موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: صُوَرُ التَّعسيرِ


للتَّعسيرِ صُوَرٌ كثيرةٌ؛ منها:
1- التَّعسيرُ على المَدينِ عِندَ تَأخُّرِه عن قَضاءِ الدَّينِ -لعَدَمِ مَقدِرَتِه- وعَدَمُ إنظارِه، ويخرُجُ مِن هذه الصُّورةِ: أن يكونَ المَدينُ قادِرًا على الإعطاءِ، ومَعَ ذلك يمتَنِعُ عن دَفعِ دَينِه، فيجوزُ للدَّائِنِ عِندَئِذٍ شِكايتُه لوليِّ الأمرِ-أو مَن ينوبُ عنه- لأخذِ مالِه عَنوةً؛ لذا قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَطلُ  الغَنيِّ ظُلمٌ)) [1743] رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- التَّعسيرُ في النَّفقةِ، وهي تَضييقُ الرَّجُلِ على أهلِه في النَّفقةِ، ولها حالَتانِ:
أوَّلًا: إذا كان هذا بغَيرِ اختيارِه فلا شَيءَ عليه، كما قال تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] .
ثانيًا: إذا كان هذا باختيارِه -مَعَ مَقدِرَتِه على الإنفاقِ عليهم بما يسُدُّ حاجَتَهم- فيحرُمُ عليه، كما قال تعالى: وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق: 6] .
3- التَّعسيرُ مَعَ الأجيرِ: بعَدَمِ إعطائِه حَقَّه كامِلًا أو ببَخسِه.
4- التَّعسيرُ على مَن أرادَ النِّكاحَ بالمُغالاةِ في المُهورِ، بل واشتِراطُ بَعضِ الشُّروطِ وكثرةُ الطَّلَباتِ والنَّفقاتِ التي تُرهِقُ كاهِلَ العَروسِ؛ مِمَّا يدفعُ الشَّبابَ للعُزوفِ عنِ النِّكاحِ.
5- تَعسيرُ وُلاةِ الأُمورِ على الرَّعيَّةِ، والتَّشديدُ عليهم في أُمورِ المَعيشةِ، وكثرةُ فَرضِ الضَّرائِبِ، وسَنُّ القَوانينِ التي تُضَيِّقُ عليهم. 
6- استِعمالُ الشِّدَّةِ في الدَّعوةِ والأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ؛ فالأمرُ بالمَعروفِ لا يكونُ إلَّا بالمَعروفِ، والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ يكونُ بغَيرِ مُنكَرٍ.
7- تَعسيرُ بَعضِ المُعَلِّمينَ على المُتَعَلِّمينَ، والعَكسُ:
قال مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الباقي البَزَّازُ: (يجِبُ على المُعَلِّمِ ألَّا يُعنِّفَ، وعلى المُتَعَلِّمِ ألَّا يأنَفَ) [1744] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (11/ 641)، ((الآداب الشرعية)) لابن مُفلِح (3/ 302). .
وقال الآجُرِّيُّ: (ينبَغي لمَن قُرِئَ عليه القُرآنُ فأخطَأ فيه القارِئُ أو غَلِطَ؛ ألَّا يُعنِّفَه، وأن يرفُقَ به، ولا يجفوَ عليه، ويَصبرَ عليه؛ فإنِّي لا آمَنُ أن يجفوَ عليه فينفِرَ عنه، وبالحَريِّ ألَّا يعودَ إلى المَسجِدِ) [1745] ((أخلاق حملة القرآن)) (ص: 87). .
وقال ابنُ مُفلِحٍ: (ينبَغي للمَشايِخِ الإحسانُ إليهم، والصَّبرُ على ما يكونُ مِنهم واللُّطفُ بهم؛ لئَلَّا يتَضاعَفَ ألَمُهم وهَمُّهم، فيضعُفَ الصَّبرُ، وتَحصُلَ النُّفرةُ عنِ العِلمِ، واستِحبابُ ذلك مِنَ الطَّلَبةِ أَولى بهم والأدَبُ والتَّلَطُّفُ وما يُعينُهم على المَقصودِ، وقد قال تعالى: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] ) [1746] ((الآداب الشرعية)) (1/ 224). .
وقال ابنُ حَجَرٍ مُعَلِّقًا على حَديثِ: ((يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا)): (والمُرادُ تَأليفُ مَن قَرُب إسلامُه، وتَركُ التَّشديدِ عليه في الابتِداءِ، وكذلك الزَّجرُ عنِ المَعاصي ينبَغي أن يكونَ بتَلَطُّفٍ ليَقبَلَ، وكذا تَعليمُ العِلمِ ينبَغي أن يكونَ بالتَّدريجِ؛ لأنَّ الشَّيءَ إذا كان في ابتِدائِه سَهلًا حُبِّبَ إلى مَن يدخُلُ فيه وتَلقَّاه بانبساطٍ، وكانت عاقِبَتُه غالبًا الازديادَ، بخِلافِ ضِدِّه) [1747] ((فتح الباري)) (1/ 163). .
وقال ابنُ خَلدونَ: (لشِّدَّةُ على المتعَلِّمين مُضِرَّةٌ بهم؛ وذلك أنَّ إرهافَ الحَدِّ بالتَّعليمِ مُضِرٌّ بالمتعَلِّمِ، سِيَّما في أصاغِرِ الوُلْدِ؛ لأنَّه من سوءِ المَلَكةِ، ومن كان مَرْباه بالعَسْفِ والقَهرِ من المتعَلِّمين أو المماليكِ أو الخَدَمِ، سَطا به القَهرُ وضَيَّق عن النَّفسِ في انبِساطِها، وذَهَب بنَشاطِها، ودعاه إلى الكَسَلِ وحَمَل على الكَذِبِ والخُبْثِ، وهو التَّظاهُرُ بغيرِ ما في ضَميرِه خوفًا من انبِساطِ الأيدي بالقَهرِ عليه، وعَلَّمَه المكرَ والخديعةَ لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقًا، وفسَدَت معاني الإنسانيَّةِ التي له) [1748] ((المقدمة)) (3/ 1119). .
8- التَّعسيرُ على المَأمومينَ بإطالةِ الصَّلَواتِ والخُطَبِ: 
وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ مِنكم مُنَفِّرينَ))، ("مُنَفِّرينَ": يعني: يُنَفِّرونَ النَّاسَ عن دينِ اللَّهِ بالتَّطويلِ الذي هو خارِجٌ عنِ السُّنَّةِ) [1749] ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 617) بتصرُّفٍ. .
وعن أبي وائِلٍ قال: (كان عبدُ اللَّهِ -هو ابنُ مسعودٍ- يُذَكِّرُ النَّاسَ في كُلِّ خميسٍ، فقال له رجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، لوَدِدْتُ أنَّك ذكَّرْتَنا كُلَّ يومٍ؟ قال: أمَا إنَّه يمنعُني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإنِّي أتخَوَّلُكم بالموعظةِ كما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتخَوَّلُنا بها مخافةَ السَّآمةِ علينا) [1750] أخرجه البخاري (70) واللفظ له، ومسلم (2821). .
9- مُخاطَبةُ النَّاسِ بما لا يتَحَمَّلونَه: كالاختِلافاتِ بَينَ الفُقَهاءِ، وأقوالِ المُتَكلِّمينَ في المُعتَقَداتِ، وغَيرِها مِنَ الأُمورِ التي قد لا يستَوعِبُها البَعضُ، أو يفهَمونَها على غَيرِ فهمِها الصَّحيحِ.
10- التَّكليفُ بما هو فوقَ الطَّاقةِ.
11- تَعسيرُ المَرءِ على نَفسِه: فرُبَّما يترُكُ الأخذَ بالرُّخصةِ، فيقَعُ في حَرَجٍ ومَشَقَّةٍ مُعسِّرًا على نَفسِه، مَعَ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه يُحِبُّ أن تُؤتى رُخَصُه، وقد رَفعَ عنَّا الحَرَجَ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .

انظر أيضا: