موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نَماذِجُ من وفاءِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


لقد وفى أصحابُ رَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعُهودِ والمَواثيقِ، والتَزَموا بالمُبايعاتِ التي أخَذَها عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
(فقد بايعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَحابَتَه في عِدَّةِ مُناسَباتٍ، وهذه هي العُهودُ والمَواثيقُ التي ذَكرَها اللهُ في أكثَرَ من آيةٍ؛ حَيثُ خُصَّ بَعضُها بالذِّكرِ كبَيعةِ الرِّضوانِ... وأخَذَ عليهم العَهدَ في بَيعَتَيِ العَقَبةِ، وبَيعةِ الرِّضوانِ، وبايعَهم على الإسلامِ، وبايعَ النِّساءَ بَيعةً خاصَّةً، كما بايعَ بَعضَ صَحابَتِه على الجِهادِ، وبايعَ آخَرينَ على السَّمعِ والطَّاعةِ، وبايعَ بَعضَهم على إقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والنُّصحِ لكُلِّ مُسلمٍ.
ومِمَّا يجدُرُ التَّنبيه إليه هنا ما ذَكرَه سُبحانَه في سورةِ الأحزابِ مادِحًا أصحابَ تلك العُهودِ والمَواثيقِ، ومُثنيًا عليهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، نَعَم، لقد وفى صَحابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُهودِهم، والتَزَموا مَواثيقَهم، ولم يكونوا كبَني إسرائيلَ الذين أصبَحَت الخيانةُ والغَدرُ من سِماتِهم وأبرَزِ سَجاياهم وطِباعِهم.
لقد كان من وفاءِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أحَدَهم يسقُطُ سَوطُه وهو راكِبٌ على دابَّتِه، فينزِلُ ليأخُذَ سَوطَه، ولا يطلُبُ من أحَدٍ أن يُناوِلَه؛ لأنَّه بايعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ألَّا يسألَ النَّاسَ شَيئًا، أعطَوه أو مَنَعوه!
هذه هي الطَّاعةُ، وهذا هو الوفاءُ، وبمِثلِ هؤلاء تَسعَدُ البَشَريَّةُ وتَصِلُ إلى مَدارِجِ الرُّقيِّ وسُموِّ الأخلاقِ، لقد كان جيلًا قُرآنيًّا فذًّا، لم تَعرِفِ البَشَريَّةُ جيلًا كذلك الجيلِ، ولا صَفوةً كتلك الصَّفوةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] ) [9649] ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص: 235). .
وفاءُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
وفاؤُه بدُيونِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ووُعودِه:
عن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو قد جاءَ مالُ البَحرَينِ لقد أعطَيتُك هَكذا وهَكذا، ثَلاثًا، فلم يَقدَمْ مالُ البَحرَينِ حتَّى قُبضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قَدِمَ على أبي بَكرٍ أمَرَ مُناديًا فنادى: من كان له عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَينٌ أو عِدَةٌ فلْيَأتِني، قال جابرٌ: فجِئتُ أبا بَكرٍ فأخبَرتُه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لو جاءَ مالُ البَحرَينِ أعطَيتُك هَكذا وهَكذا، ثَلاثًا، قال: فأعطاني. قال جابرٌ: فلَقِيتُ أبا بَكرٍ بَعدَ ذلك فسَألتُه فلم يُعطِني، ثُمَّ أتَيتُه فلم يُعطِني، ثُمَّ أتَيتُه الثَّالثةَ فلم يُعطِني، فقُلتُ له: قد أتَيتُك فلم تُعطِني، ثُمَّ أتَيتُك فلم تُعطِني، ثُمَّ أتَيتُك فلم تُعطِني، فإمَّا أن تُعطيَني، وإمَّا أن تَبخَلَ عنِّي! فقال: أقُلتَ: تَبخَلُ عنِّي؟! وأيُّ داءٍ أدوَأُ من البُخلِ؟! -قالها ثَلاثًا-، ما مَنَعتُك من مَرَّةٍ إلَّا وأنا أُريدُ أن أُعطيَك!)) [9650] رواه البخاري (4383) واللفظ له، ومسلم (2314). .
وفاؤُه في إنفاذِ جَيشِ أُسامةَ رَضِيَ اللهُ عنه:
قامَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بإنفاذِ جَيشِ أُسامةَ بنِ زَيدٍ، الذي قَرَّرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليسيرَ إلى تُخومِ البَلقاءِ من الشَّامِ.
(فخَرَجوا إلى الجرفِ فخَيَّموا به، وكان بَينَهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -ويُقالُ: وأبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ- فاستَثناه رَسولُ اللهِ منهم للصَّلاةِ، فلمَّا ثَقُل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقاموا هنالك، فلمَّا ماتَ عَظُمَ الخَطبُ، واشتَدَّ الحالُ، ونَجَم النِّفاقُ بالمَدينةِ، وارتَدَّ من ارتَدَّ من أحياءِ العَرَبِ حَولَ المَدينةِ، وامتَنَعَ آخَرونَ من أداءِ الزَّكاةِ إلى الصِّدِّيقِ، ولم يبقَ للجُمُعةِ مَقامٌ في بَلدٍ سِوى مَكَّةَ والمَدينةِ! وكانت جواثا من البَحرَينِ أوَّلَ قَريةٍ أقامَت الجُمعةَ بَعدَ رُجوعِ النَّاسِ إلى الحَقِّ... وقد كانت ثَقيفٌ بالطَّائِفِ ثَبَتوا على الإسلامِ، لم يفِرُّوا ولا ارتَدُّوا، والمَقصودُ أنَّه لمَّا وقَعَت هذه الأُمورُ أشارَ كثيرٌ من النَّاسِ على الصِّدِّيقِ ألَّا يُنفِذَ جَيشَ أُسامةَ؛ لاحتياجِه إليه فيما هو أهَمُّ؛ لأنَّ ما جُهِّزَ بسَبَبِه في حالِ السَّلامةِ، وكان من جُملةِ من أشارَ بذلك عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فامتَنَعَ الصِّدِّيقُ من ذلك، وأبى أشَدَّ الإباءِ إلَّا أن يُنفِذَ جَيشَ أُسامةَ، وقال: واللهِ لا أُحِلُّ عُقدةً عَقدَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو أنَّ الطَّيرَ تَخطَفُنا، والسِّباعَ مِن حَولِ المَدينةِ، ولو أنَّ الكِلابَ جَرَّت بأرجُلِ أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ لأُجَهِّزَنَّ جَيشَ أُسامةَ!) [9651] ((البداية والنهاية)) لابن كثير (6/335). .
- وعن قَيسِ بنِ أبي حازِمٍ قال: (دَخَلتُ مَعَ أبي على أبي بَكرٍ في مَرَضِه...قال: يا أبا حازِمٍ قد أجَزتُ لك فرَسَيك. قال: وكان وعَدَني ووعَدَ أبي فرَسًا) [9652] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (49/ 458). .
نَماذِجُ أُخرى من وفاءِ الصَّحابةِ:
- قال عُمَرُ بنُ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه لمَّا طُعِنَ: (أُوصي الخليفةَ مِن بَعدي بالمُهاجِرينَ الأوَّلينَ، أن يعرِفَ لهم حقَّهم، ويحفَظَ لهم حُرمتَهم، وأوصيه بالأنصارِ خيرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر: 9] أن يُقبَلَ مِن مُحسِنِهم، وأن يُعفى عن مُسيئِهم، وأوصيه بأهلِ الأمصارِ خيرًا؛ فإنَّهم رِدْءُ الإسلامِ، وجُباةُ المالِ، وغَيظُ العدُوِّ، وألَّا يُؤخَذَ منهم إلَّا فَضلُهم عن رِضاهم، وأوصيه بالأعرابِ خيرًا؛ فإنَّهم أصلُ العربِ، ومادَّةُ الإسلامِ، أن يُؤخَذَ مِن حواشي أموالِهم، ويُرَدَّ على فُقَرائِهم، وأوصيه بذمَّةِ اللهِ، وذمَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُوفَى لهم بعَهدِهم، وأن يُقاتَلَ مِن وَرائِهم، ولا يُكلَّفوا إلَّا طاقتَهم) [9653] رواه البخاري (3700). .
- وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (خَرَجتُ مَعَ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَليِّ في سَفرٍ، فكان يخدُمُني، فقُلتُ له: لا تَفعلْ! فقال: إنِّي قد رَأيتُ الأنصارَ تَصنَعُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيئًا، آليتُ ألَّا أصحَبَ أحَدًا منهم إلَّا خَدمتُه!). وكان جَريرٌ أكبَرَ من أنَسٍ [9654] رواه البخاري (2888)، ومسلم (2513) واللفظ له. .
- وعن نافِعٍ قال: لمَّا خَلعَ أهلُ المَدينةِ يزيدَ بنَ مُعاويةَ جَمعَ ابنُ عُمَرَ حَشَمَه وولَدَه، فقال: إنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُنصَبُ لكُلِّ غادِرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ))، وإنَّا قد بايعنا هذا الرَّجُلَ على بَيعِ اللهِ ورَسولِه، وإنِّي لا أعلمُ غَدرًا أعظَمَ من أن يُبايَعَ رَجُلٌ على بَيعِ اللهِ ورَسولِه، ثُمَّ يُنصَبَ له القِتالُ، وإنِّي لا أعلمُ أحَدًا منكم خَلعَه، ولا بايعَ في هذا الأمرِ، إلَّا كانت الفيصَلَ بَيني وبَينَه [9655] رواه البخاري (7111). .
- وعن هارونَ بنِ رِئابٍ قال: (لمَّا حَضَرت عَبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو الوفاةُ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: إنَّه كان خَطَبَ إليَّ ابنَتي رَجُلٌ من قُرَيشٍ، وقد كان مِنِّي إليه شَبيهٌ بالوَعدِ، فواللهِ لا ألقى اللهَ بثُلُثِ النِّفاقِ! اشهَدوا أنِّي قد زوَّجْتُها إيَّاه) [9656] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (456)، وأبو بكر الفريابي في ((صفة النفاق)) (18، 19). .
نماذِجُ أُخرى من الوفاءِ:
1- (يُذكَرُ أنَّ امرَأَ القَيسِ الكِنديَّ لمَّا أرادَ المُضيَّ إلى قَيصَرَ مَلكِ الرُّومِ، أودَعَ عِندَ السَّمَوْءَلِ دُروعًا وسِلاحًا، وأمتِعةً تُساوي من المالِ جُملةً كثيرةً، فلمَّا ماتَ امرُؤُ القَيسِ أرسَل مَلِكُ كِندةَ يطلُبُ الدُّروعَ والأسلحةَ المودَعةَ عِندَ السَّمَوءَلِ، فقال السَّمَوءلُ: لا أدفعُها إلَّا لمُستَحِقِّها. وأبى أن يدفعَ إليه منها شَيئًا، فعاودَه فأبى، وقال: لا أغدِرُ بذِمَّتي، ولا أخونُ أمانَتي، ولا أترُكُ الوفاءَ الواجِبَ عليَّ. فقَصدَه ذلك المَلكُ من كِندةَ بعَسكرِه، فدَخَل السَّمَوءلُ في حِصنِه، وامتَنَعَ به. فحاصَرَه ذلك المَلِكُ، وكان ولدُ السَّمَوءلِ خارِجَ الحِصنِ، فظَفِرَ به ذلك المَلكُ فأخَذَه أسيرًا، ثُمَّ طاف حَول الحِصنِ وصاحَ بالسَّمَوءلِ. فأشرَف عليه مِن أعلى الحِصنِ. فلمَّا رَآه قال له: إنَّ ولدَك قد أَسرْتُه، وها هو مَعي، فإن سَلَّمتَ إليَّ الدُّروعَ والسِّلاحَ التي لامرِئِ القَيسِ عِندَك رَحَلتُ عنك، وسَلَّمتُ إليك ولدَك، وإن امتَنَعتَ من ذلك ذَبَحتُ ولدَك وأنت تَنظُرُ، فاختَرْ أيَّهما شِئتَ. فقال له السَّمَوءلُ: ما كُنتُ لأُخفرَ ذِمامي، وأُبطِلَ وَفائي، فاصنَعْ ما شِئتَ، فذَبَحَ ولدَه وهو ينظُرُ! ثُمَّ لمَّا عَجَزَ عن الحِصنِ رَجَعَ خائِبًا، واحتَسَبَ السَّمَوءلُ ذَبحَ ولدِه؛ مُحافَظةً على وفائِه، فلمَّا جاءَ المَوسِمُ وحَضَرَ ورَثةَ امرِئِ القَيسِ سَلَّمَ إليهم الدُّروعَ والسِّلاحَ، ورَأى حِفظَ ذِمامِه ورِعايةَ وفائِه أحَبَّ إليه من حَياةِ ولَدِه وبَقائِه، فصارَت الأمثالُ في الوفاءِ تُضرَبُ بالسَّمَوءلِ، وإذا مَدحوا أهلَ الوفاءِ في الأنامِ ذُكِرَ السَّمَوءلُ في الأوَّلِ!
وكم أعلى الوفاءُ رُتبةَ من اعتَقَله بيَدَيه، وأغلى قَيمةَ من جَعلَه نُصبَ عَينَيه، واستَنطَقَ الأفواهَ لفاعِلِه بالثَّناءِ عليه، واستَطلقَ الأيديَ المَقبوضةَ عنه بالإحسانِ إليه!) [9657] ((المستطرف)) للأبشيهي (1/432). .
2- قِصَّةٌ أُخرى يحكيها مالكُ بنُ عُمارةَ اللَّخميُّ، قال: (كُنتُ جالسًا في ظِلِّ الكعبةِ أيَّامَ المَوسِمِ عِندَ عَبدِ المَلكِ بنِ مَروانَ، وقَبيصةَ بنِ ذُؤَيبٍ، وعُروةَ بنِ الزُّبَيرِ، وكُنَّا نَخوضُ في الفِقهِ مَرَّةً، وفي المُذاكرةِ مَرَّةً، وفي أشعارِ العَرَبِ وأمثالِ النَّاسِ مَرَّةً، فكُنتُ لا أجِدُ عِندَ أحَدٍ ما أجِدُه عِندَ عَبدِ المَلكِ بنِ مَروانَ من الاتِّساعِ في المَعرِفةِ، والتَّصَرُّفِ في فُنونِ العِلمِ، وحُسنِ استِماعِه إذا حَدَّثَ، وحَلاوةِ لفظِه إذا حَدَّثَ، فخَلَوتُ مَعَه ليلةً، فقُلتُ له: واللهِ إنِّي لمَسرورٌ بك لِما شاهَدتُه من كثرةِ تَصَرُّفِك، وحُسنِ حَديثِك، وإقبالِك على جَليسِك! فقال: إن تَعِشْ قَليلًا فسَتَرى العُيونَ طامِحةً إليَّ، والأعناقَ نَحوي مُتَطاوِلةً، فإذا صارَ الأمرُ إليَّ فلعلَّك أن تَنقُلَ إليَّ رِكابَك فلأملأَنَّ يديك! فلمَّا أفضَت إليه الخِلافةُ تَوجَّهتُ إليه، فوافيتُه يومَ الجُمُعةِ وهو يخطُبُ على المِنبَرِ، فلمَّا رَآني أعرَضَ عنِّي، فقُلتُ: لعلَّه لم يعرِفْني، أو عَرَفني وأظهَرَ لي نُكرَه! فلمَّا قُضِيَتِ الصَّلاةُ ودَخَل بَيتَه، لم ألبَثْ أن خَرَجَ الحاجِبُ فقال: أينَ مالِكُ بنُ عُمارةَ؟ فقُمتُ، فأخَذَ بيدي وأدخَلني عليه، فمَدَّ إليَّ يدَه، وقال: إنَّك تراءيتَ لي في مَوضِعٍ لا يجوزُ فيه إلَّا ما رَأيتَ، فأمَّا الآنَ فمَرحَبًا وأهلًا! كيف كُنتَ بَعدي؟ فأخبَرتُه، فقال: أتَذكُرُ ما كُنتُ قُلتُ لك؟ قُلتُ: نَعَم. فقال: واللهِ ما هو بميراثٍ ادَّعَيناه، ولا أثَرٍ رُوِّيناه، ولكِنِّي أُخبرُك بخِصالٍ مِنِّي سُمتُ بها نَفسي إلى المَوضِعِ الذي تَرى: ما خُنتُ ذا وُدٍّ قَطُّ، ولا شَمِتُّ بمُصيبةِ عَدوٍّ قَطُّ، ولا أعرَضتُ عن مُحدِّثٍ حتَّى ينتَهيَ حَديثُه، ولا قَصَدتُ كبيرةً من مَحارِمِ اللهِ تعالى مُتَلذِّذًا بها، فكُنتُ أُؤَمِّلُ بهذه أن يرفعَ اللهُ تعالى مَنزِلتي، وقد فَعَل! ثُمَّ دَعا بغُلامٍ فقال له: يا غُلامُ، بوِّئْه مَنزِلًا في الدَّارِ، فأخَذَ الغُلامُ بيدي وأفرَدَ لي مَنزِلًا حَسَنًا، فكُنتُ في ألذِّ حالٍ، وأنعَمِ بالٍ، وكان يسمَعُ كلامي وأسمَعُ كلامَه، ثُمَّ أدخُلُ عليه في وقتِ عَشائِه وغَدائِه، فيرفَعُ مَنزِلتي ويُقبِلُ عليَّ ويُحادِثُني، ويسألُني مَرَّةً عن العِراقِ، ومَرَّةً عن الحِجازِ، حتَّى مَضَت لي عِشرونَ ليلةً، فتَغَدَّيتُ يومًا عِندَه، فلمَّا تَفرَّقُ النَّاسُ نَهَضتُ قائِمًا، فقال: على رِسْلِك. فقَعَدتُ، فقال: أيُّ الأمرَينِ أحَبُّ إليك: المُقامُ عِندَنا مَعَ النَّصَفةِ لك في المُعاشَرةِ، أو الرُّجوعُ إلى أهلك ولك الكرامةُ؟ فقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، فارَقتُ أهلي وولدي على أنِّي أزورُ أميرَ المُؤمِنينَ وأعودُ إليهم، فإن أمَرَني أميرُ المُؤمِنينَ اختَرتُ رُؤيتَه على الأهلِ والولدِ! فقال: لا، بَل أرى لك الرُّجوعَ إليهم، والخيارُ لك بَعدُ في زيارَتِنا، وقد أمَرْنا لك بعِشرينَ ألفَ دينارٍ، وكَسَوناك، وحَمَلْناك، أتُراني قد مَلأتُ يديك؟! فلا خَيرَ فيمَن ينسى إذا وعَدَ وعدًا، وزُرْنا إذا شِئتَ. صَحِبَتك السَّلامةُ) [9658] ((المستطرف)) للأبشيهي (1/438). .
- وعن شُعبةَ قال: (ما وعَدتُ أيُّوبَ مَوعِدًا إلَّا وجَدتُه قد سَبَقَني إليه!) [9659] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/ 5). .
- وقال أبو سَعيدٍ بَكرُ بنُ مُنيرٍ: كان حُملَ إلى مُحَمَّدِ بنِ إسماعيلَ البُخاريِّ بضاعةٌ أَنفَذها إليه فُلانٌ، فاجتَمَعَ بَعضُ التُّجَّارِ إليه بالعَشيَّةِ فطلبوها منه برِبحِ خَمسةِ آلافِ دِرهَمٍ، فقال لهم: انصَرِفوا اللَّيلةَ. فجاءَه من الغَدِ تُجَّارٌ آخَرونَ، فطَلبوا منه تلك البضاعةَ برِبحِ عَشَرةِ آلافِ دِرهَمٍ، فردَّهم، وقال: إنِّي نَويتُ البارِحةَ أن أدفعَ إليهم بما طَلبوا -يعني: الذين طَلبوا أوَّل مَرَّةٍ- ودَفعَ برِبحِ خَمسةِ آلافِ دِرهَمٍ! وقال: لا أُحِبُّ أن أنقُضَ نيَّتي [9660] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (2/ 330). !
- وقال المَدائِنيُّ: (جَعل الحَجَّاجُ في رَجُلٍ مِائةَ ألفٍ، فأُخِذَ فأُتيَ به الحَجَّاجُ، فقال لقُتَيبةَ: احتَفِظْ به ليلتَك، ثُمَّ بَكِّرْ به عليَّ. فانصَرَف به قُتَيبةُ إلى مَنزِلِه، فأحضَرَه العَشاءَ، فامتَنَعَ منه، فقال له قُتَيبةُ: ما بالُك لا تَعشَّى؟ فقال: للذي في صَدري -أصلحَك اللهُ- من البَلابِلِ [9661] جمعُ بلبالٍ: وهو شِدَّةُ الهَمِّ والوَساوِسِ في الصَّدرِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (28/ 114). ! والذي استَبقَيتُ عليه من الهَلَكةِ؛ فإنَّ أخًا لي هَلك وأوصى إليَّ، فلَستُ آمَنُ على تَركتِه الضَّياعَ، وأنا مُحتاجٌ إلى أن أوصيَ فيها.
قال له قُتَيبةُ: لو كان لك من يَضمَنُك لتَركتُك تَأتي مَنزِلَك فتُحكِمُ أمرَك. قال: اللهُ كفيلي!
قال قُتَيبةُ: كفى باللهِ كفيلًا، انطَلِقْ! فانطَلقَ الرَّجُلُ، وخَشيَ قُتَيبةُ أن يُؤخَذَ به، فجَعلَ لا يتَقارُّ [9662] يقال: ما يتقارُّ في مكانِه، أي: ما يستقِرُّ. يُنظَر: ((العين)) للخليل الفراهيدي (5/ 22). ليلَه! وكانت له ثَلاثةُ أَسِرَّةٍ، فجَعل يتَنَقَّلُ عليها حتَّى أصبَحَ، فأتاه الرَّجُلُ مُصبِحًا، فقال له قُتَيبةُ: ما الذي خَلَّفك إلى هذا الوقتِ؟ قال: التَّجَهُّزُ للمَوتِ أخَّرَني! فرَكِبَ قُتَيبةُ إلى الحَجَّاجِ، قال له: أينَ صاحِبُك؟ قال: قد جِئتُ به أيُّها الأميرُ، وخَبَّرُه خَبَرَه، فقال له الحَجَّاجُ: فإنِّي قد وهبتُه لك! فخَرَجَ إليه قُتَيبةُ، فقال له: إنَّ الأميرَ قد وهبَك لي، وقد وهَبتُك للهِ عَزَّ وجَلَّ! فقال الرَّجُلُ: نِعمَ القادِرُ اللهُ! ولم يزِدْه عليها، وانطَلقَ إلى المَسجِدِ فصَلَّى رَكعَتَينِ، ثُمَّ أقبَل إلى قُتَيبةَ، فقال له قُتَيبةُ: أعلَمْتُك أنِّي قد مَنَنتُ عليك وأعتَقتُك، فلم تَشكُرْ لي الشُّكرَ الذي يُشبِهُ ما كان مِنِّي! فقال: أحبَبتُ أن أبدَأَ بشُكرِ اللهِ تعالى فأخلِصَه ولا أُشرِكَ به أحَدًا! فقُلتُ ما سَمِعتَ، ودَخَلتُ المَسجِدَ فصَلَّيتُ رَكعَتَينِ، وحَمِدتُ أمرَك إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ. فكتَبَ قُتَيبةُ على خاتَمِه يومَئِذٍ: نِعْمَ القادِرُ اللهُ!) [9663] ((سنن الصالحين وسنن العابدين)) لأبي الوليد الباجي (ص: 411، 412). .
- وقال ابنُ حَزمٍ: (لقد منحَني اللهُ عَزَّ وجَلَّ من الوفاءِ لكُلِّ من يَمُتُّ إليَّ بلُقيةٍ واحِدةٍ، ووهَبَني من المُحافظةِ لمَن يتَذَمَّمُ مِنِّي ولو بمُحادَثَتِه ساعةً- حَظًّا أنا له شاكِرٌ وحامِدٌ، ومنه مُستَمِدٌّ ومُستَزيدٌ، وما شَيءٌ أثقَلَ عليَّ من الغَدرِ؛ ولعَمْري ما سَمَحَت نَفسي قَطُّ في الفِكرةِ في إضرارِ مَن بَيني وبَينَه أقَلُّ ذِمامٍ، وإن عَظُمَت جَريرتُه، وكثُرَت إليَّ ذُنوبُه، ولقد دَهَمَني من هذا غَيرُ قَليلٍ، فما جَزيتُ على السُّوءى إلَّا بالحُسنى، والحَمدُ للهِ على ذلك كثيرًا) [9664] ((طوق الحمامة)) (ص: 210). .

انظر أيضا: