موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


الحَسَدُ أوَّلُ ذَنبٍ عُصِيَ اللَّهُ به:
يقالُ: الحَسَدُ أوَّلُ ذَنبٍ عُصِيَ اللَّهُ به في السَّماءِ، وأوَّلُ ذَنبٍ عُصِيَ به في الأرضِ؛ فأمَّا في السَّماءِ فحَسَدُ إبليسَ لآدَمَ، وأمَّا في الأرضِ فحَسَدُ قابيلَ لهابيلَ [2729] ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/250). .
علاماتُ الحاسِدِ:
قال الجاحِظُ: (وما لَقِيتَ حاسِدًا قَطُّ إلَّا تبيَّن لك مكنونُه بتغَيُّرِ لونِه، وتخوُّصِ عينِه، وإخفاءِ سلامِه، والإقبالِ على غيرِك، والإعراضِ عنك، والاستِثقالِ لحديثِك، والخلافِ لرأيِك) [2730] ((الرسائل)) (3/8، 9). .
وكان يقالُ: من علاماتِ الحَسودِ: أن يتمَلَّقَ الرَّجُلَ إذا حضَر، ويغتابَه إذا غاب، ويَشمَتَ بالمصيبةِ إذا نَزَلت [2731] ((الفاضل)) (ص: 100). .
مَن يَقَعُ بَيْنَهم الحَسَدُ:
الغالِبُ أنَّ الحَسَدَ لا يقَعُ إلَّا بَيْنَ المُشتَرِكينِ في فضيلةٍ من الفضائِلِ أو في شيءٍ من الأسبابِ الدُّنيويَّةِ، فلا يحسُدُ الفقيهُ النَّحويَّ، ولا التَّاجِرُ الجَمَّالَ، ولا الصَّانِعُ البَقَّالَ، ولا يُتصَوَّرُ الحَسَدُ لمحبوبٍ؛ لأنَّ المحِبَّ يتمَنَّى زيادةَ النِّعَمِ للمحبوبِ، ولا يتمنَّى زوالَ النِّعَمِ عنه [2732] ((مقاصد الرعاية لحقوق الله عزَّ وجَلَّ)) للعز بن عبد السلام (ص: 152، 153). .
من أخبارِ التَّحاسُدِ:
- كان الخليفةُ النَّاصِرُ الأندَلُسيُّ قد وشَّح ابنَه الحَكَمَ، وجعَلَه وليَّ عهدِه، وآثَره على جميعِ وَلَدِه، ودفع إليه كثيرًا من التَّصرُّفِ في دولتِه، فحَسَده أخوه عبدُ اللَّهِ، فأضمَر في نفسِه الخروجَ على أبيه، وتحدَّث مع مَن داخَله شيءٌ من أمرِ الحَكَمِ من رجالاتِ أبيه، فأجابه بعضُهم، ثمَّ إنَّ الخَبَرَ بلَغ الخليفةَ النَّاصِرَ، فاستكشَفَ أمْرَهم، وقَبَض على ابنِه عبدِ اللَّهِ وعلى جميعِ مَن معه، وقتَلَهم أجمعينَ سَنةَ ثلاثٍ وتسعينَ وثلاثِمائةٍ [2733] ((ديوان المبتدأ والخبر)) لابن خلدون (4/184). .
- كان جَنْكيز خان سَنَّ لقومِه الياسقَ يتحاكَمون إليه، وقرَّر فيه قَتلَ مَن رَعَفَ وسال منه الدَّمُ وهو يأكُلُ، وقَرَّر لهم أنَّ مَن لم يُمضِ حُكمَ الياسقَ قُتِل، وأراد أن يَقتُلَ بعضَ مَن حولَه مِن كبارِ قَومِه للتَّحاسدِ الذي يظهَرُ منهم، فتركهم يومًا وهم على سِماطِه ورَعَف نفسَه، فلم يجسُرْ أحَدٌ أن يُمضيَ فيه حُكمَ الياسقَ لمهابتِه وجبَروتِه، فتركوه ولم يطالِبوه بما قرَّره، وهابوه في ذلك، فتركهم أيَّامًا، ثمَّ جمع مُقَدَّميهم وأُمَراءَهم، وقال: لأيِّ شيءٍ ما أمضيتُم فيَّ حُكمَ الياسقِ، وقد رَعَفْتُ وأنا آكُلُ بينكم؟! قالوا: لم نجسُرْ على ذلك! فقال: لم تعمَلوا بالياسقِ ولا أمضَيتُم أمرَه، وقد وجَبَ قَتْلُكم، فقتَلَهم أجمعين [2734] ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (11/153). !
من نوادِرِ التَّحاسُدِ:
قال الشَّعبيُّ: (وجَّهَني عبدُ المَلِكِ إلى مَلِكِ الرُّومِ، فلمَّا انصَرَفتُ دفَع إليَّ كتابًا مختومًا، فلمَّا قرأه عبدُ المَلِكِ رأيتُه تغَيَّرَ، وقال: يا شَعبيُّ، أعلِمْتَ ما كَتَب هذا الكَلبُ؟! قلتُ: لا، قال: إنَّه كَتَب: لم يكُنْ للعَرَبِ أن تُمَلِّكَ إلَّا مَن أرسَلْتَ به إليَّ؟ فقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنين، إنَّه لم يَرَك، ولو رآك لكان يَعرِفُ فَضْلَك، وإنَّه حَسَدك على استخدامِك مِثلي! فسُرِّيَ عنه) [2735] ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (1/318). .
وقال الأصمَعيُّ: (كان رجُلٌ من أهلِ البَصرةِ بذيئًا شِرِّيرًا، يؤذي جيرانَه ويَشتِمُ أعراضَهم، فأتاه رجُلٌ فوعَظَه، فقال له: ما بالُ جيرانِك يشكونك؟ قال: إنَّهم يحسُدونني! قال له: على أيِّ شيءٍ يحسُدونَك؟ قال: على الصَّلبِ! قال: وكيف ذاك؟! قال: أقبِلْ معي. فأقبَلَ معه إلى جيرانِه، فقَعَد مُتحازِنًا، فقالوا له: ما لك؟ قال: طَرَق اللَّيلةَ كتابُ معاويةَ: أنِّي أُصلَبُ أنا ومالِكُ بنُ المُنذِرِ وفُلانٌ وفلانٌ، فذكَر رجالًا من أشرافِ أهلِ البصرةِ، فوثبوا عليه، وقالوا: يا عدُوَّ اللَّهِ، أنت تُصلَبُ مع هؤلاء، ولا كرامةَ لك؟! فالتَفتَ إلى الرَّجُلِ فقال: أمَا تراهم قد حَسَدوني على الصَّلبِ! فكيف لو كان خيرًا؟!) [2736] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/175، 176). .
تحاسُدُ بعضِ طلَبةِ العِلمِ والأقرانِ:
قد يجُرُّ التَّنافُسُ بَيْنَ بعضِ طَلَبةِ العِلمِ إلى الوقوعِ في بعضِ التَّحاسُدِ؛ قال الذَّهبيُّ: (كلامُ الأقرانِ بعضِهم في بعضٍ لا يُعبَأُ به، لا سيَّما إذا لاح لك أنَّه لعَداوةٍ أو لمذهَبٍ أو لحسَدٍ، وما ينجو منه إلَّا مَن عَصَم اللَّهُ، وما عَلِمتُ أنَّ عصرًا من الأعصارِ سَلِم أهلُه من ذلك سوى الأنبياءِ والصِّدِّيقين، ولو شِئتُ لسَرَدتُ من ذلك كراريسَ، اللَّهُمَّ فلا تجعَلْ في قُلوبِنا غِلًّا للذين آمنوا، ربَّنا إنَّك رؤوفٌ رحيمٌ) [2737] ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/111). .
وذكَر الغزاليُّ حالَ بعضِ أولئك الحَسَدةِ، فقال: (واحذَرْ مخالطةَ مُتفَقِّهةِ الزَّمانِ، لا سِيَّما المشتَغِلين بالخِلافِ والجِدالِ، واحذَرْ منهم؛ فإنَّهم يتربَّصون بك- لحسَدِهم- رَيبَ المنونِ، ويقطَعون عليك بالظُّنونِ، ويتغامَزون وراءك بالعُيونِ، ويُحصون عليك عَثَراتِك في عِشرتِهم، حتَّى يجابِهوك بها في حالِ غَيظِهم ومناظرتِهم، لا يُقيلون لك عَثرةً، ولا يَغفِرون لك زَلَّةً، ولا يَستُرون لك عَورةً، يحاسِبونك على النَّقيرِ [2738] النَّقيرُ: النُّكتةُ في ظَهرِ النَّواةِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 514). ، والقِطْميرِ [2739] القِطْميرُ: القِشرةُ الرَّقيقةُ على النَّواةِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 514). ، ويحسُدونك على القليلِ والكثيرِ، ويُحرِّضون عليك الإخوانَ بالنَّميمةِ والبلاغاتِ والبُهتانِ، إن رَضُوا فظاهِرُهم المَلَقُ [2740] المَلَقُ: الوُدُّ واللُّطفُ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 298). ، وإن سَخِطوا فباطِنُهم الحَنَقُ [2741] الحَنَقُ: الغيظُ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 83). ، ظاهِرُهم ثيابٌ، وباطِنُهم ذئابٌ. هذا ما قطَعَت به المشاهدةُ على أكثَرِهم، إلَّا مَن عصَمه اللَّهُ تعالى؛ فصُحبتُهم خُسرانٌ، ومعاشرتُهم خِذلانٌ. هذا حُكمُ من يُظهِرُ لك الصَّداقةَ، فكيف مَن يجاهِرُك بالعَداوةِ؟!) [2742] ((بداية الهداية)) للغزالي (68، 69). .
وقد نهى العُلَماءُ عن الخَوضِ في أهلِ العِلمِ بلا برهانٍ واضِحٍ وبَيِّنةٍ ساطعةٍ؛ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (لا يُقبَلُ فيمن صَحَّت عدالتُه، وعُلِمَت بالعِلمِ عنايتُه، وسَلِم من الكبائِرِ، ولَزِم المروءةَ والتَّصاوُنَ [2743] تصاوَنَ: تكَلَّفَ صيانةَ نفسِه، ومن المعايبِ ونحوِها: وقى نفسَه منها. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (1/530). ، وكان خيرُه غالبًا، وشَرُّه أقَلَّ عَمَلِه، فهذا لا يُقبَلُ فيه قولُ قائِلٍ لا برهانَ له به، وهذا هو الحَقُّ الذي لا يَصِحُّ غيرُه إن شاء اللَّهُ، قال أبو العتاهيةِ:
بكى شَجْوَه [2744] بكى شَجْوَه: بكى حُزنَه. يُنظَر: ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) لأبي بكر الأنباري (1/ 346). الإسلامُ من عُلَمائِهِ
فما اكتَرَثوا لِما رأوا من بُكائِهِ
فأكثَرُهم مُستقبِحٌ لصوابِ مَن
يخالِفُه مُستحسِنٌ لخَطائِهِ
فأيُّهُمُ المَرجوُّ فينا لدينِهِ
وأيُّهم الموثوقُ فينا برأيِهِ) [2745] ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/1113). .
شَرُّ الحَسَدِ:
شَرُّ الحَسَدِ: الحَسَدُ على معاصي اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، وهو أن يتمنَّى أن يتمكَّنَ من المعاصي التي يفعَلُها غيرُه [2746] ((مقاصد الرعاية لحقوق الله عزَّ وجَلَّ)) للعز بن عبد السلام (ص: 152). .
ليس من الحَسَدِ:
ليس من الحَسَدِ ألَّا ينالَ غيرُه خيرًا من خُيورِ الدُّنيا والآخرةِ؛ لأنَّ الحَسَدَ مخصوصٌ بما حَصَل من النِّعَمِ [2747] ((مقاصد الرعاية لحقوق الله عزَّ وجَلَّ)) للعز بن عبد السلام (ص: 152). .
وجودُ النِّعمةِ مَظِنَّةُ الحَسَدِ:
قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: (ما كانت على أحَدٍ نِعمةٌ إلَّا كان لها حاسِدٌ) [2748] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/406). .

انظر أيضا: