موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشِرًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


قِصَّةُ مُغيثٍ وبَريرةَ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ زَوجَ بَريرةَ كان عبدًا يُقالُ له مُغيثٌ كأنِّي أنظُرُ إليه يطوفُ خَلْفَها يبكي ودموعُه تسيلُ على لحيتِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعبَّاسٍ: يا عبَّاسُ، ألا تعجَبُ مِن حُبِّ مُغيثٍ بريرةَ، ومِن بُغضِ بَريرةَ مُغيثًا؟! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو راجَعْتِه! قالت: يا رسولَ اللَّهِ، تأمُرُني؟ قال: إنَّما أنا أشفَعُ، قالت: لا حاجةَ لي فيه [1277] أخرجه البخاري (5283). .
كانت بَريرةُ أمَةً وكانت متزَوِّجةً من مملوكٍ يُسَمَّى مُغيثًا، فعُتِقَت وصارت حُرَّةً، فأخبرها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّها بَعدَ عِتقِها بالخِيارِ بَيْنَ أن تبقى مع زوجِها أو تَفسَخَ النِّكاحَ، فالأمرُ إليها" فاختارت فَسخَ النِّكاحِ ففَسَخ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النِّكاحَ، فتأثَّر بذلك زوجُها تأثُّرًا شديدًا حتى جَعَل يَلحَقُها في أسواقِ المدينةِ يبكي من شِدَّةِ محبَّتِه لها، وهي رَضِيَ اللَّهُ عنها تُبغِضُه، فطَلَب من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَشفَعَ إليها، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمحًا حسَنَ الأخلاقِ، فشَفَع له إلى امرأتِه حتى ترجِعَ إليه، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، إن كُنتَ تأمُرُني فسَمعًا وطاعةً، فهي تُقَدِّمُ أمرَ اللَّهِ ورسولِه، فأخبرها النَّبيُّ أنَّه شافِعٌ، فقالت: لا حاجةَ لي فيه [1278] ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/ 383). .
وفي الحديثِ أنَّ أحَدَ الزَّوجينِ قد يُبغِضُ الآخَرَ ولا يُظهِرُ له ذلك [1279] ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 416). ، وفيه أنَّ الحُبَّ والبُغْضَ بَيْنَ الزَّوجينِ لا لَومَ فيه على أيِّهما [1280] ((البدر التمام شرح بلوغ المرام)) للمغربي (7/ 164). .
من أسبابِ التَّباغُضِ بَيْنَ البَشَرِ:
1- اختِلافُ الدِّينِ:
قال اللَّهُ تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] .
وقال: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22] .
2- التَّفَرُّقُ والاختلافُ:
قال ابنُ رجَبٍ: (ولمَّا كَثُر اختلافُ النَّاسِ في مسائِلِ الدِّينِ، وكَثُر تفَرُّقُهم، كَثُر بسَبَبِ ذلك تباغُضُهم وتلاعُنُهم، وكُلٌّ منهم يُظهِرُ أنَّه يُبغِضُ للهِ، وقد يكونُ في نفسِ الأمرِ معذورًا، وقد لا يكونُ معذورًا، بل يكونُ مُتَّبِعًا لهواه، مُقَصِّرًا في البحثِ عن معرفةِ ما يُبغِضُ عليه، فإنَّ كثيرًا من البُغْضِ كذلك إنَّما يقَعُ لمخالفةِ متبوعٍ يَظُنُّ أنَّه لا يقولُ إلَّا الحَقَّ، وهذا الظَّنُّ خَطَأٌ قطعًا، وإن أريدَ أنَّه لا يقولُ إلَّا الحَقَّ فيما خولِفَ فيه، فهذا الظَّنُّ قد يخطِئُ ويصيبُ، وقد يكونُ الحامِلُ على الميلِ مجَرَّدَ الهوى والإلفِ أو العادةِ، وكُلُّ هذا يقدَحُ في أن يكونَ هذا البُغْضُ للهِ؛ فالواجِبُ على المُؤمِنِ أن ينصَحَ نفسَه، ويتحَرَّزَ في هذا غايةَ التَّحرُّزِ، وما أشكَلَ منه فلا يُدخِلْ نَفسَه فيه؛ خشيةَ أن يقَعَ فيما نهيَ عنه من البُغْضِ المحَرَّمِ) [1281] ((جامع العلوم والحكم)) (2/267). .
3- الدَّعوى إلى عَصَبيَّةِ النَّسَبِ والجاهليَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ قال: ((كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزاةٍ، فكَسَع [1282] كَسَعَ: أي: ضَرَب دُبُرَه وعَجِيزتَه بيَدٍ أو رِجلٍ أو سَيفٍ وغَيرِه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/138). رجلٌ من المُهاجِرين رجُلًا من الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المُهاجِريُّ: يا لَلمُهاجِرين، فسَمَّعَها اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ما بالُ دعوى الجاهِليَّةِ؟ فقالوا: كسَعَ رَجُلٌ من المُهاجِرين رَجُلًا من الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المُهاجِريُّ: يا لَلمُهاجِرين، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعُوها؛ فإنَّها مُنْتِنةٌ!)) [1283] أخرجه البخاري (4905) مسلم (2584) واللفظ له. .
4- الرِّجْسُ (الخَمرُ والمَيسِرُ):
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90 - 91] . (فذكَر سُبحانَه عِلَّةَ تحريمِ الخَمرِ والمَيسِرِ، وهو القِمارُ، وهو أنَّ الشَّيطانَ يُوقِعُ بَيْنَهم العداوةَ والبَغْضاءَ؛ فإنَّ مَن سَكِر اختَلَّ عَقلُه، فرُبَّما تسَلَّط على أذى النَّاسِ في أنفُسِهم وأموالِهم، وربَّما بلَغ إلى القتلِ، وهي أمُّ الخبائِثِ، فمن شَرِبها قَتَل النَّفسَ وزنا، وربَّما كَفَر، ومَن قامَر فرُبَّما قُهِر، وأُخِذ مالُه قهرًا، فلم يَبْقَ له شيءٌ، فيَشتَدُّ حِقدُه على مَن أخذ مالَه. وكُلُّ ما أدَّى إلى إيقاعِ العداوةِ والبَغْضاءِ كان حرامًا) [1284] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 457) بتصرف. .
النَّهيُ عن الشَّطَطِ في البُغْضِ:
- عن زَيدِ بنِ أسلَمَ، عن أبيه، قال: قال لي عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: (يا أسلَمُ، لا يكُنْ حُبُّك كَلَفًا، ولا بُغضُك تَلَفًا. فقال أسلَمُ لعُمَرَ: وكيف ذاك؟ قال: إذا أحبَبْتَ فلا تَكلَفْ كما يَكلَفُ الصَّبيُّ بالشَّيءِ يحِبُّه، وإذا أبغَضْتَ فلا تُبغِضْ بُغضًا تحِبُّ أن يتلَفَ صاحِبُك أو يَهلِكَ) [1285] ((جامع معمر بن راشد)) (11/ 181). .
- وعن الحَسَنِ، قال: (أحبُّوا هَونًا وأبغِضوا هَونًا؛ فقد أفرَطَ أقوامٌ في حُبِّ أقوامٍ فهَلَكوا، وأفرَطَ أقوامٌ في بُغضِ أقوامٍ فهَلَكوا، لا تُفرِطْ في حُبِّك، ولا تُفرِطْ في بُغضِك، مَن وَجَد دونَ أخيه سِترًا فلا يَكشِفْ، لا تجَسَّسْ أخاك؛ فقد نُهِيتَ أن تجَسَّسَه، لا تحقِرْ عليه، ولا تنفِرْ عنه) [1286] ((جامع معمر بن راشد)) (11/ 181). .
- وعن محمَّدِ بنِ يحيى الصُّوليِّ، قال: سمِعتُ أبا العبَّاسِ المُبَرِّدَ يقولُ: (كان يُقالُ: ... وإذا أحبَبْتَ فلا تُفرِطْ في حُبِّك، وإذا أبغَضْتَ فلا تُشطِطْ) [1287] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (8/ 518). .
- وقال الرَّافِعيُّ: (إذا أحبَبْتَ ففَكِّرْ في البُغْضِ؛ لعَلَّه يكونُ، وإذا أبغَضْتَ ففَكِّرْ في الحُبِّ؛ لعَلَّه يعودُ؛ بهذا وهذا تكونُ دائِمًا محِبًّا وإن أبغَضْتَ) [1288] ((كَلِمة وكليمة)) (ص: 71). .
البَغْضاءُ الغالِبُ أنَّها مُتبادَلةٌ:
الغالِبُ أنَّ البَغْضاءَ مُتبادَلةٌ كالمحبَّةِ، بمعنى أنَّه إذا كان الإنسانُ يُبغِضُ شخصًا فهو يُبغِضُه أيضًا، وفي الحديثِ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ولا تَباغَضوا)) [1289] أخرجه البخاري (6064) واللفظ له، ومسلم (2563). ، أي: لا يُبغِضْ بَعضُكم بعضًا؛ ولهذا من الأمثالِ المضروبةِ السَّائرةِ: القُلوبُ شواهِدُ. ويُروى عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه قال في رَجَزٍ:
وللقَلبِ على القَلبِ
 دليلٌ حينَ يلقاه.
ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قِصَّةِ مُغيثٍ وبريرةَ لعبَّاسٍ: ((يا عبَّاسُ، ألا تعجَبُ مِن حُبِّ مُغيثٍ بريرةَ، ومِن بُغضِ بريرةَ مُغيثًا؟!)) [1290] ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/ 383). والحديث أخرجه البخاري (5283). .

انظر أيضا: