ فيمن هو أشجَعُ منك، ثمَّ انظُرْ في تلك النَّجدةِ التي منحَك اللَّهُ تعالى فيما صرَفْتَها، فإن كنتَ صَرفْتَها في معصيةٍ فأنت أحمقُ؛ لأنَّك بذَلتَ نفسَك فيما ليس بثَمَنٍ لها، وإنْ كُنتَ صَرفْتَها في طاعةٍ فقد أفسَدْتَها بعُجبِك، ثمَّ تفكَّرْ في زوالِها عنك بالشَّيَخِ، وأنَّك إن عِشتَ فستصيرُ في عِدادِ العيالِ وكالصَّبيِّ ضَعفًا...
- علاجُ مَن أُعجِبَ بجاهِه:
وإن أُعجِبتَ بجاهِك في دُنياك فتفكَّرْ في مخالفيك وأندادِك ونَظائِرِك، ولعَلَّهم أخسَّاءُ وُضَعاءُ سُقَّاطٌ؛ فاعلَمْ أنَّهم أمثالُك فيما أنت فيه، ولعلَّهم ممَّن يُستحيَا من التَّشبُّهِ بهم؛ لفَرطِ رذالتِهم، وخَساستِهم في أنفُسِهم وفي أخلاقِهم ومَنابِتِهم؛ فاستَهِنْ بكُلِّ منزلةٍ شارَك فيها مَن ذكَرتُ لك.
إنْ كُنتَ مالِكَ الأرضِ كُلِّها ولا خليفةَ عليك -وهذا بعيدٌ جِدًّا في الإمكانِ- فما نعلَمُ أحدًا مَلَك معمورَ الأرضِ كُلِّها على قِلَّتِه وضِيقِ مِساحتِه بالإضافةِ إلى غامِرِها، فكيف إذا أُضيفَ إلى الفَلَكِ المحيطِ؟!...
وإن كُنتَ مَلِكَ المُسلِمين كُلِّهم فاعلَمْ أنَّ مَلِكَ السُّودانِ -وهو رجُلٌ أسوَدُ مكشوفُ العورةِ جاهِلٌ- يملِكُ أوسَعَ مِن مُلكِك، فإن قُلتَ: أخَذْتُه بحَقٍّ، فلَعَمْري ما أخذْتَه بحَقٍّ إذ استَعمَلْتَ فيه رذيلةَ العُجْبِ، وإذا لم تعدِلْ فيه فاستَحِي من حالِك؛ فهي حالةٌ لا حالةَ يجِبُ العُجْبُ فيها.
- علاجُ مَن أُعجِبَ بمالِه:
وإن أُعجِبتَ بمالِك فهذه أسوَأُ مراتبِ العُجْبِ؛ فانظُرْ في كُلِّ ساقطٍ خَسيسٍ فهو أغنى منك، فلا تغتَبِطْ بحالةٍ يفوقُك فيها من ذكَرْتُ، واعلَمْ أنَّ عُجبَك بالمالِ حُمقٌ؛ لأنَّه أحجارٌ لا تنتَفِعُ بها إلَّا بأن تُخرِجَها عن مِلكِك بنَفَقتِها في وَجْهِها فقط، والمالُ أيضًا غادٍ ورائحٌ، وربَّما زال عنك ورأيتَه بعينِه في يَدِ غَيرِك، ولعَلَّ ذلك يكونُ في يَدِ عَدُوِّك، فالعُجْبُ بمِثلِ هذا سُخفٌ، والثِّقةُ به غرورٌ وضَعفٌ.
- علاجُ مَن أُعجِبَ بجمالِه وحُسنِ مَنظَرِه:
وإن أُعجِبتَ بحُسنِك ففَكِّرْ فيما عليك ممَّا نستحيي نحن من إثباتِه، وتستحي أنت منه إذا ذهَب عنك بدُخولِك في السِّنِّ.
- علاجُ منَ أُعجِبَ بمَدحِ النَّاسِ له:
وإن أُعجِبتَ بمدح إخوانِك لك ففَكِّرْ في ذَمِّ أعدائِك إياك، فحينَئذٍ ينجلي عنك العُجْبُ، فإنْ لم يكُنْ لك عَدُوٌّ فلا خيرَ فيك، ولا منزلةَ أسقَطُ من منزلةِ مَن لا عَدُوَّ له، فليست إلَّا منزلةَ مَن ليس للهِ تعالى عندَه نِعمةٌ يُحسَدُ عليها، عافانا اللَّهُ.
فإن استحقَرْتَ عُيوبَك ففَكِّرْ فيها لو ظهَرَت إلى النَّاسِ، وتمثَّلِ اطِّلاعَهم عليها، فحينَئذٍ تخجَلُ وتعرِفُ قَدْرَ نَقصِك إن كانت لك مُسكةٌ من تمييزٍ...
- علاجُ مَن أُعجِب بنَسَبِه:
وإن أُعجِبتَ بنَسَبِك فهذه أسوَأُ من كُلِّ ما ذَكَرْنا؛ لأنَّ هذا الذي أُعجِبتَ به لا فائدةَ له أصلًا في دنيا ولا آخِرةٍ، وانظُرْ هل يدفَعُ عنك جَوعةً، أو يَستُرُ لك عورةً، أو ينفَعُك في آخِرتِك؟!
ثمَّ انظُرْ إلى من يساهِمُك في نَسَبِك، ورُبَّما فيما هو أعلى منه ممَّن نالته ولادةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ثمَّ وِلادةُ الخُلَفاءِ، ثمَّ وِلادةُ الفُضَلاءِ من الصَّحابةِ والعُلَماءِ، ثمَّ وِلادةُ مُلوكِ العَجَمِ مِن الأكاسِرةِ والقياصِرةِ، ثمَّ وِلادةُ التَّبابِعةِ وسائِرِ مُلوكِ الإسلامِ، فتأمَّلْ غُبَّراتِهم وبقاياهم، ومَن يُدلي بمِثلِ ما تُدلي به من ذلك، تجِدْ أكثَرَهم أمثالَ الكلابِ خَساسةً، وتَلْقَهم في غايةِ السُّقوطِ والرَّذالةِ والتَّبذُّلِ والتَّحَلِّي بالصِّفاتِ المذمومةِ؛ فلا تغتَبِطْ بمنزلةٍ هم نُظَراؤك أو فوقَك!
- علاجُ مَن أُعجِبَ بفَضلِ آبائِه:
فإن أُعجِبتَ بولادةِ الفُضَلاءِ إيَّاك، فما أخلى يَدَك مِن فَضْلِهم إنْ لم تكُنْ أنت فاضِلًا، وما أقَلَّ غَناءَهم عنك في الدُّنيا والآخرةِ إنْ لم تكُنْ مُحسِنًا، والنَّاسُ كُلُّهم وَلَدُ آدمَ الذي خلَقه اللَّهُ تعالى بيَدِه، وأسكَنه جنَّتَه وأسجَد له ملائكتَه، ولكِنْ ما أقَلَّ نَفْعَه لهم، وفيهم كُلُّ عيبٍ، وكلُّ فاسِقٍ، وكُلُّ كافِرٍ.
وإذا فَكَّر العاقِلُ في أنَّ فضائِلَ آبائِه لا تُقَرِّبُه مِن رَبِّه تعالى ولا تَكسِبُه وَجاهةً، لم يَحُزْها هو بسَعدِه أو بفَضلِه في نفسِه ولا مالِه، فأيُّ معنًى للإعجابِ بما لا منفعةَ فيه؟!...
- علاجُ مَن طَلَب المدحَ عُجبًا بنَفسِه:
فإن تعدَّى بك العُجْبُ إلى الامتداحِ فقد تضاعَف سُقوطُك؛ لأنَّه قد عَجَز عقلُك عن مفارقةِ ما فيك من العُجْبِ، هذا إن امتدَحْتَ بحَقٍّ، فكيف إن امتدَحْتَ بكَذِبٍ؟! وقد كان ابنُ نوحٍ وأبو إبراهيمَ، وأبو لهبٍ -عمُّ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وعلى نوحٍ وإبراهيمَ وسَلَّم- أقرَبَ النَّاسِ من أفضَلِ خَلقِ اللَّهِ تعالى من وَلَدِ آدَمَ، وممَّن الشَّرَفُ كُلُّه في اتِّباعِهم، فما انتَفَعوا بذلك!
- علاجُ مَن أُعجِبَ بقُوَّةِ جِسمِه أو خِفَّتِه:
وإن أُعجِبتَ بقوَّةِ جِسمِك فتفَكَّرْ في أنَّ البَغلَ والحِمارَ والثَّورَ أقوى منك وأحمَلُ للأثقالِ، وإن أُعجِبتَ بخِفَّتِك فاعلَمْ أنَّ الكَلبَ والأرنبَ يفوقانِك في هذا البابِ، فمِن أَعجَبِ العَجيبِ إعجابُ ناطِقٍ بخَصلةٍ يفوقُه فيها غيرُ النَّاطِقِ! ...)) [4839] ((رسائل ابن حزم)) (1/393). .
وقال السَّمَرْقَنديُّ: (مَن أراد أن يَكسِرَ العُجْبَ فعليه أربعةُ أشياءَ:
أوَّلُها: أن يرى التَّوفيقَ من اللَّهِ تعالى، فإذا رأى التَّوفيقَ من اللَّهِ تعالى فإنَّه يشتَغِلُ بالشُّكرِ، ولا يُعجَبُ بنَفسِه.
والثَّاني: أن يَنظُرَ إلى النَّعماءِ التي أنعَم اللَّهُ بها عليه، فإذا نظَر في نَعْمائِه اشتَغَل بالشُّكرِ عليها، واستقَلَّ عَمَلَه، ولا يُعجَبُ به.
والثَّالِثُ: أن يخافَ ألَّا يُتقَبَّلَ منه، فإذا اشتغل بخوفِ القَبولِ لا يُعجَبُ بنفسِه.
والرَّابعُ: أن ينظُرَ في ذنوبِه التي أذنَب قبلَ ذلك، فإذا خاف أن ترجَحَ سَيِّئاتُه على حَسَناتِه فقد كَسَر عُجبَه، وكيف يُعجَبُ المرءُ بعَمَلِه ولا يدري ماذا يخرجُ من كتابِه يومَ القيامةِ؟! وإنَّما يتبيَّنُ عُجبُه وسُرورُه بعدَ قراءةِ الكتابِ) [4840] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 486، 487). .
وقال الشَّافعيُّ: (إذا أنت خِفتَ على عَمَلِك العُجْبَ فانظُرْ رِضا من تَطلُبُ، وفي أيِّ ثوابٍ ترغَبُ، ومِن أيِّ عقابٍ تَرهَبُ، وأيَّ عافيةٍ تَشكُرُ، وأيَّ بلاءٍ تَذكُرُ؟ فإنَّك إذا تفكَّرْتَ في واحدٍ من هذه الخصالِ صَغُر في عينِك عَمَلُك) [4841] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 26)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (51/ 413). .
وقال عُبَيدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفَرٍ الكِنانيُّ: (إذا كان المرءُ يُحَدِّثُ في مجلِسٍ فأعجبه الحديثُ فليُمسِكْ، وإذا كان ساكِتًا فأعجَبه السُّكوتُ فلْيتحَدَّثْ) [4842] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (6/ 10). .

انظر أيضا: