موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نَماذِجُ من وفاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


 إنَّ الوفاءَ بالعَهدِ وعَدَمَ نِسيانِه أو الإغضاءِ عن واجِبه خُلقٌ كريمٌ؛ ولذا كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه بالمَحَلِّ الأفضَلِ والمَقامِ الأسمى، والمَكانِ الأشرَفِ؛ فوفاؤُه... كان مَضرِبَ المِثلِ، وحُقَّ له ذلك، وهو سَيِّدُ الأوفياءِ [9634] ((هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب)) لأبي بَكرٍ الجزائري (ص: 556). .
قال حسَّانُ بنُ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
هَجَوتَ محمَّدًا فأجَبْتُ عنه
وعندَ اللهِ في ذاك الجزاءُ
هَجَوتَ محمَّدًا بَرًّا حنيفًا
رسولَ اللهِ شيمتُه الوَفاءُ
فإنَّ أبي ووالِدَه وعِرْضي
لعِرْضِ محمَّدٍ منكم وِقاءُ [9635] ((صحيح مسلم)) (2490).
وقال أحمد شوقي:
يا مَن له الأخلاقُ ما تهوى العُلا
منها وما يتعَشَّقُ الكُبَراءُ
زانَتْك في الخُلقِ العظيمِ شمائِلٌ
يغرى بهنَّ ويولَعُ الكُرَماءُ
وإذا صَحِبتَ رأى الوفاءَ مجسَّمًا
في بُردِك الأصحابُ والخُلَطاءُ
وإذا أخَذْتَ العَهدَ أو أعطيتَه
فجميعُ عَهدِك ذمَّةٌ ووفاءُ [9636] ((الشوقيات)) (1/35، 36).
وسُئِل سُفيانُ بنُ عُيينةَ عن قَولِه: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10] ، قال: (أُنزِل عليه القُرآنُ بمَكارِمِ الأخلاقِ، فهم الذين كانوا يَشرُفونَ بها، ويَفضُلُ بَعضُهم بَعضًا بها؛ من حُسنِ الجِوارِ، ووفاءٍ بالعَهدِ، وصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانةِ، فقال: إنَّما جاءَكم مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَكارِمِ أخلاقِكم التي كُنتُم بها تَشرُفونَ وتُعَظَّمونَ، انظُروا هَل جاءَ بشَيءٍ مِمَّا كُنتُم تَعيبونَ من الأخلاقِ القَبيحةِ التي كُنتُم تَعيبونَها، فلم يُقَبِّحِ القَبيحَ، ولم يُحَسِّنِ الحَسَنَ؟!) [9637] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (7/ 291). ويُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (16/ 232). .
ويتَجَلَّى لنا وفاءُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صُوَرٍ كثيرةٍ؛ منها:
وفاؤُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعَهدِ لعَدوِّه:
 كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفي بالعُهودِ والمَواثيقِ التي تَكونُ بَينَه وبَينَ أعداءِ الإسلامِ.
(فثَبَت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال لرَسولَي مُسَيلِمةَ الكذَّابِ لَمَّا قالا: نَقولُ: إنَّه رَسولُ اللهِ: ((لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقتَلُ لقتَلتُكما)) [9638] رواه أبو داود (2761)، وأحمد (17032) بلفظ: ((لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقتَلُ لضَرَبتُ أعناقَكما)) من حديثِ نعيمِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (2632) وقال: على شرطِ مسلمٍ، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2761)، وشعيب الأرناؤوط بطرقِه وشواهِدِه في تخريج ((سنن أبي داود)) (2761)، ورآه البخاريُّ حديثًا حسنًا كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (381). . وثَبَتَ عنه أنَّه قال لأبي رافِعٍ وقد أرَسلَتْه إليه قُرَيشٌ، فأرادَ المُقامُ عِندَه، وأنَّه لا يرجِعُ إليهم، فقال: ((إنِّي لا أَخيسُ [9639] أي: لا أنقُضُ العَهدَ ولا أفسِدُه، من قولِك: خاس الشَّيءُ في الوعاءِ: إذا فسَد. يُنظَر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 317). بالعَهدِ، ولا أَحبِسُ البُرُدُ [9640] البُرُدُ: جَمعُ بريدٍ، وهو الرَّسولُ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (6/ 2564). ، ولكِن ارجِعْ إلى قَومِك، فإن كان في نَفسِك الذي فيها الآنَ فارجِعْ)) [9641] رواه أبو داود (2758)، وأحمد (23857) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي رافعٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4877)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2758)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1235)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23857). . وثَبَتَ عنه أنَّه رَدَّ إليهم أبا جَندَلٍ؛ للعَهدِ الذي كان بَينَه وبَينَهم، أن يرُدَّ إليهم من جاءَه منهم مُسلِمًا) [9642] ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/79). .
- وعن حُذَيفةَ بنِ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((ما منَعَني أن أشهَدَ بَدرًا إلَّا أني خرَجتُ أنا وأبي حُسَيلٌ، قال: فأخَذَنا كُفَّارُ قُرَيشٍ، قالوا: إنَّكم تريدون محمَّدًا، فقُلْنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلَّا المدينةَ، فأخذوا منا عَهدَ اللهِ وميثاقَه لننصَرِفَنَّ إلى المدينةِ، ولا نقاتِلُ معه، فأتينا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْناه الخبرَ، فقال: انصَرِفا، نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم)) [9643] رواه مسلم (1787). .
وفاؤُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لزَوجاتِه:
 فمَن وفائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا البابِ أنَّه كان يُكرِمُ صَديقاتِ زَوجَتِه خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها بَعدَ مَوتِها؛ فعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أُتيَ بشَيءٍ يقولُ: اذهَبوا به إلى فُلانةَ؛ فإنَّها كانت صَديقةَ خَديجةَ، اذهَبوا به إلى بَيتِ فُلانةَ؛ فإنَّها كانت تُحِبُّ خَديجةَ)) [9644] رواه ابنُ حبان (7007)، والطبراني (23/12) (20)، والحاكم (7339) واللفظ له. صحَّحه ابن حبان، وحسَّنه ابنُ حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (4/107)، والألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (172)، وحَّسنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (7007). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((ما غِرتُ على أحَدٍ من نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غِرتُ على خَديجةَ، وما رَأيتُها! ولكِن كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ ذِكرَها، ورُبَّما ذَبحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُها أعضاءً، ثُمَّ يبعَثُها في صَدائِقِ خَديجةَ)) [9645] رواه البخاري (3818) واللفظ له، ومسلم (2435) بنحوِه. .
قال الذَّهَبيُّ: (ومن كرامَتِها عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لم يتَزَوَّجِ امرَأةً قَبلَها، وجاءَه منها عِدَّةُ أولادٍ، ولم يتَزَوَّجْ عليها قَطُّ ولا تَسرَّى إلى أن قَضَت نَحْبَها، فوجَدَ لفقدِها؛ فإنَّها كانت نِعْمَ القَرينُ!) [9646] ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 110). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (رَوى مُسلمٌ من طَريقِ الزُّهريِّ عن عُروةَ عن عائِشةَ قالت: لم يتَزَوَّجِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على خَديجةَ حتَّى ماتَت [9647] أخرجه مسلم (2436). .
وهذا مِمَّا لا اختِلافَ فيه بَينَ أهلِ العِلمِ بالأخبارِ، وفيه دَليلٌ على عِظَمِ قَدْرِها عِندَه، وعلى مَزيدِ فَضلِها؛ لأنَّها أغنَتْه عن غَيرِها واختَصَّت به بقَدرِ ما اشتَرَك فيه غَيرُها مَرَّتَينِ! لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاشَ بَعدَ أن تَزَوَّجَها ثَمانيةً وثَلاثينَ عامًا انفرَدَت خَديجةُ منها بخَمسةٍ وعِشرينَ عامًا، وهي نَحوُ الثُّلُثينِ من المَجموعِ، ومَعَ طولِ المُدَّةِ فصانَ قَلبَها فيها من الغَيرةِ، ومن نَكَدِ الضَّرائِرِ الذي رُبَّما حَصَل له هو منه ما يُشَوِّشُ عليه بذلك، وهي فضيلةٌ لم يُشارِكْها فيها غَيرُها) [9648] ((فتح الباري)) (7/ 137). .

انظر أيضا: