موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: صُوَرُ السُّخْريَّةِ والاستِهْزاءِ


1- السُّخْريَّةُ بالقولِ أو بالمحاكاةِ في الفِعلِ والقولِ، أو بالإشارةِ والإيماءِ، أو بالضَّحِكِ:
قال ابنُ النَّحَّاسِ: (واعلَمْ أنَّ معنى السُّخْريَّةِ: الاستِحقارُ والاستِهانةُ والتَّنبيهُ على العُيوبِ والنَّقائِصِ على وَجهٍ يُضحَكُ منه، وقد يكونُ ذلك بالمحاكاةِ في الفِعلِ والقَولِ، وقد يكونُ بالإشارةِ والإيماءِ، وقد يكونُ بالضَّحِكِ، كأن يَضحَكَ على كلامِه إذا تخبَّط فيه أو غَلِط، أو على صَنعتِه، أو قُبحٍ في صورتِه، ونحوِ ذلك) [3813] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 180). .
2- الهَمْزُ واللَّمْزُ:
وقد نهى اللهُ عزَّ وجَلَّ عن الهَمْزِ واللَّمزِ في كتابِه، وتوعَّد مَن يفعَلُ ذلك؛ قال ابنُ تَيميَّةَ: (اللَّمْزُ: هو العَيبُ والطَّعنُ، ومنه قَولُه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فيِ الصَّدَقَاتِ [التوبة: 58] ، أي: يَعيبُك ويَطعَنُ عليك، وقَولُه: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة: 79] ، وقَولُه: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] ، أي: لا يَلمِزْ بعضُكم بعضًا، كقَولِه: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور: 12] ... والهَمزُ: العَيبُ والطَّعنُ بشِدَّةٍ وعُنفٍ، ومنه: هَمَز الأرضَ بعَقِبِه، ومنه الهَمْزةُ، وهي نَبرةٌ من الصَّدرِ) [3814] ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/236). .
و(اللَّمزُ: هو أن يعيبَ الإنسانُ أخاه في وَجهِه بكلامٍ ولو خَفيًّا، ورُبَّ لَمزٍ خَفيٍّ هو أشدُّ مِن طعنٍ صريحٍ، وأعمَقُ جُرحًا في داخِلِ النَّفسِ؛ لأنَّ فيه بالإضافةِ إلى الطَّعنِ والتَّجريحِ بالعَيبِ معنى استغباءِ الملموزِ واستِغفالِه، فكأنَّ اللَّامِزَ يُشعِرُ الذين في المجلِسِ أنَّ الملموزَ غبيٌّ لا يتنَبَّهُ إلى الطَّعنِ الذي يوجَّهُ ضِدَّه في رمزِ الكلامِ.
واللَّمزُ قبيحةٌ اجتماعيَّةٌ تورِثُ الأحقادَ والأضغانَ، وتقطَعُ أواصِرَ الأخُوَّةِ الإيمانيَّةِ، وهو ظُلمٌ من الإنسانِ لأخيه الإنسانِ، وعُدوانٌ على حَقِّه عليه) [3815] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/226). .
قال سُبحانَه: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] (فجَعَل اللَّامِزَ أخاه لامِزًا نفسَه؛ لأنَّ المُؤمِنين كرَجُلٍ واحدٍ فيما يلزَمُ بعضُهم لبعضٍ من تحسينِ أمرِه، وطلَبِ صلاحِه، ومحبَّتِه الخَيرَ) [3816] ((جامع البيان)) لابن جرير (22/298). .
وقال أبو السُّعودِ: (مَناطُ الخَيريَّةِ... ليس ما يَظهَرُ للنَّاسِ من الصُّوَرِ والأشكالِ، ولا الأوضاعِ والأطوارِ التي عليها يدورُ أمرُ السُّخْريَّةِ غالبًا، بل إنَّما هو الأمورُ الكامنةُ في القُلوبِ، فلا يجتَرِئُ أحَدٌ على استحقارِ أحَدٍ؛ فلعَلَّه أجمعُ منه لِما نيطَ به الخيريَّةُ عِندَ اللهِ تعالى، فيَظلِمَ نفسَه بتحقيرِ مَن وَقَّره اللهُ تعالى، والاستهانةِ بمَن عظَّمَه اللهُ تعالى) [3817] ((إرشاد العقل السليم)) (6/186). .
الفَرْقُ بَيْنَ الهمزِ واللَّمزِ:
اختُلِف في الفَرْقِ بَيْنَ الهَمزِ واللَّمزِ:
فقيل: الهَمزُ: عيبُ النَّاسِ مِن خَلفِهم، واللَّمزُ: عَيبُهم مواجَهةً.
وقيل بعَكسِ ذلك؛ فالهَمزُ: الطَّعنُ في وَجهِ الرَّجلِ، واللَّمزُ: اغتيابُ الرَّجُلِ مِن خَلفِه إذا غاب.
وقيل: الهَمزُ: بالقَولِ، واللَّمزُ: بالفِعلِ.
وقيل بعَكسِ ذلك؛ فالهَمزُ: عَيبُ النَّاسِ والطَّعنُ عليهم بالإشارةِ والفِعلِ. واللَّمزُ: عَيبُهم بالقَولِ.
وقيل: الهَمزُ واللَّمزُ: كِلاهما بمعنًى واحِدٍ، وهو العَيبُ والطَّعنُ [3818] يُنظَر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/ 311)، ((إصلاح المنطق)) لابن السكيت (ص: 304)، ((الصحيح)) للبخاري (8/ 17)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزَّجَّاج (5/ 361)، ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص53، 54). .
3- التَّنابُزُ بالألقابِ:
(اللَّقَبُ: هو ما يُدعى به الشَّخصُ مِن لَفظٍ غيرِ اسمِه وغيرِ كُنيتِه، وهو قِسمانِ: قَبيحٌ، وهو ما يَكرَهُه الشَّخصُ لكونِه تقصيرًا به وذَمًّا. وحسَنٌ، وهو بخِلافِ ذلك، كالصِّدِّيقِ لأبي بَكرٍ، والفاروقِ لعُمَرَ، وأسَدِ اللهِ لحَمزةِ، رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم) [3819] ((تفسير البحر المحيط)) لأبي حيان الأندلسي (8/79). .
قال ابنُ عبَّاسٍ: (التَّنابُزُ بالألقابِ: أن يكونَ الرَّجُلُ قد عَمِل السَّيِّئاتِ ثمَّ تاب، فنهى اللهُ أن يُعَيَّرَ بما سلَف مِن عَمَلِه) [3820] رواه الطبري في ((التفسير)) (22/301). .
ثمَّ إنَّ التَّنابُزَ بالألقابِ التي هي (ممَّا يؤذي النَّاسَ؛ إذ يَحمِلُ معنى التَّحقيرِ والإهانةِ، نهى اللهُ عنه، وجَعَله من المحرَّماتِ، وجعلَه من الفُسوقِ والظُّلمِ، وربَّما يَصِلُ التَّنابُزُ بالألقابِ إلى مستوى الشَّتيمةِ، كالنَّبزِ بالحِمارِ، والثَّورِ، والكَلبِ، ونحوِ ذلك.
ومن شأنِ التَّنابُزِ بالألقابِ أنَّه يقطَعُ أواصِرَ الأخُوَّةِ الإيمانيَّةِ، ويُفسِدُ المودَّاتِ، ويولِّدُ العداواتِ والأحقادَ، ورُبَّما يوصِلُ إلى التَّقاتُلِ مع ثَوراتِ الغَضَبِ، وهَيَجانِ الحماقاتِ) [3821] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/227). .
ويُستثنى من النَّهيِ بالتَّنابُزِ بالألقابِ الألقابُ الحَسَنةُ، كالصِّديقِ، والفاروقِ وغيرِها، وكذلك التي هي للشُّهرةِ، كالأعمَشِ وغيرِه.
وقال الخازِنُ: (قال بعضُ العُلَماءِ: المرادُ بهذه الألقابِ ما يَكرَهُه المنادى به أو يفيدُ ذَمًّا له، فأمَّا الألقابُ التي صارت كالأعلامِ لأصحابِها، كالأعمَشِ والأعرَجِ وما أشبَهَ ذلك، فلا بأسَ بها، إذا لم يكرَهْها المدعوُّ بها، وأمَّا الألقابُ التي تكسِبُ حَمدًا ومدحًا تكونُ حَقًّا وصِدقًا، فلا يُكرَهُ، كما قيل لأبي بَكرٍ: عتيقٌ، ولعُمَرَ: الفاروقُ، ولعُثمانَ: ذو النُّورَينِ، ولعَليٍّ: أبو تُرابٍ، ولخالِدِ: سَيفُ اللهِ، ونحوِ ذلك) [3822] ((لباب التأويل)) (4/181). .
4- التَّعييرُ والتَّهكُّمُ:
والتَّعييرُ: ذِكرُ ما يُوجِبُ العارَ [3823] ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (4/ 453). ، فيَذُمُّ الرَّجُلَ ويتنقَّصُه ويُظهِرُ عَيبَه؛ ليُنفِّرَ النَّاسَ عنه؛ إمَّا محبَّةً لإيذائِه أو لعداوتِه، أو مخافةً من مزاحمتِه على مالٍ أو رئاسةٍ، أو غيرِ ذلك من الأسبابِ المذمومةِ، فلا يَتوَصَّلُ إلى ذلك إلَّا بإظهارِ الطَّعنِ فيه [3824] ((الفرق بين النصيحة والتعيير)) لابن رجب (ص: 25). .
وقال الكَفَويُّ في معنى التَّهكُّمِ: (هو ما كان ظاهِرُه جِدًّا وباطِنُه هَزْلًا، والهَزْلُ الذي يرادُ به الجِدُّ بالعَكسِ، ولا تخلو ألفاظُ التَّهكُّمِ من لفظةٍ من اللَّفظِ الدَّالِّ على نوعٍ من أنواعِ الذَّمِّ، أو لفظةٍ مِن معناها الهَجْوُ) [3825] ((الكليات)) (ص: 303). .
عن المعرورِ بنِ سُوَيدٍ قال: ((لَقيتُ أبا ذَرٍّ بالرَّبَذةِ، وعليه حُلَّةٌ [3826] الحُلَّةُ: ثوبانِ لا يكونُ واحِدًا وهما إزارٌ ورداءٌ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (4/ 219). ، وعلى غُلامِه حُلَّةٌ، فسألتُه عن ذلك فقال: إنِّي سابَبْتُ رجُلًا فعَيَّرْتُه بأمِّه، فقال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أبا ذَرٍّ، أعيَّرْتَه بأمِّه؟ إنَّك امرؤٌ فيك جاهليَّةٌ! إخوانُكم خَوَلُكم [3827] خوَلُكم، أي: خَدَمُكم وعَبيدُكم. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 115). جعَلَهم اللهُ تحتَ أيديكم؛ فمن كان أخوه تحتَ يَدِه فلْيُطعِمْه ممَّا يأكُلُ، ولْيُلبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكَلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإن كَلَّفْتُموهم فأعينوهم)) [3828] رواه البخاري (30) واللفظ له، ومسلم (1661). .
5- السُّخْريَّةُ والاستِهْزاءُ والتَّهكُّمُ عن طريقِ وسائلِ التَّواصُلِ، بنَشرِ المقاطِعِ المصَوَّرةِ، وكتابةِ التَّعليقاتِ السَّاخرةِ، وكذلك ما يُعرَفُ بالبرامِجِ السَّاخِرةِ، والرُّسومِ المعروفةِ بـ(الكاريكاتير).

انظر أيضا: