موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


- عن محمَّدِ بنِ زيادٍ الألهانيِّ، عن أبي أُمامةَ الباهليِّ قال -ورأى سِكَّةً [3429] السِّكَّةُ: الحديدةُ التي يُحرَثُ بها. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (4/ 148). وشيئًا من آلةِ الحَرثِ-: فقال: سمعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يدخُلُ هذا بيتَ قومٍ إلَّا أدخَله الذُّلَّ)) [3430] رواه البخاري (2321). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (قال المهلَّبُ: معنى هذا الحديثِ -واللَّهُ أعلمُ- الحضُّ على معالي الأحوالِ، وطلَبِ الرِّزقِ من أشرَفِ الصِّناعاتِ، لما خشيَ النَّبيُّ على أمَّتِه من الاشتغالِ بالحَرثِ، وتضييعِ رُكوبِ الخيلِ، والجِهادِ في سبيلِ اللَّهِ؛ لأنَّهم إن اشتغلوا بالحرثِ غلبَتْهم الأمَمُ الرَّاكبةُ للخيلِ المتعيِّشةِ من مكاسِبِها، فحضَّهم على التَّعيُّشِ من الجهادِ لا من الخلودِ إلى عمارةِ الأرضِ ولزومِ المهنةِ، والوقوعِ بذلك تحت أيدي السَّلاطينِ وركَّابِ الخيلِ؛ ألا ترى أنَّ عُمَرَ قال: «تمَعْدَدوا [3431] تمَعدَدوا: أي تشَبَّهوا بعَيشِ مَعَدٍّ، وكانوا أهلَ قَشفٍ وغِلظٍ في المعاشِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 202). ، واخشَوْشِنوا [3432] اخشَوشِنوا: هو من الخشونةِ في اللِّباسِ والمطعَمِ. يُنظَر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/326). ، واقطَعوا الرُّكُبَ [3433] الرُّكُبُ، وهو ما يَضَعُ الرَّاكِبُ على البعيرِ رِجْلَه فيه ويعتَمِدُ به عليه عِندَ رُكوبِه. يُنظَر: ((تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم)) للميورقي (ص: 200). ، وثِبُوا على الخَيلِ وَثبًا [3434] أراد منهم ألَّا يعتادوا الاعتمادَ على الرُّكُبِ؛ لأنَّه قد يكونُ الأمرُ أعجلَ من ذلك. يُنظَر: ((تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم)) للميورقي (ص: 200). ، لا يَغلِبْكم عليها رعاةُ الإبِلِ»، أي: دعوا التَّمَلُّكَ والتَّدَلُّلَ بالنِّعمةِ، وخذوا أخشَنَ العيشِ؛ لتتعلَّموا الصَّبرَ فيه، فأمَرهم بملازمةِ الخَيلِ والتَّدريبِ عليها والفُروسيَّةِ؛ لئلَّا تملِكَهم الرُّعاةُ الذين شأنُهم خشونةُ العَيشِ، ورياضةُ أبدانِهم بالوُثوبِ على الخيلِ، وقد رأينا عاقبةَ وصيَّتِه في عصرِنا هذا، بمَيلِنا إلى الرَّاحةِ والنِّعمةِ. قال المؤلِّفُ: فمَن لَزِم الحرثَ وغَلَب عليه، وضَيَّع ما هو أشرَفُ منه، لزِمَه الذُّلُّ، كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويلزَمُه الجفاءُ في خُلُقِه لمخالطتِه من هو كذلك.... فمن شأنِ ملازمةِ هذه المِهَنِ توليدُ ما ذُكِر من هذه الصِّفاتِ، ومن الذُّلِّ الذي يلزَمُ من اشتغل بالحَرثِ ما ينوبُه من المؤنةِ بخراجِ الأرَضينَ) [3435] ((شرح صحيح البخاري)) (6/486). .
- عن تميمٍ الدَّاريِّ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يترُكُ اللَّهُ بيتَ مَدَرٍ [3436] مَدَر: الطِّينُ الصُّلبُ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/ 69). ولا وَبَرٍ [3437] الوَبَرُ: صوفٌ أو شَعرٌ. يُنظَر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفورى (6/ 419). إلَّا أدخله اللَّهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ به الكُفرَ)). وكان تميمٌ الدَّاريُّ يقولُ: قد عرَفْتُ ذلك في أهلِ بيتي، لقد أصاب من أسلَمَ منهم الخَيرَ والشَّرَفَ والعِزَّ، ولقد أصاب من كان منهم كافِرًا الذُّلَّ والصَّغارَ والجِزيةَ [3438] رواه أحمد (16957) واللفظ له، والطبراني (2/58) (1280)، والحاكم (8326). صحَّحه الحاكمُ على شرط الشيخين، وصحَّح إسنادَه على شرط مسلم: شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16957)، وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (158): (على شرطِ مسلمٍ، وله شاهدٌ على شرطِ مُسلمٍ أيضًا)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/17): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. .
المَدَرُ: جمعُ مَدَرةٍ بوَزنِ شَجَرةٍ، وهو اللَّبِنُ الذي تُتَّخَذُ منه بيوتُ المُدُنِ والقُرى، (والوَبَرُ) وهو شَعرُ الإبِلِ الذي يُتَّخَذُ منه ومِن نحوه الخيامُ بُيوتًا لسُكَّانِ البوادي، والمعنى أنَّ دينَ الإسلامِ يبلغُ جميعَ سُكَّانِ الأمصارِ والقرى والبوادي، قَولُه ((بعِزِّ عزيزٍ)) أي: بعِزِّ شخصٍ عزيزٍ، أي: يُعِزُّه اللَّهُ تعالى بكَلِمةِ الإسلامِ حيثُ قَبِلَها بغيرِ سَبيٍ أو قتالٍ، وقَولُه: ((أو بذُلِّ ذليلٍ)) أي: يُذِلُّه اللَّهُ تعالى بها، أي: بسَبَبِ إبائِها بذُلِّ سَبيٍ أو قتالٍ حتَّى ينقادَ إليها طَوعًا أو كَرهًا [3439] ((الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني)) للساعاتي (1/ 90). .
وعن المقدادِ بنِ الأسوَدِ، يقولُ: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يبقى على ظَهرِ الأرضِ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللَّهُ كَلِمةَ الإسلامِ، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ، إمَّا يُعِزُّهم اللَّهُ فيجعَلُهم من أهلِها، أو يُذِلُّهم فيَدينون لها)) [3440] أخرجه أحمد (23814)، وابن حبان (6699)، والطبراني (20/255) (601). صحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1142)، وصحَّح إسنادَه الألباني في تخريج ((هداية الرواة)) (39) وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((المسند)) (23814). .
قال المباركفوريُّ: ("وذُلِّ" بضمِّ الذَّالِ "ذليلٍ" أي: أو يُذِلُّه اللَّهُ بها -كَلِمةِ الإسلامِ- حيثُ أباها، بذُلِّ سبيٍ أو قتالٍ، حتى ينقادوا لها طوعًا أو كرهًا، أو يُذعِنَ لها ببَذلِ الجِزيةِ، والحديثُ مُقتَبَسٌ من قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، ثمَّ فسَّر العِزَّ والذُّلَّ بقولِه: إمَّا يُعِزُّهم اللَّهُ أو يُذِلُّهم «فَيدينون لها» بفتحِ الياءِ، أي: فيطيعون وينقادون لها، مِن دان النَّاسُ، أي: ذلُّوا وأطاعوا) [3441] ((مرعاة المفاتيح)) (1/113، 114) برقم (42). .
وقال الألبانيُّ: (ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ تحقيقَ هذا الانتشارِ يستلزِمُ أن يعود المسلمون أقوياءَ في معنويَّاتِهم ومادِّيَّاتِهم وسلاحِهم؛ حتى يستطيعوا أن يتغلَّبوا على قوى الكُفرِ والطُّغيانِ) [3442] ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/32) برقم (3). .
- عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: سمِعتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا ضَنَّ النَّاسُ [3443] ضَنَّ النَّاسُ: بخِلوا. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 261). بالدِّينارِ والدِّرهَمِ، وتبايعوا بالعِينةِ [3444] العِينةُ: أن يشتريَ الشَّيءَ بأكثَرَ من ثمنِه إلى أجَلٍ، ثمَّ يبيعُه منه أو من غيرِه بأقَلَّ ممَّا اشتراه. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (10/141). ، وتَبِعوا أذنابَ البَقَرِ [3445] تبعوا أذنابَ البَقَرِ: المرادُ الاشتغالُ بالحَرثِ. يُنظَر: ((نيل الأوطار)) للشوكاني (5/246). ، وتركوا الجهادَ في سبيلِ اللَّهِ؛ سلَّط اللَّهُ عليهم ذلًّا لا يرفَعُه حتَّى يراجِعوا دينَهم)) [3446]رواه من طرق: أبو داود (3462) مختصَرًا، وأحمد (4825) واللفظ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3462)، وفي ((صحيح الجامع)) (675)، وحسَّنه لغيره ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (504)، وحسَّنه بمجموع طرقه الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (559)، وصحَّح إسنادَه الطبري في ((مسند عمر)) (1/108)، وابن تيمية في ((بيان الدليل)) (109)، وابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (3/143)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7/27). .
قولُه: ("سلَّط اللَّهُ عليهم ذُلًّا" أي: صَغارًا ومَسكنةً... وسَبَبُ هذا الذُّلِّ -واللَّهُ أعلمُ- أنَّهم لمَّا تركوا الجهادَ في سبيلِ اللهِ الذي فيه عزُّ الإسلامِ وإظهارُه على كُلِّ دينٍ؛ عاملهم اللهُ بنقيضِه، وهو المذَلَّةُ حينَ تركوا ما فيه عزُّ الإسلامِ، والرُّكوبَ على الخَيلِ التي ظهورُها عِزٌّ، واشتغلوا بالمشيِ خَلْفَ أذنابِ البَقَرِ والسِّكَّةِ التي هي سَبَبُ الذُّلِّ. "لا ينزِعُه" أي: لا يرفعُه عنكم... "حتى ترجِعوا إلى دينِكم" أي: إلى ما فيه قِوامُ دينِكم من الاشتغالِ بالمكاسِبِ؛ لأن صاحِبَ الدِّرهَمِ إذا تمكَّن من الرِّبحِ الكبيرِ بواسطةِ المعاملةِ بالعِينةِ، خفَّ عليه اكتسابُ وَجهِ المعيشةِ، فلا يكادُ يتحمَّلُ مشَقَّةَ التَّكسُّبِ والتِّجارةِ والصِّناعاتِ الشَّاقَّةِ، وذلك يُفضي إلى انقِطاعِ منافِعِ الخَلقِ.
ومن المعلومِ أنَّ مصالحَ العالَمِ لا تنتَظِمُ إلَّا بالتِّجاراتِ، وتقلُّبِ المالِ في أيدي ملَّاكِه، الذي هو سَبَبٌ للبرَكَةِ...) [3447] ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (14/ 382). .

انظر أيضا: