موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيتان (3-4)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

مَرِيدٍ: أي: مُتَمَرِّدٍ خارجٍ عن الطَّاعةِ، مُتجرِّدٍ للفَسادِ، وأصلُ (مرد): يدُلُّ على تجريدِ الشَّيءِ مِن قِشرِه، أو ما يَعلوه مِن شَعرِه [49] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/317)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
السَّعِيرِ: السعيرُ اسْمٌ مِن أسماءِ جَهَنَّمَ، يُقال: سَعرْتُ النَّارَ، إذا ألهَبْتَها، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه وارتِفاعِه [50] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 259)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 411)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 163)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى: ومِن النَّاسِ مَن يجادِلُ في دينِ اللهِ وفي قُدرته تعالى على البَعثِ، مِن غيرِ علمٍ، ويتَّبِعُ كُلَّ شَيطانٍ طاغٍ مُتَمَرِّدٍ على اللهِ ورُسُلِه. قضى اللهُ وقدَّر أنَّ ذلك الشَّيْطانَ يُضِلُّ كُلَّ مَن اتَّبَعه، ولا يَهديه إلى الحَقِّ، بل يَسوقُه إلى عذابِ جَهنَّمَ المُوقَدةِ؛ جَزاءَ اتِّباعِه إيَّاه.

تفسير الآيتين:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى بيَّن أنَّه معَ هذا التحذيرِ الشَّديدِ بذِكرِ زلزلةِ الساعةِ وشدائدِها، فإنَّ مِن الناسِ مَن يجادلُ في الله بغيرِ علمٍ [51] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/202). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أهوالَ يَومِ القيامةِ؛ ذكَرَ مَن غَفَل عن الجزاءِ في ذلك اليومِ، وكذَّبَ به [52] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/483). .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: ومِنَ النَّاسِ صِنفٌ يجادِلُ في شأنِ اللهِ وفي دينِه بجَهلٍ، من غيرِ علمٍ صحيحٍ، جدلًا ناشئًا عن سوءِ نظرٍ، وسوءِ تفكيرٍ لإحقاقِ الباطلِ وإبطالِ الحقِّ، فينكرُ وحدانيَّةَ اللهِ وقدرتَه على إحياءِ الموتَى، ويُكذِّبُ ما جاءَتْ به رسلُه [53] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/459)، ((تفسير النسفي)) (2/427)، ((تفسير ابن كثير)) (5/394)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/192). .
 وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ.
أي: ويتَّبِعُ الجاهِلُ في جِدالِه في اللهِ بلا عِلمٍ كُلَّ شَيطانٍ عاتٍ طاغٍ مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ، مُتجَرِّدٍ مِنَ الخيرِ، مُتمَرِّدٍ على اللهِ، فيَقبَلُ وَسوَسَته، وينقادُ للعَمَلِ بها بلا تَفكيرٍ ولا ترَدُّدٍ [54] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/459)، ((البسيط)) للواحدي (15/251، 252)، ((تفسير ابن عطية)) (4/107)، ((تفسير القرطبي)) (12/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 533)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/192، 193)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/261). .
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4).
أي: قضَى اللهُ على الشَّيطانِ المتَمَرِّدِ وقدَّر أنَّ مَنِ اتَّخَذه وليًّا فأقبَلَ عليه واتَّبَعَه؛ فإنَّ الشَّيطانَ يُضِلُّه في الدُّنيا عن الحَقِّ، ويَدُلُّه إلى طريقِ النَّارِ المُوقَدةِ ويَدْعوه إليها، فيَسوقُه إلى عَذابِها بما يُزَيِّنُه له مِنَ الباطِلِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/459، 460)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 728)، ((تفسير ابن عطية)) (4/107)، ((تفسير ابن كثير)) (5/394)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/7، 8)، ((تفسير القاسمي)) (7/232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 533)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/193، 194)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/261). .

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ذَمٌّ لكلِّ مَن جادلَ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ، وهو دليلٌ على أنَّه جائزٌ بالعِلمِ، كما فَعَلَ إبراهيمُ بقَومِه [56] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/267). ، فهذه الآيةُ بمَفهومِها تدُلُّ على جوازِ المجادلةِ الحَقَّةِ؛ لأنَّ تخصيصَ المجادلةِ مع عدَمِ العلمِ بالدَّلائِلِ يدُلُّ على أنَّ المجادلةَ مع العلمِ جائزةٌ، فالمجادَلةُ الباطلةُ هي المرادُ مِن قَولِه: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف: 58] ، والمجادلةُ الحقَّةُ هي المرادُ مِن قَولِه: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [57] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/202).  [النحل: 125].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ بَيَّنَ سُبحانَه حالَ مَن يُجادِلُ في الدِّينِ بلا عِلمٍ، والعِلمُ: هو ما بَعَث اللهُ به رَسولَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو: السُّلطانُ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر: 56] ، فمَن تكَلَّمَ في الدِّينِ بغَيرِ ما بَعَث اللهُ به رَسولَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان متكَلِّمًا بغيرِ عِلمٍ [58] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/39). .
2- قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ هذا الذي يُجادِلُ في اللهِ قد جمَعَ بين ضَلالِه بنَفْسِه، وتصَدِّيهِ إلى إضلالِ النَّاسِ، وهو مُتَّبِعٌ ومُقَلِّدٌ لكُلِّ شَيطانٍ مَريدٍ، ظُلُماتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ! ويدخُلُ في هذا جُمهورُ أهلِ الكُفرِ والبِدَعِ؛ فإنَّ أكثَرَهم مُقَلِّدةٌ، يجادِلونَ بغيرِ عِلمٍ [59] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 533). .
3- قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ هذا حالُ أهلِ الضَّلالِ والبِدَعِ؛ المُعرِضينَ عن الحَقِّ، المتَّبِعينَ للباطِلِ، يَترُكونَ ما أنزَلَه اللهُ على رَسولِه مِنَ الحَقِّ المُبينِ، ويتَّبِعونَ أقوالَ رُؤوسِ الضَّلالةِ؛ الدُّعاةِ إلى البِدَعِ بالأهواءِ والآراءِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/394). .
4- قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ الكِتابةُ في هذه الآيةِ هي كِتابةٌ كَونيَّةٌ، ويُقابِلُها الكِتابةُ الشَّرعيَّةُ الأَمريَّةِ؛ كقَولِه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ، فالأُولى كِتابةٌ بمعنى القَدَرِ، والثَّانيةُ كِتابةٌ بمَعنى الأَمْرِ [61] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 281). .
5- عن مُضارِبِ بنِ إبراهيمَ، قال: (سألتُ الحُسَينَ بنَ الفَضلِ، فقُلتُ: إنَّك تُخرِجُ أمثالَ العَرَبِ والعَجَمِ مِنَ القُرآنِ، فهل تجِدُ في كتابِ اللهِ: «مَن أعان ظالِمًا سُلِّطَ عليه»؟ قال: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [62] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (4/48، 49). .
6- قَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ؛ إذ هو يقولُ جلَّ جَلالُه نصًّا مِن غَيرِ تأويلٍ: إنَّ الشَّيطانَ يُضِلُّ وَلِيَّه، ويَهدِيه إلى عذابِ السَّعيرِ بما كتَبَه عليه مِن ذلك [63] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/315). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ
- قولُه: وَمِنَ النَّاسِ  ... كَلامٌ مُبتدأٌ جِيءَ به بعدَ بَيانِ عَظيمِ شأْنِ السَّاعةِ المُنبئةِ عن البعثِ؛ بَيانًا لحالِ بَعضِ المُنكِرينَ لها [64] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/92). .
2- قَولُه تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
- قولُه: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ فيه التَّعبيرُ بلفْظِ الهِدايةِ على سَبيلِ التَّهكُّمِ [65] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/484). . ولمَّا كان الضَّلالُ مُشتهِرًا في معنى البُعْدِ عن الخيرِ والصَّلاح،ِ لم يُحْتَجْ في هذه الآيةِ إلى ذِكْرِ مُتعلِّقِ فِعْلِ يُضِلُّهُ؛ لظُهورِ المعنى. وذُكِرَ مُتعلِّقُ فِعْلِ يَهْدِيه، وهو: إلى عَذَابِ السَّعِيرِ؛ لأنَّ تَعلُّقَه به غريبٌ؛ إذِ الشَّأْنُ أنْ يكونَ الهُدى إلى ما يَنفَعُ، لا إلى ما يَضُرُّ ويُعذِّبُ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/195). .