موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: أقسامُ الجِدالِ


ينقَسِمُ الجِدالُ إلى قِسمَينِ:
1- الجِدالُ المحمودُ:
وهو الذي يكونُ الغَرَضُ منه تقريرَ الحَقِّ وإظهارَه بإقامةِ الأدِلَّةِ والبراهينِ على صِدقِه، وقد جاءت نصوصٌ تأمُرُ بهذا النَّوعِ من الجِدالِ، وقد أمَر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا الجِدالِ في قَولِه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ، وقال جلَّ في عُلاه: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 46] .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جاهِدوا المُشرِكين بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم)) [2358] رواه أبو داود (2504)، وأحمد (12246) واللفظ لهما، والنسائي (3096) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4708)، وابن حزم في ((أصول الأحكام)) (1/27)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (114). .
وقد حصَل هذا النَّوعُ من الجِدالِ بَيْنَ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما وبينَ الخوارجِ زَمَنَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ بأمرِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، فأقام عليهم الحُجَّةَ وأفحَمَهم، فرَجَع عن هذه البِدعةِ خَلقٌ كثيرٌ كما سيأتي. وكذلك مُجادَلةُ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ للمُعتَزِلةِ [2359] ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/365). ، ومجادَلاتُ ابنِ تَيميَّةَ لأهلِ البِدَعِ [2360] ومنها: الرَّدُّ على الإخنائيِّ. يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (27/214-255). .
2- الجِدالُ المذمومُ:
هو الجِدالُ الذي يكونُ غَرَضُه تقريرَ الباطِلِ بعدَ ظُهورِ الحَقِّ، وطَلَبَ المالِ والجاهِ، وقد جاءت الكثيرُ من النُّصوصِ والآثارِ التي حذَّرت من هذا النَّوعِ من الجِدالِ ونهَت عنه، ومن هذه النُّصوصِ:
قَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] .
وقَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج: 8] .
وقَولُه سُبحانَه: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر: 4] .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المِراءُ في القُرآنِ كُفرٌ)) [2361] أخرجه من طُرُقٍ: أبو داود (4603)، وأحمد (9479) واللفظ لهما، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8093) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (1464)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2/243)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4603)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7848)، وحسَّنه ابنُ القَيِّم في ((تهذيب السنن)) (12/353). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (المُجادَلةُ والمناظَرةُ نوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: مُجادَلةُ مُماراةٍ: يماري بذلك السُّفَهاءَ، ويجاري العُلَماءَ، ويريدُ أن ينتَصِرَ قَولُه؛ فهذه مذمومةٌ.
النَّوعُ الثَّاني: مُجادَلةٌ لإثباتِ الحَقِّ وإن كان عليه؛ فهذه محمودةٌ مأمورٌ بها) [2362] ((العلم)) (ص: 164). .
وقال الكَرْمانيُّ: (الْجِدَالُ هو المخاصَمةُ والمُدافَعةُ، ومنه قبيحٌ وحَسَنٌ؛ فما كان لتبيينِ الحقِّ من الفَرائِضِ مثلًا فهو أحسَنُ، وما كان له من غيرِ الفرائضِ فهو حَسَنٌ، وما كان لغيرِه فهو قبيحٌ، أو هو تابعٌ للطَّريقِ، فباعتبارِه يتنوَّعُ أنواعًا، وهذا هو الظَّاهِرُ) [2363] ((الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)) (25/ 74). .
وقال الكَرْمانيُّ أيضًا: (الجِدالُ: هو الخِصامُ، ومنه قبيحٌ وحَسَنٌ وأحسَنُ؛ فما كان للفرائِضِ فهو أحسَنُ، وما كان للمُستحَبَّاتِ فهو حَسَنٌ، وما كان لغيرِ ذلك فهو قبيحٌ) [2364] قال الحافظُ تعليقًا على كلامِه: (ويلزَمُ على الأوَّلِ أن يكونَ في المباحِ قبيحًا، وفاته تنويعُ القبيحِ إلى أقبَحَ، وهو ما كان في الحرامِ). ((فتح الباري)) (13/314). .
وقال أبو الوليدِ الباجيُّ: (كُلُّ مَن ذَمَّ الجَدَلَ من السَّلَفِ إنَّما ذَمَّه على أحَدِ وَجهَينِ:
 إمَّا أن يَذُمَّ جَدَلَ مَن نَصَر باطِلًا ودعا إلى ضلالةٍ، أو جَدَلَ مَن لا عِلمَ له بذلك، فلا يحِلُّ أن يتعَرَّضَ له ولا يناظِرَ أهلَ البِدَعِ لأحَدِ أمرَينِ ممنوعَينِ، وربَّما اجتمعا له:
أحدُهما: أنَّه يُظهِرُ باطِلَهم على حَقِّه.
والثَّاني: أنَّه ربَّما وقعَت في نفسِه شُبهةٌ ليس عندَه من العِلمِ ما يَرُدُّها به، فتُضِلُّه) [2365] ((سنن الصالحين وسنن العابدين)) (ص: 484، 485). .

انظر أيضا: