موسوعة الأخلاق والسلوك

حادِيَ عَشَرَ: حُكمُ الإيثارِ


قال ابنُ عُثَيمين: (الإيثارُ ينقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: القِسمُ الأوَّلُ: ممنوعٌ، والثَّاني: مكروهٌ أو مباحٌ، والثَّالِثُ: مباحٌ.
أمَّا الممنوعُ فهو أن تُؤثِرَ غَيرَك بما يجِبُ عليك شرعًا؛ فإنَّه لا يجوزُ أن تُقَدِّمَ غيرَك فيما يجِبُ عليك شرعًا.
ومثالُه: إذا كان معك ماءٌ يكفي لوُضوءِ رجُلٍ واحدٍ، وأنت لسْتَ على وُضوءٍ، وهناك صاحِبٌ لك ليس على وُضوءٍ، فالماءُ لك، لكِنْ إمَّا أن يتوضَّأَ به صاحِبُك وتتيمَّمَ أنت، أو تتوضَّأَ أنت ويتيمَّمَ صاحِبُك، ففي هذه الحالِ لا يجوزُ أن تُعطيَه الماءَ وتتيمَّمَ أنت؛ لأنَّك واجِدٌ للماءِ، والماءُ في مِلْكِك، ولا يجوزُ العُدولُ عن الماءِ إلى التَّيمُّمِ إلَّا لعادِمٍ؛ فالإيثارُ في الواجباتِ الشَّرعيَّةِ حرامٌ ولا يحِلُّ؛ لأنَّه يستلزِمُ إسقاطَ الواجِبِ عليك.
وأمَّا القِسمُ الثَّاني: وهو المكروهُ أو المباحُ: فالإيثارُ بالأمورِ المُستَحبَّةِ، وقد كَرِهه بعضُ أهلِ العِلمِ وأباحه بعضُهم، لكِنْ تَرْكُه أولى -لا شَكَّ- إلَّا لمصلحةٍ.
ومثالُه: أن تُؤثِرَ غَيرَك في الصَّفِّ الأوَّلِ الذي أنت فيه، مِثلُ أن تكونَ أنت في الصَّفِّ الأوَّلِ في الصَّلاةِ، فيَدخُلَ إنسانٌ، فتقومَ عن مكانِك وتُؤثِرَه به، فقد كَرِه أهلُ العِلمِ هذا، وقالوا: إنَّ هذا دليلٌ على أنَّ الإنسانَ يَرغَبُ عن الخيرِ، والرَّغبةُ عن الخيرِ مكروهةٌ؛ إذ كيف تُقَدِّمُ غيرَك إلى مكانٍ فاضِلٍ أنت أحَقُّ به منه؟!
وقال بعضُ العُلَماءِ: تَركُه أَولى إلَّا إذا كان فيه مصلحةٌ، كما لو كان أبوك وتخشى أن يقَعَ في قَلبِه شَيءٌ عليك، فتُؤثِرُه بمكانِك الفاضِلِ؛ فهذا لا بأسَ به.
القِسمُ الثَّالِثُ: وهو المباحُ: وهذا المُباحُ قد يكونُ مُستحَبًّا، وذلك أن تُؤثِرَ غيرَك في أمرٍ غَيرِ تعبُّديٍّ، أي: تؤثِرَ غَيرَك وتُقَدِّمَه على نفسِك في أمرٍ غيرِ تَعَبُّديٍّ.
مثلُ: أن يكونَ معك طعامٌ وأنت جائِعٌ، وصاحِبٌ لك جائِعٌ مِثْلَك، ففي هذه الحالِ إذا آثَرْتَه فإنَّك محمودٌ على هذا الإيثارِ؛ لقولِ اللهِ تبارك وتعالى في وَصفِ الأنصارِ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9] ، ووَجهُ إيثارِهم على أنفُسِهم أنَّ المُهاجِرين لَمَّا قَدِموا المدينةَ تلقَّاهم الأنصارُ بالإكرامِ والاحترامِ والإيثارِ بالمالِ، حتَّى إنَّ بعضَهم يقولُ لأخيه المهاجِريِّ: إنْ شِئتَ أن أتنازَلَ عن إحدى زوجتَيَّ لك فعَلْتُ! يعني: يُطَلِّقُها فيتزَوَّجُها المهاجِريُّ بَعدَ مُضِيِّ عِدَّتِها. وهذا من شِدَّةِ إيثارِهم رَضِيَ اللهُ عنهم لإخوانِهم المهاجِرين) [1124] ((شرح رياض الصالحين)) (3/416-418). .
وذكَر ابنُ القَيِّمِ أنَّ الإيثارَ المحمودَ الذي أثنى اللهُ على فاعِلِه هو الإيثارُ بالدُّنيا لا بالوَقتِ والدِّينِ وما يعودُ بصلاحِ القَلبِ؛ فكَمالُ الإيثارِ أن تُؤثِرَ الخَلقَ على نَفسِك بما لا يُضيعُ عليك وقتًا، ولا يُفسِدُ عليك حالًا، ولا يَهضِمُ لك دِينًا، ولا يَسُدُّ عليك طريقًا، ولا يمنَعُ لك واردًا، فإن كان في إيثارِهم شيءٌ من ذلك، فإيثارُ نَفسِك عليهم أَولى؛ فإنَّ الرَّجُلَ مَن لا يُؤثِرُ بنصيبِه من اللهِ أحدًا كائنًا مَن كان [1125] طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 298). .

انظر أيضا: