موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: حُكمُ رَفعِ الصَّوتِ وما يُباحُ منه


الأصلُ في الصَّوتِ هو خَفضُه والغَضُّ منه، ويتفاوتُ حُكمُ رَفعِ الصَّوتِ حَسَبَ الحاجةِ إليه.
فيَحرُمُ رَفعُ الصَّوتِ بغيرِ داعٍ؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19] ، وهذا التَّشبيهُ في هذا بالحَميرِ يقتضي تحريمَه وذَمَّه غايةَ الذَّمِّ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ليس لنا مثَلُ السَّوءِ)) [3620] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 339). والحديثُ أخرجه البخاري (2622) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وكَرِه جماعةٌ من العُلَماءِ رَفعَ الصَّوتِ عِندَ قبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبحَضرةِ العُلَماءِ، وفي المساجِدِ [3621] ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/ 139)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 307). ؛ قال حمَّادُ بنُ زيدٍ: (أرى رَفعَ الصَّوتِ عليه بعدَ مَوتِه كرَفعِ الصَّوتِ عليه في حياتِه) [3622] ((ذم الكلام وأهله)) لأبي إسماعيل الهروي (4/ 183) رقم (965). .
وقال الآجُريُّ: (فإذا أحَبَّ مجالسةَ العُلَماءِ جالَسَهم بأدَبٍ، وتواضَعَ في نفسِه، وخَفَض صوتَه عن صَوتِهم) [3623] ((أخلاق العلماء)) (ص: 93). .
ويجوزُ رَفعُ الصَّوتِ في حالاتٍ:
منها رَفعُ الصَّوتِ بالعِلمِ وبإنكارِ المُنكَرِ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو قال: ((تخلَّف عنَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفرةٍ سافَرْناها فأدرَكَنا -وقد أرهَقَتْنا الصَّلاةُ- ونحن نتوضَّأُ، فجَعَلْنا نمسَحُ على أرجُلِنا، فنادى بأعلى صوتِه: وَيلٌ للأعقابِ من النَّارِ، مرَّتينِ أو ثلاثًا)) [3624] أخرجه البخاري (60) واللفظ له، ومسلم (241). .
ورَفعُ الصَّوتِ للتَّحذيرِ من العَدُوِّ ونحوِه؛ فعن سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (خرَجْتُ من المدينةِ ذاهِبًا نحوَ الغابةِ، حتَّى إذا كنتُ بثَنيَّةِ الغابةِ لَقِيَني غلامٌ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، قلتُ: وَيحَك ما بك؟! قال: أُخِذَت لِقاحُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: من أخَذَها؟ قال: غَطَفانُ وفَزارةُ، فصَرَخْتُ ثلاثَ صَرَخاتٍ أسمَعْتُ ما بَيْنَ لابَتَيها: يا صباحاه! يا صباحاه! ثمَّ اندَفَعْتُ...) [3625] أخرجه البخاري (3041) واللفظ له، ومسلم (1806). .
ورَفعُ الصَّوتِ عِندَ الموعظةِ؛ فعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خَطَب احمَرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتَدَّ غَضَبُه، حتَّى كأنَّه مُنذِرُ جَيشٍ)) [3626] أخرجه البخاري (867). .
ورَفعُ الصَّوتِ في صلاةِ اللَّيلِ إذا لم يؤذِ أحَدًا وأَمِنَ من الرِّياءِ؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إني لأعرِفُ أصواتَ رُفقةِ الأشعَريِّينَ بالقرآنِ حينَ يَدخُلون باللَّيلِ، وأعرِفُ منازِلَهم من أصواتِهم بالقُرآنِ باللَّيلِ، وإنْ كُنتُ لم أرَ مَنازِلَهم حينَ نزلوا بالنَّهارِ)) [3627] أخرجه البخاري (4232)، ومسلم (2499) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. قال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّه جاء أحاديثُ كثيرةٌ في الصَّحيحِ وغيرِه دالَّةٌ على استحبابِ رفعِ الصوتِ بالقراءةِ، وجاءت آثارٌ دالَّةٌ على استحبابِ الإخفاءِ وخَفضِ الصَّوتِ؛ قال الإمامُ أبو حامدٍ الغزاليُّ وغيرُه من العُلَماءِ: وطريقُ الجمعِ بَيْنَ الأحاديثِ والآثارِ المختَلِفةِ في هذا أنَّ الإسرارَ أبعَدُ من الرِّياءِ، فهو أفضَلُ في حَقِّ من يخافُ ذلك، فإن لم يخَفِ الرِّياءَ فالجَهرُ ورَفعُ الصَّوتِ أفضَلُ؛ لأنَّ العَمَلَ فيه أكثرُ، ولأنَّ فائدتَه تتعدَّى إلى غيرِه، والمتعدِّي أفضَلُ من اللازمِ، ولأنَّه يوقِظُ قَلبَ القارئِ ويجمَعُ هَمَّه إلى الفِكرِ فيه، ويَصرِفُ سَمْعَه إليه، ويَطرُدُ النَّومَ، ويزيدُ في النَّشاطِ، ويُوقِظُ غيرَه من نائمٍ وغافلٍ ويُنَشِّطُه، قالوا: فمهما حضَره شيءٌ من هذه النيَّاتِ فالجَهرُ أفضَلُ، فإن اجتَمَعَت هذه النِّيَّاتُ تضاعَفَ الأجرُ). ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 104). .
ورَفعُ الصَّوتِ بالسَّلامِ من غيرِ أن يُوقِظَ نائمًا أو يُزعِجَ مَريضًا؛ ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجيءُ من اللَّيلِ فيُسَلِّمُ تسليمًا لا يوقِظُ نائمًا، ويُسمِعُ اليَقظانَ)) [3628] أخرجه مسلم (2055) مطوَّلًا من حديثِ المقدادِ بنِ عَمرِو بنِ الأسوَدِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وعن البراءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الخَندَقِ وهو يَنقُلُ التُّرابَ حتَّى وارى التُّرابُ شَعرَ صَدْرِه، وكان رجُلًا كثيرَ الشَّعرِ، وهو يرتجِزُ برَجَزِ عَبدِ اللهِ:
اللَّهُمَّ لولا أنت ما اهتَدَينا
ولا تصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا
فأنزِلَنْ سَكينةً علينا
وثَبِّتِ الأقدامَ إن لاقَينا
إنَّ الأعداءَ قد بَغَوا علينا
إذا أرادوا فِتنةً أَبَينا
يرفَعُ بها صوتَه))
[3629]  أخرجه البخاري (3034) واللفظ له، ومسلم (1803). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (وفيه جوازُ رَفعِ الصَّوتِ في عَمَلِ الطَّاعةِ؛ ليُنشِّطَ نَفسَه وغيرَه) [3630] ((فتح الباري)) (6/ 161). .
وبالجُملةِ؛ قال ابنُ حَجَرٍ: (ويجوزُ رَفعُ الصَّوتِ حيثُ تدعو الحاجةُ إليه؛ لبُعدٍ، أو كثرةِ جَمعٍ، أو غيرِ ذلك) [3631] ((فتح الباري)) (1/ 143). .
بل قد يُستحَبُّ رَفعُ الصَّوتِ في حالاتٍ:
ومنها: رَفعُ الصَّوتِ بالأذانِ؛ قال أبو سعيدٍ الخُدْريُّ رَضِيَ اللهُ عنه: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((... فإذا كنتَ في غَنَمِك وباديتِك فأذَّنْتَ بالصَّلاةِ، فارفَعْ صَوتَك بالنِّداءِ؛ فإنَّه لا يسمَعُ مدى صوتِ المؤذِّنِ جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلَّا شهِد له يومَ القيامةِ)) [3632] أخرجه البخاري (3296). ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا نودي للصَّلاةِ أدبَرَ الشَّيطانُ وله ضُراطٌ؛ حتَّى لا يسمَعَ التَّأذينَ)) [3633] أخرجه البخاري (608) واللفظ له، ومسلم (389) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ورَفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ كذلك مُستَحَبٌّ [3634] يُنظَر: ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) لابن عبد البر (17/ 240). .
ورَفعُ الصَّوتِ بإفشاءِ السَّلامِ بحيثُ يَسمَعُ المُسلَّمُ عليهم؛ قال النَّوويُّ: (والمُستَحَبُّ أن يرفَعَ صوتَه رَفعًا يَسمَعُه به المُسلَّمُ عليه أو عليهم سماعًا محَقَّقًا) [3635] ((الأذكار)) (ص: 245). .
ويُكرَهُ للمرأةِ رَفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ مخافةَ الفتنةِ بها؛ ولهذا لا يُسَنُّ لها أذانٌ ولا إقامةٌ، والمسنونُ لها في التَّنبيهِ في الصَّلاةِ التَّصفيقُ دونَ التَّسبيحِ [3636] ((المغني)) لابن قدامة (5/ 160). ، وكأنَّ مَنعَ النِّساءِ من التَّسبيحِ؛ لأنَّها مأمورةٌ بخَفضِ صَوتِها في الصَّلاةِ مُطلقًا؛ لِما يُخشى من الافتتانِ [3637] ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 77). ، وقال أحمدُ: (ينبغي للمرأةِ أن تخفِضَ من صوتِها إذا كانت في قراءتِها إذا قرأَت باللَّيلِ) [3638] ((الإنصاف)) للمرداوي (20/ 58). .

انظر أيضا: