موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من المُواساةِ عِندَ الصَّحابةِ


- مواساةُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنفسِه ومالِه:
عن أبي الدَّرداء رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كُنتُ جالِسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بَكرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثَوبِه حَتَّى أبدى عن رُكبَتِه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّا صاحِبُكم فقد غامَرَ [8786] أي: خاصَمَ غيرَه، ودخل في غَمرةِ الخصومةِ، وهي معظَمُها. يُنظَر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (20/ 260). ! فسلَّم وقال: إنِّي كانَ بَيني وبَينَ ابنِ الخَطَّابِ شَيءٌ فأسرَعْتُ إلَيه ثُمَّ نَدِمتُ، فسألْتُه أن يَغفِرَ لي فأبى عَليَّ، فأقبَلْتُ إليك. فقال: يَغفِرُ اللهُ لكَ يا أبا بَكرٍ «ثَلاثًا»، ثُمَّ إنَّ عُمرَ نَدِمَ فأتى مَنزِلَ أبي بَكْرٍ فسألَ: أثَمَّ أبو بَكْرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ عليه، فجَعلَ وَجهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أشفَقَ أبو بَكرٍ، فجثَا عَلى رُكبَتيه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، واللَّهِ أنا كُنتُ أظلَمَ. مَرَّتينِ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللهَ بَعَثني إليكم فقَلتُم: كذَبْتَ، وقال أبو بَكرٍ: صَدَقَ، وواساني بنَفسِه ومالِه، فهل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟! مَرَّتينِ. فما أوذِيَ بَعدَها)) [8787] أخرجه البخاري (3661). .
- مواساةُ أبي طلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولأصحابِه بالطَّعامِ:
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قال أبو طَلحةَ لأمِّ سُلَيمٍ: لقد سمعتُ صَوتَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضعيفًا أعرِفُ فيه الجوعَ، فهل عندكِ مِن شيءٍ؟ قالت: نعم، فأخرَجَتْ أقراصًا من شعيرٍ، ثُمَّ أخرَجَتْ خِمارًا لها، فلفَّت الخُبزَ ببَعْضِه، ثُمَّ دسَّته تحت يَدي ولاثَتْني ببَعْضِه، ثُمَّ أرسلَتْني إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فذهبتُ به فوجدتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجِدِ ومعه النَّاسُ، فقمتُ عليهم، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرسلك أبو طلحةَ؟ فقلتُ: نعم. قال: بطعامٍ؟ قلتُ: نعم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمن معه: قوموا، فانطلَقَ وانطلقتُ بَينَ أيديهم حتى جئتُ أبا طلحةَ فأخبَرْتُه. فقال أبو طلحة: يا أُمَّ سُليمٍ، قد جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ وليس عندنا ما نُطعِمُهم! فقالت: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، فانطَلَق أبو طلحةَ حتى لَقِيَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقبل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو طلحةَ معه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هلمَّ يا أُمَّ سُلَيمٍ ما عندكِ، فأتت بذلك الخُبزِ، فأمَر به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ففُتَّ وعَصَرَت أمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً فأدَمَتْه ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه ما شاءَ اللهُ أَنْ يقولَ، ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَذِنَ لهم فأكلوا حتى شَبِعوا، ثُمَّ خرجوا ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَكل القَومُ كُلُّهم حتى شَبِعوا، والقومُ سبعون أو ثمانون رَجُلًا!)) [8788] أخرجه البخاري (3578) واللفظ له، ومسلم (2040). .
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (فيه قَبولُ مواساةِ الصَّديقِ وأكلُ طعامِه، وأنَّ ذلك ليس بصَدَقةٍ، وإنما كان صِلةً وهديَّةً، ولو كان صدقةً ما أكله رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [8789] ((التمهيد)) (1/290). .
- مُواساةُ الأشعَريِّينَ واقتسامُهم ما عندَهم بالسَّويَّةِ:
عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الأشعَريِّينَ إذا أرمَلوا في الغَزْوِ أو قَلَّ طعامُ عيالِهم بالمدينةِ جَمَعوا ما كان عندَهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمَّ اقتَسَموه بَيْنَهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّويَّةِ، فهم منِّي وأنا منهم)) [8790] أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500). .
قال ابنُ الجوزيِّ: (أرمَلوا: قلَّت أزوادُهم، فمَدَحهم بالإيثارِ والمُواساةِ، وأضافهم إليه؛ لأنَّه غايةُ الكَرَمِ، فقال: «هم منِّي» يعني بأفعالِهم وإن لم يكونوا من أقارِبِه) [8791] ((كشف المشكل)) (1/412). .
- مواساةُ الأنصارِ للمُهاجِرينَ:
عن أنَسِ بنِ مالك رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((لمَّا قدِم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ أتاه المُهاجِرونَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما رأينا قومًا أبذَلَ مِن كثيرٍ ولا أحسَنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزَلْنا بَينَ أظهُرِهم! لقد كفَوْنا المُؤنةَ، وأشرَكونا في المَهنَأِ حتَّى خِفْنا أن يذهَبوا بالأجرِ كلِّه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، ما دعَوتُم اللهَ لهم، وأثنَيتُم بالأجرِ عليهم)) [8792] أخرجه الترمذي (2487) وأحمد (13075). قال الترمذي: صحيحٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجهِ، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي (2487)، وقال ابنُ كثير في البداية والنهاية (3/227): (على شرطِ الشَّيخينِ)، وقال الأرناؤوط في تخريج مسند أحمد (20/361): (إسناده صحيح على شرط الشيخين). وأخرجه أبو داود (4812) مختصرًا دون محلِّ الشاهِدِ. .
- مواساةُ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ رَضِيَ اللهُ عنهما بمالِه:
عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (قَدِم علينا عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، وآخى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينه وبينَ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ، وكان كثيرَ المالِ، فقال سعدٌ: قد عَلِمَت الأنصارُ أني من أكثَرِها مالًا، سأقسِمُ مالي بيني وبينَك شَطرَينِ، ولي امرأتانِ فانظُرْ أعجَبَهما إليك فأُطَلِّقُها، حتى إذا حَلَّت تزَّوجْتَها! فقال عبدُ الرَّحمنِ: بارك اللهُ لك في أهلِك) [8793] أخرجه البخاري (3781). .
- مواساةُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه للمُسلِمين في عامِ الرَّمادةِ:
عن ابنِ شهابٍ أنَّ سالِمًا أخبره أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ أخبره: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال عامَ الرَّمادةِ -وكانت سَنةً شديدةً مُلِمَّةً، بعدما اجتَهَد عمَرُ في إمدادِ الأعرابِ بالإبلِ والقَمحِ والزَّيتِ من الأريافِ كُلِّها، حتَّى بَلَحَت [8794] بلَحَت: كلَّت وعَجَزت عن إعطاءِ المزيدِ. ينظر ((المخصص)) لابن سيده (3/27). الأريافُ كُلُّها ممَّا جَهَدَها ذلك- فقام عُمَرُ يدعو فقال: اللَّهُمَّ اجعَلْ رزقَهم على رؤوسِ الجبالِ، فاستجاب اللهُ له وللمُسلِمين، فقال حين نَزَل به الغيثُ: الحَمدُ للهِ، فواللهِ لو أنَّ اللهَ لم يُفرِجْها ما تركتُ بأهلِ بيتٍ من المُسلِمين لهم سَعةٌ إلَّا أدخَلْتُ معهم أعدادَهم من الفقراءِ، فلم يكُنِ اثنانِ يَهلِكان من الطَّعامِ على ما يُقيمُ واحِدًا!) [8795] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (562). صحَّح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (438). .
وقد كان أميرُ المُؤمِنين عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه لا يُشبِعُ بَطنَه عامَ الرَّمادةِ حتى ذهب الجَدبُ، وأتى الخِصبُ!
قال الشَّافعيُّ: بلغَني أنَّ رجلًا من العَرَبِ قال لعُمَرَ حينَ ترحَّل الأحياءُ عن المدينةِ: (لقد انجَلَت عنك وإنَّك لابنِ حُرَّةٍ!)، أي: واسيتَ النَّاسَ، وأنصَفْتَهم، وأحسَنْتَ إليهم [8796] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/ 501) و (10/ 69). .
- مواساةُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه للعَجوزِ العمياءِ المُقعَدةِ:
عن الأوزاعيِّ: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه خرَج في سوادِ اللَّيلِ فرآه طلحةُ، فذهب عُمَرُ فدخَل بيتًا، ثمَّ دخَل آخَرَ، فلمَّا أصبح طَلحةُ ذهَب إلى ذلك البيتِ، فإذا بعجوزٍ عمياءَ مُقعَدةٍ، فقال لها: ما بالُ هذا الرَّجُلِ يأتيك؟ قالت: إنَّه يتعاهَدُني منذُ كذا وكذا يأتيني بما يُصلِحُني، ويخرِجُ عني الأذى! فقال طلحةُ: ثَكِلَتْك أمُّك يا طَلحةُ! أعثَراتِ عُمَرَ تتبَعُ؟!) [8797] أخرجه أبو نُعيم في «حلية الأولياء» (1/47). .
- مواساةُ الأنصاريِّ وامرأتِه:
عن أبي هُرَيرةَ، قال: ((جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إني مجهودٌ، فأرسَلَ إلى بعضِ نسائِه، فقالت: والذي بعَثَك بالحَقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ، ثمَّ أرسل إلى أخرى، فقالت مِثلَ ذلك، حتى قُلنَ كلُّهنَّ مِثلَ ذلك: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ! فقال: من يُضيفُ هذا اللَّيلةَ رحمه اللهُ؟ فقام رجلٌ من الأنصارِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ، فانطلق به إلى رَحلِه، فقال لامرأتِه: هل عندكِ شيءٌ؟ قالت: لا، إلَّا قوتَ صِبياني. قال: فعَلِّلِيهم بشيءٍ، فإذا دخَل ضيفُنا فأطفِئي السِّراجَ، وأريه أنَّا نأكُلُ، فإذا أهوى ليأكُلَ فقومي إلى السِّراجِ حتَّى تُطفئيه! قال: فقَعَدوا وأكلَ الضَّيفُ، فلمَّا أصبح غدا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: قد عَجِب اللهُ مِن صنيعِكما بضَيفِكما اللَّيلةَ!)) [8798] أخرجه البخاري (3798) ومسلم (2054) واللفظ له. .
قال النَّوويُّ: (هذا الحديثُ مشتَمِلٌ على فوائِدَ كثيرةٍ؛ منها: ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأهلُ بيتِه من الزُّهدِ في الدُّنيا والصَّبرِ على الجوعِ وضِيقِ حالِ الدُّنيا، ومنها: أنَّه ينبغي لكبيرِ القومِ أن يبدأَ في مواساةِ الضَّيفِ ومن يَطرُقُهم بنفسِه، فيواسيَه من مالِه أوَّلًا بما يتيسَّرُ إن أمكنه، ثمَّ يطلُبَ له على سبيلِ التَّعاوُنِ على البِرِّ والتَّقوى من أصحابِه، ومنها المُواساةُ في حالِ الشَّدائدِ...) [8799] ((شرح النووي على مسلم)) (14/ 12). .
- امرأةٌ من الأنصارِ تواسي عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في محنتِها وتبكي معها:
تقولُ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: (بكيتُ يومي لا يرقَأُ لي دَمعٌ، ولا أكتَحِلُ بنَومٍ، فأصبَح عندي أبواي، وقد بكَيتُ ليلتَينِ ويومًا، حتى أظُنُّ أنَّ البكاءَ فالِقٌ كَبِدي! قالت: فبينا هما جالسانِ عندي وأنا أبكي، إذ استأذَنَت امرأةٌ من الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجَلَسَت تبكي معي) [8800] أخرجه البخاري (2661) مسلم (2770). .

انظر أيضا: