موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسعًا: أخطاءٌ شائعةٌ حولَ المُواساةِ


اعتقادُ أنَّ المُواساةَ لا يحتاجُ إليها إلَّا من ضَعُفَ إيمانُه، وخارت عزيمتُه، وهذا الاعتقادُ خطأٌ؛ فقد واسى اللهُ سُبحانَه أنبياءَه، وواسى سُبحانَه أولياءَه، وهم أعظَمُ النَّاسِ إيمانًا وتقوى، وأكثَرُهم عزيمةً، وأرفعُهم همَّةً.
فقد واسى سُبحانَه رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ تفَطَّر قلبُه حَزَنًا على إعراضِ قومهِ عن الاستجابةِ لنداءِ الحَقِّ، فقال: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] .
و(ليس هناك أعظَمُ ولا أروَعُ ولا أقدَسُ من هذه المُواساةِ، أو ما يُسَمُّونه المشاركةَ الوِجدانيَّةَ، يواسي اللهُ تعالى من عَلياءِ سمائِه نبيَّه على ما ألَمَّ به من حُزنٍ شديدٍ وألمٍ عميقٍ بسَبَبِ تكذيبِ قومِه له ومعارضتِهم دعوتَه، وصَدِّهم النَّاسَ عنها، فاللهُ يعَلُم بذلك تمامَ العِلمِ) [8825] ((التفسير الوسيط)) للزحيلي (1/543). .
وقال سُبحانَه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48].
قال ابنُ كثيرٍ: (أي: اصبِرْ على أذاهم ولا تُبالِهم؛ فإنَّك بمرأًى منَّا وتحت كِلاءتِنا، واللهُ يعصِمُك من النَّاسِ) [8826] ((تفسير القرآن العظيم)) (7/438). .
وقد واسى سُبحانَه مريمَ عليها السَّلامُ حينَ اشتدَّ عليها الأمرُ؛ قال تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 22 - 26] .
(لمَّا حمَلت بعيسى عليه السَّلامُ خافت من الفضيحةِ، فتباعَدَت عن النَّاسِ مَكَانًا قَصِيًّا، فلمَّا قَرُب وِلادُها ألجأها المخاضُ إلى جِذعِ نخلةٍ، فلمَّا آلمها وجَعُ الولادةِ، ووَجَعُ الانفرادِ عن الطَّعامِ والشَّرابِ، ووجَعُ قلبِها من قالةِ النَّاسِ، وخافت عدَمَ صَبرِها، تمنَّت أنَّها ماتت قبل هذا الحادِثِ، وكانت نَسيًا مَنسيًّا فلا تُذكَرُ! وهذا التَّمني بناءً على ذلك المزعِجِ، وليس في هذه الأمنيةِ خيرٌ لها ولا مصلحةٌ، وإنما الخيرُ والمصلحةُ بتقديرِ ما حصل... فَكُلِي من التَّمرِ وَاشْرَبِي من النَّهرِ وَقَرِّي عَيْنًا بعيسى، فهذا طُمأنينتُها من جهةِ السَّلامةِ من ألمِ الولادةِ، وحصولِ المأكَلِ والمشرَبِ الهنيِّ، وأمَّا من جهةِ قالةِ النَّاسِ، فأمَرَها أنَّها إذا رأت أحدًا من البَشَرِ أن تقولَ على وجهِ الإشارةِ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أي: سكوتًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي: لا تخاطِبيهم بكلامٍ، لتستريحي من قولِهم وكلامِهم) [8827] ينظر ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 491، 492). .

انظر أيضا: