موسوعة الأخلاق والسلوك

د- قِصَصٌ ونماذِجُ من الوَرَعِ عِندَ العُلَماءِ المتقَدِّمين والمتأخِّرين


وَرَعُ البُخاريِّ:
قال بكرُ بنُ مُنيرٍ: سمِعتُ أبا عبدِ اللهِ البخاريَّ يقولُ: أرجو أن ألقى اللهَ ولا يحاسِبُني أني اغتبتُ أحدًا.
قال الذَّهبيُّ: (صدق -رحمه الله- ومن نظَرَ في كلامِه في الجرحِ والتَّعديلِ عَلِم وَرَعَه في الكلامِ في النَّاسِ، وإنصافَه فيمن يضَعِّفُه؛ فإنَّه أكثَرُ ما يقول: مُنكَرُ الحديثِ، سكتوا عنه، فيه نَظَرٌ، ونحوُ هذا، وقَلَّ أن يقولَ: فلانٌ كذَّابٌ، أو كان يَضَعُ الحديثَ، حتى إنَّه قال: إذا قُلتُ: فلانٌ في حديثِه نَظَرٌ، فهو متَّهَمٌ واهٍ، وهذا معنى قولِه: لا يحاسِبُني اللهُ أني اغتبتُ أحدًا، وهذا هو واللهِ غايةُ الوَرَعِ) [9540] ((سير أعلام النبلاء)) (12/ 439-441). .
وعن محمَّدِ بنِ العبَّاسِ الفِرَبْريِّ، قال: كنتُ جالسًا مع أبي عبدِ اللهِ البخاريِّ بفِرَبْرَ في المسجدِ، فدفعتُ من لحيتِه قَذاةً مِثلَ الذَّرَّةِ أذكُرُها، فأردتُ أن ألقيَها في المسجِدِ، فقال: ألقِها خارجًا من المسجِدِ [9541] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 106). .
وَرَعُ أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ:
قال أبو سعدٍ السَّمعانيُّ: (جاءته الدُّنيا صاغرةً، فأباها واقتَصَر على خُشونةِ العَيشِ أيَّامَ حياتِه، صَنَّف في الأصولِ والفُروعِ، والخِلافِ والمذهَبِ. وكان زاهِدًا وَرِعًا، متواضِعًا ظريفًا، كريمًا جوادًا، طَلْقَ الوَجهِ دائمَ البِشرِ، مليحَ المحاورةِ) [9542] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (32/ 93). .
(وورد أن أبا إسحاقَ كان يمشي، وإذا كَلبٌ، فقال فقيهٌ معه: اخسَأْ! فنهاه الشَّيخُ وقال: لمَ طرَدْتَه عن الطَّريقِ؟ أمَا عَلِمتَ أنَّ الطَّريقَ بيني وبينه مُشتَرَكٌ؟) [9543] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (32/ 94). .
وقال السَّمعانيُّ: (دخل أبو إسحاقَ يومًا مسجِدًا ليتغدَّى، فنسيَ دينارًا، ثمَّ ذَكَر فرجع فوجَده، ففَكَّر وقال: لعلَهَّ وقع من غيري، فتَرَكه!) [9544] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (18/456). .
وَرَعُ النَّوَويِّ:
قال الذَّهَبيُّ: (وكان مع تبحُّرِه في العِلمِ وسَعةِ مَعرفتِه بالحديثِ والفِقهِ واللُّغةِ وغيرِ ذلك بما قد سارت به الرُّكبانُ- رأسًا في الزُّهْدِ، قُدوةً في الوَرَعِ، عديمَ المِثلِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، قانعًا باليسيرِ، راضيًا عن اللهِ واللهُ عنه راضٍ، مقتَصِدًا إلى الغايةِ في مَلبَسِه ومَطعَمِه وإنائِه، تعلوه سكينةٌ وهيبةٌ؛ فاللهُ يرحمُه ويُسكِنُه الجنَّةَ بمَنِّه) [9545] ((العبر في خبر من غبر)) (3/ 334). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (كان من الزَّهادةِ والعبادةِ والوَرَعِ والتَّحَرِّي والانجماعِ عن النَّاسِ على جانبٍ كبيرٍ، لا يقدِرُ عليه أحدٌ من الفُقَهاءِ غيرُه) [9546] ((البداية والنهاية)) (17/ 540). .
وقال ابنُ العَطَّارِ: (وكان لا يأكُلُ فاكِهةَ دِمَشقَ، فسألتُه عن ذلك فقال: دِمَشقُ كثيرةُ الأوقافِ وأملاكِ من هو تحت الحَجرِ شَرعًا، والتَّصرُّفُ لهم لا يجوزُ إلَّا على وجهِ الغِبطةِ والمصلحةِ، والمعاملةُ فيها على وَجهِ المساقاةِ، وفيها اختِلافٌ بَيْنَ العُلَماءِ، ومن جوَّزها قال: بشرطِ المصلحةِ والغِبطةِ لليتيمِ والمحجورِ عليه، والنَّاسُ لا يفعلونها إلَّا على جزءٍ من ألفِ جُزءٍ من الثَّمَرةِ للمالكِ، فكيف تطيبُ نفسي بأكلِ ذلك؟!) [9547] ((تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين)) (ص: 68). .
وَرَعُ ابنِ تَيميَّةَ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (قال لي يومًا شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ -قدَّس اللهُ رُوحَه- في شيءٍ من المباحِ: هذا ينافي المراتِبَ العاليةَ، وإن لم يكُنْ تركُه شرطًا في النَّجاةِ، أو نحوَ هذا من الكلامِ) [9548] ((مدارج السالكين)) (2/28). .
وقال أبو حفصٍ البزَّارُ: (كان رَضِيَ اللهُ عنه في الغايةِ التي يُنتهى إليها في الوَرَعِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أجراه مدَّةَ عُمُرِه كُلَّها عليه؛ فإنَّه ما خالَط النَّاسَ في بيعٍ ولا شراءٍ، ولا معاملةٍ ولا تجارةٍ، ولا مشاركةٍ ولا زراعةٍ ولا عمارةٍ، ولا كان ناظِرًا مباشِرًا لمالِ وَقفٍ، ولم يكُنْ يقبَلُ جِرايةً ولا صلةً لنفِسه من سُلطانٍ ولا أميرٍ ولا تاجرٍ، ولا كان مدَّخِرًا دينارًا ولا درهمًا ولا متاعًا ولا طعامًا، وإنَّما كانت بضاعتُه مدَّةَ حياتِه وميراثَه بعدَ وفاتِه رَضِيَ اللهُ عنه العِلمَ!) [9549] ((الأعلام العلية)) (ص: 42). .
ورَعُ حَسَنِ بنِ عليٍّ باعَلَوي:
(كان شديدَ الوَرَعِ والزُّهْدِ، مدقِّقًا فيهما، اكترى مرَّةً بعيرًا يحمِلُ عليه طعامًا، فلمَّا بلغ بالحُمولةِ بعضَ الطَّريقِ، بلغه أنَّ ذلك البعيرَ مع صاحبِه حرامٌ، فقال الشَّيخُ لصاحِبِ البعيرِ: خُذِ البعيرَ بما عليه، فأبى المُكري أن يأخُذَ طعامَ الشَّيخِ، فلم يدَعْه الشَّيخُ حَسَن حتى أخَذ الطَّعامَ؛ تورُّعًا أن يأخُذَ شيئًا حُمِل على حرامٍ، وهذا من دقيقِ الوَرَعِ!) [9550] ((قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر)) للطيب بامخرمة (6/337). .

انظر أيضا: