موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


-عنِ ابن عَبَّاس رَضي الله عنهما قال: ((لمَّا اشتَدَّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجَعُه قال: اتئوني بكِتابٍ أكتُبْ لكم كِتابًا لا تَضِلُّوا مِن بَعدِه. قال عُمرُ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَلبَه الوجَعُ وعِندَنا كِتابُ اللهِ حَسْبُنا. فاختَلفوا وكثُرَ اللَّغَطُ [91] أي : الأصواتُ المختَلِفةُ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 110). ، قال: قوموا عنِّي ولا ينبَغي عِندي التَّنازُعُ. فخَرَجَ ابنُ عَبَّاسٍ يقولُ: إنَّ الرَّزيَّةَ [92] أي: المصيبةُ. يُنظَر: ((عمدة القاري)) للعيني (21/ 225). كُلَّ الرَّزيَّةِ ما حال بَينَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَينَ كِتابِه)) [93] أخرجه البخاري (114) واللفظ له، ومسلم (1637). .
- عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضي اللهُ عنه قال: ((بايعنا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على السَّمعِ والطَّاعةِ في العُسرِ واليُسرِ، والمنشَطِ والمَكرَهِ، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وأن نَقومَ بالحَقِّ حَيثُ كُنَّا لا نَخافُ في اللهِ لَومةَ لائِمٍ)) [94] أخرجه البخاري (7199) مختصرًا، ومسلم (1709) واللفظ له. .
- عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضي اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ يُخبرُ بليلةِ القَدرِ، فتَلاحى رَجُلانِ مِنَ المُسلمينَ، فقال: إنِّي خَرَجتُ لأُخبِرَكم بليلةِ القَدْرِ، وإنَّه تَلاحى فُلانٌ وفُلانٌ فرُفعَت، وعَسى أن يكونَ خَيرًا لكم، التَمِسوها في السَّبعِ والتِّسعِ والخَمسِ)) [95] أخرجه البخاري (49). .
في هذا الحَديثِ شُؤمُ الخِصامِ ومُلاحاةِ الرِّجالِ، أي: مُقاولتِهم ومُخاصَمَتِهم، ولاحيتُه مُلاحاةً: إذا نازَعتَه. قَولُه: (فرُفِعَت، قيل: رُفِعَت مَعرِفةُ ليلةِ القدرِ لتَلاحي النَّاسِ. وفيه دَليلٌ على أنَّ المُخاصَمةَ مَذمومةٌ وأنَّها سَبَبٌ في العُقوبةِ المَعنَويَّةِ أيِ الحِرمانِ) [96] يُنظَر: ((إكمال المعلم)) لعياض (4/ 146، 149)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (5/ 1626)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/113). .
وقال ابنُ العَرَبيِّ: (فيه دَليلٌ على أنَّ العُقوبةَ تَعُمُّ سائِرَ النَّاسِ مِنَ المُسيءِ والمُحسِنِ؛ لأنَّ تَلاحيَ الرَّجُلينِ كان سَبَبًا ألَّا يَعرِفَها أحَدٌ؛ فالجِدالُ لا يأتي بخَيرٍ، فعَمَّت العُقوبةُ بجِدالهما المُسيءَ والمُحسِنَ؛ قال اللهُ تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] ) [97] ((المسالك في شرح موطأ مالك)) (4/ 268). .
- عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضي اللهُ عنهما: (أنَّه قَدِمَ رَكبٌ [98] الرَّكبُ: أصحابُ الإبِلِ في السَّفَرِ، وهم العَشَرةُ فما فوقها. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 127). مِن بَني تَميمٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال أبو بَكرٍ: أمِّرِ القَعقاعَ بنَ مَعبَدِ بنِ زُرارةَ، قال عُمَرُ: بَل أمِّرِ الأقرَعَ بنَ حابسٍ، قال أبو بَكرٍ: ما أرَدتَ إلَّا خِلافي! قال عُمَرُ: ما أرَدتُ خِلافَك، فتَماريا [99] فتماريا: أي: تجادلا وتخاصَما. يُنظَر: ((عمدة القاري)) للعيني (19/184). حتَّى ارتَفعَت أصواتُهما، فنَزَل في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا [الحجرات: 1] حتَّى انقَضَت) [100] رواه البخاري (4367). .
وعنِ ابنِ أبي مُلَيكةَ قال: (كادَ الخَيِّرانِ أن يَهلِكا؛ أبو بَكرٍ وعُمَرُ، لَمَّا قدِمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفدُ بَني تَميمٍ أشارَ أحَدُهما بالأقرَعِ بنِ حابسٍ التَّميميِّ الحنظليِّ أخي بني مجاشعٍ، وأشارَ الآخَرُ بغَيرِه، فقال أبو بَكرٍ لعُمَرَ: إنَّما أرَدتَ خِلافي! فقال عُمَرُ: ما أرَدتُ خِلافَك، فارتَفعَت أصواتُهما عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَزَلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] إلى قَولِه عَظِيمٌ [الحجرات: 3] ، قال ابنُ أبي مُلَيكةَ، قال ابنُ الزُّبَيرِ: فكان عُمَرُ بَعدُ -ولم يذكُرْ ذلك عن أبيه يعني أبا بَكرٍ- إذا حَدَّثَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحَديثٍ، حَدَّثَه كأخي السِّرارِ؛ لم يُسمِعْه حتَّى يَستَفهِمَه) [101] أخرجه البخاري (7302). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (في قِصَّةِ بَني تَميمٍ ذَمُّ التَّنازُعِ المُؤَدِّي إلى التَّشاجُرِ ونِسبةِ أحَدِهما الآخَرَ إلى قَصدِ مُخالفتِه؛ فإنَّ فيه إشارةً إلى ذَمِّ كُلِّ حالةٍ تَؤولُ بصاحِبها إلى افتِراقِ الكَلِمةِ أوِ المُعاداةِ) [102] ((فتح الباري)) (13/ 280). .
- وعن أبي مَسعودٍ قال: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمسَحُ مَناكِبَنا في الصَّلاةِ، ويقولُ: ((استَووا، ولا تَختَلِفوا؛ فتَختَلِفَ قُلوبُكم...)) [103]  أخرجه مسلم (432). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (قَولُه: «ولا تَختَلفوا؛ فتَختَلفَ قُلوبُكم» أي: أنَّكم إذا اختَلفتُم بالظَّواهرِ عوقِبتُم باختِلافِ القُلوبِ. ويُحتَمَلُ: لا تَختَلفَنَّ ظواهِرُكم؛ فإنَّ اختِلافَها دَليلٌ على اختِلافِ قُلوبِكم) [104] ((كشف المشكل)) (2/ 205). .
وقال السُّيوطيُّ: («ولا تَختَلفوا؛ فتَختَلفَ قُلوبُكم»: أي: لا يتَغَيَّر عنِ التَّوادِّ والأُلفةِ إلى التَّباغُضِ والعَداوةِ) [105] ((قوت المغتذي)) (1/135). .
- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((سَمِعتُ رَجُلًا قَرَأ آيةً، وسَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرَأُ خِلافَها، فجِئْتُ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرْتُه، فعَرَفتُ في وجهِه الكَراهيةَ، وقال: كِلاكما مُحسِنٌ، ولا تَختَلِفوا؛ فإنَّ مَن كان قَبلَكمُ اختَلَفوا فهَلَكوا)) [106]  رواه البخاري (3476). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (وَجهُ الهَلاكِ في الاختِلافِ أنَّ هذا يكفُرُ بما يقرَأُ هذا، ويزعُمُ أنَّه ليسَ مِن كلامِ اللهِ. فأمَّا الاختِلافُ في حَرَكاتِ الحُروفِ المَنقولةِ عنِ القُرَّاءِ فإنَّه لا يضُرُّه) [107] ((كشف المشكل)) (1/310). .
وقال الكَرمانيُّ: (حَذَّرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ اختِلافٍ يُؤَدِّي إلى الكُفرِ والبِدعةِ، مِثلُ الاختِلافِ في نَفسِ القُرآنِ، وفيما جازَ قِراءَتُه على وجهَينِ مَثَلًا، وفيما يوقِعُ في الفِتنةِ أو شِبهِه، وأمَّا الاختِلافُ في فُروعِ الدِّينِ ومُناظَراتُ العُلماءِ وإظهارُ الحَقِّ، فهو مَأمورٌ به) [108] ((الكواكب الدراري)) (14/ 106). .
- وعن جُندَبِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَليِّ، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اقرَؤوا القُرآنَ ما ائتَلفَت عليه قُلوبُكم، فإذا اختَلفتُم فيه فقوموا)) [109] أخرجه البخاري (5060)، ومسلم (2667) واللفظ له. .
قال القاضي عِياضٌ: (ومحمَلُه عِندَ أهلِ العِلمِ على أنَّ المُرادَ به اختِلافٌ لا يجوزُ، أو يوقِعُ فيما لا يجوزُ، كاختِلافِهم في تَفسيرِ القُرآنِ، أوِ اختِلافِهم في مَعانٍ لا يسوَغُ فيها الاجتِهادُ، أوِ اختِلافٍ يوقِعُ في التَّشاجُرِ والشَّحناءِ. وأمَّا الاختِلافُ في فُروعِ الدِّينِ، وتَمسُّكُ صاحِبِ كُلِّ مَذهَبٍ بالظَّاهرِ مِنَ القُرآنِ وتَأويلُه الظَّاهِرَ على خِلافِ ما تَأوَّل صاحِبُه، فأمرٌ لا بُدَّ مِنه في الشَّرعِ، وعليه مَضى السَّلَفُ وانقَرَضَتِ الأعصارُ) [110] ((إكمال المعلم)) (8/159، 160). .
(فيَندُبُهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للقيامِ عنِ القُرآنِ العَظيمِ إذا اختَلفوا في بَعضِ أحرُفِ القِراءةِ أو في المَعاني المُرادةِ مِنَ الآياتِ الكريمةِ، حتَّى تَهدَأَ النُّفوسُ والقُلوبُ والخَواطِرُ، وتَنتَفيَ دَواعي الحِدَّةِ في الجِدالِ المُؤَدِّيةِ إلى المُنازَعةِ والشِّقاقِ، أمَّا إذا ائتَلفتِ القُلوبُ وسَيطَرَتِ الرَّغبةُ المُخلِصةُ في الفهمِ، فعليهم أن يواصِلوا القِراءةَ والتَّدَبُّرَ والتَّفكيرَ في آياتِ الكِتابِ) [111] ((أدب الاختلاف في الإسلام)) لطه جابر العلواني (ص: 47). .

انظر أيضا: