موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من المُروءةِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


كان لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرُّتبةُ العليا في المُروءةِ؛ فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الموصوفُ بكُلِّ صفةٍ حميدةٍ، المجانِبُ لكُلِّ خَصلةٍ ذميمةٍ، فإليه المنتهى في المُروءةِ وخِصالِها الجميلةِ، وإليك طرَفًا يسيرًا من مروءاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
- قال القاضي عِياضٌ: (ومن مروءتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهيُه عن النَّفخِ في الطَّعامِ والشَّرابِ، والأمرُ بالأكلِ ممَّا يلي، والأمرُ بالسِّواكِ، وإنقاءُ البراجِمِ [8459] البراجِمُ: هي العُقَدُ التي في ظُهورِ الأصابعِ يجتَمِعُ فيها الوَسخُ، الواحِدةُ بُرجُمةٌ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/113). والرَّواجِبِ [8460] الرَّواجِبُ: مفاصِلُ أُصولِ الأصابعِ التي تلي الأنامِلَ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (2/486). ، واستعمالُ خِصالِ الفِطرةِ) [8461] ((الشفا)) (1/277). .
- وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((ما ضرَب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا قطُّ بيَدِه ولا امرأةً ولا خادِمًا، إلَّا أن يجاهِدَ في سبيلِ اللهِ، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتَقِمُ من صاحِبِه، إلَّا أن يُنتَهَكَ شيءٌ من محارمِ اللهِ، فينتَقِمَ للهِ عزَّ وجَلَّ)) [8462] أخرجه مسلم (2328). .
- وعن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كنَّا في سَفَرٍ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... الحديثَ، وفيه: سار النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاشتكى إليه النَّاسُ من العطَشِ، فنزل فدعا فلانًا -كان يُسَمِّيه أبو رجاءٍ نَسِيه عوفٌ- ودعا عليًّا فقال: اذهبا فابتَغِيا الماءَ، فانطَلَقا فتلَقَّيا امرأةً بَيْنَ مزادَتَينِ -أو سطيحتَينِ [8463] المزادةُ: الرَّاويةُ، وهي في الأصلِ لِما يوضَعُ فيه الزَّادُ. والسَّطيحةُ: نوعٌ من المزادةِ يكونُ من جِلدَينِ قوبِلَ أحدُهما بالآخَرِ فسُطِح عليه. يُنظَر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (12/ 3766). - من ماءٍ على بعيرٍ لها، فقالا لها: أين الماءُ؟ قالت: عهدي بالماءِ أمسِ هذه السَّاعةَ ونَفَرُنا خُلوفًا، قالا لها: انطَلِقي إذًا. قالت: إلى أينَ؟ قالا: إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قالت: الذي يُقالُ له الصَّابئ [8464] الصَّابئُ مِن صَبَأَ، أي: خرج من دينٍ إلى آخَرَ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (1/ 376). ؟! قالا: هو الذي تَعنينَ، فانطَلِقي، فجاءا بها إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحدَّثاه الحديثَ، قال: فاستَنزَلوها عن بعيرِها. ودعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإناءٍ ففَرَّغ فيه من أفواهِ المزادتَينِ أو السَّطيحتينِ، وأوكأ أفواهَهما [8465] أوكأَ أفواهَهما: أي: ربَط العُليا. والوِكاءُ: اسمٌ لِما يُشَدُّ به من خيطٍ ونحوِه. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 472). وأطلَق العَزاليَ [8466] العَزالي: جَمعُ عَزْلى: وهي فمُ المزادةِ الأسفَلُ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 156). ونودِيَ في النَّاسِ: اسقُوا واستَقوا، فسقى من شاء واستقى من شاء، وكان آخِرُ ذاك أن أعطى الذي أصابَتْه الجنابةُ إناءً من ماءٍ، قال: اذهَبْ فأفرِغْه عليك، وهي قائمةٌ تنظُرُ إلى ما يُفعَلُ بمائِها، وايمُ اللهِ لقد أُقلِعَ عنها وإنَّه ليُخَيَّلُ إلينا أنَّها أشَدُّ مِلْأةً منها حين ابتدأَ فيها! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اجمعوا لها، فجمعوا لها مِن بَيْنِ عَجوةٍ ودُقَيقةٍ وسُوَيقةٍ حتَّى جَمعوا لها طعامًا، فجعَلوها في ثوبٍ وحَمَلوها على بعيرِها ووضَعوا الثَّوبَ بَيْنَ يَدَيها، قال لها: تَعْلَمين ما رَزِئْنا من مائِك شيئًا [8467] أي: ما نقَصْنا، ولا أخَذْنا منه شيئًا. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/ 276). ، ولكِنَّ اللهَ هو الذي أسقانا! فأتت أهلَها وقد احتَبَسَت عنهم، قالوا: ما حَبَسَكِ يا فلانةُ؟! قالت: العَجَبُ! لَقِيني رجلانِ فذَهَبا بي إلى هذا الذي يُقالُ له الصَّابئُ، ففعل كذا وكذا، فواللهِ إنَّه لأسحَرُ النَّاسِ من بَيْنِ هذه وهذه -وقالت بإصبَعَيها الوُسطى والسَّبَّابةِ فرفَعَتْهما إلى السَّماءِ، تعني السَّماءَ والأرضَ- أو إنَّه لرسولُ اللهِ حَقًّا، فكان المُسلِمون بعد ذلك يُغيرون على مَن حولها من المُشرِكين، ولا يُصيبون الصِّرْمَ [8468] الصِّرْمُ: الفِرْقةُ من النَّاسِ ليس بالكثيرِ، وقيل: الأبياتُ المجتَمِعةُ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 473)، ((شرح النووي على مسلم)) (5/ 192). الذي هي منه، فقالت يومًا لقَومِها: ما أُرى أنَّ هؤلاء القومَ يَدَعونكم عَمدًا، فهل لكم في الإسلامِ؟ فأطاعوها فدخَلوا في الإسلامِ)) [8469] أخرجه البخاري (344) واللفظ له ومسلم (682). .
- عن عبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جيشًا ... فأمهَلَ آلَ جعفَرٍ ثلاثًا أن يأتيَهم، ثمَّ أتاهم فقال: لا تَبْكوا على أخي بَعدَ اليَومِ، ادعوا إليَّ ابنَيْ أخي، قال: فجيءَ بنا كأنَّا أفرُخٌ، فقال: ادعوا لي الحَلَّاقَ، فجيءَ بالحَلَّاقِ فحَلَقَ رُؤوسَنا، قال: أمَّا مُحمَّدٌ فشَبيهُ عَمِّنا أبي طالِبٍ، وأمَّا عَبدُ اللهِ فشَبيهُ خَلْقي وخُلُقي، ثُمَّ أخَذَ بيَدي فأَشالَها فقال: اللَّهُمَّ اخلُفْ جَعفَرًا في أهلِه، وبارِكْ لعَبدِ اللهِ في صَفقةِ يَمينِه، قالها ثَلاثَ مِرارٍ، قال: فجاءَت أُمُّنا فذَكَرَتْ له يُتْمَنا، وجَعَلَتْ تُفرِحُ له، فقال: العَيلةَ تَخافينَ عليهم، وأنا وَلِيُّهم في الدُّنيا والآخِرةِ؟!)) [8470] أخرجه أبو داود (4192) مختصرًا، وأحمد (1750) واللفظ له. صحَّحه الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (5/430)، والنووي في ((المجموع)) (1/296)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4192)، وفي ((فقه السيرة)) (370)، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (165). .
- وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسَنَ النَّاسِ، وأجوَدَ النَّاسِ، وأشجَعَ النَّاسِ، ولقد فَزِع أهلُ المدينةِ ذاتَ ليلةٍ، فانطلق النَّاسُ قِبَلَ الصَّوتِ، فاستقبَلَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد سَبَق النَّاسَ إلى الصَّوتِ! وهو يقولُ: لن تُراعُوا، لن تُراعُوا! وهو على فَرَسٍ لأبي طَلحةَ عُرْيٍ ما عليه سَرْجٌ! في عُنُقِه سَيفٌ، فقال: لقد وجَدْتُه بحرًا، أو: إنَّه لبَحرٌ)) [8471] أخرجه البخاري (6033) واللفظ له، ومسلم (2307). .
- وعن أبي إسحاقَ قال: جاء رجلٌ إلى البراءِ، فقال: أكُنتُم وَلَّيتُم يومَ حُنَينٍ يا أبا عُمارةَ؟ فقال: أشهَدُ على نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما وَلَّى، ولكِنَّه انطلق أخِفَّاءُ من النَّاسِ وحُسَّرٌ إلى هذا الحَيِّ من هوازِنَ، وهم قومٌ رُماةٌ، فرَمَوهم برِشْقٍ من نَبلٍ كأنَّها رِجْلٌ مِن جَرادٍ، فانكشفوا، فأقبل القومُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبو سُفيانَ بنُ الحارِثِ يقودُ به بَغْلَتَه، فنزل ودعا واستنصَرَ، وهو يقولُ: ((أنا النَّبيُّ لا كَذِبْ ... أنا ابنُ عَبدِ المُطَّلِبْ. اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَك))، قال البراءُ: (كُنَّا واللهِ إذا احمَرَّ البأسُ نتَّقي به، وإنَّ الشُّجاعَ مِنَّا لَلَّذي يحاذي به، يعني النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [8472] أخرجه البخاري (2930) بنحوه، ومسلم (1776) واللفظ له .
- وعن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتقاضاه فأغلَظ، فهمَّ به أصحابُه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعوه؛ فإنَّ لصاحِبِ الحقِّ مقالًا، ثُمَّ قال: أعطوه سِنًّا مِثلَ سِنِّه، قالوا: يا رسولَ اللهِ، لا نجِدُ إلَّا أمثَلَ مِن سِنِّه، فقال: أعطوه؛ فإنَّ مِن خيرِكم أحسَنَكم قَضاءً)) [8473] أخرجه البخاري (2306) واللفظ له، ومسلم (1601). .
- وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((غزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غزوةَ نَجدٍ، فلمَّا أدركَتْه القائِلةُ، وهو في وادٍ كَثيرِ العِضاهِ، فنَزَل تحتَ شَجرةٍ واستظَلَّ بها وعلَّق سيفَه، فتفرَّق النَّاسُ في الشَّجَرِ يَستَظِلُّون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجِئْنا، فإذا أعرابيٌّ قاعدٌ بَينَ يَدَيه، فقال: إنَّ هذا أتاني وأنا نائمٌ، فاختَرَط سيفي، فاستيقَظْتُ وهو قائِمٌ على رأسي، مختَرِطٌ سيفي صَلْتًا، قال: من يمنَعُك مني؟ قلتُ: اللهُ، فشامَه ثم قَعَد، فهو هذا. قال: ولم يعاقِبْه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [8474] أخرجه البخاري (4139) واللفظ له، ومسلم (843). .
-وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بعَث رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيلًا قِبَلَ نَجدٍ، فجاءت برجُلٍ مِن بَني حَنيفةَ، يُقالُ له: ثُمامةُ بنُ أُثالٍ، سيِّدُ أهلِ اليَمامةِ، فربَطوه بساريةٍ مِن سَواري المسجدِ، فخرَج إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ماذا عندَك يا ثُمامةُ؟ قال: عِندي يا محمَّدُ خَيرٌ؛ إن تقتُلْ تقتُلْ ذا دَمٍ، وإن تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكِرٍ، وإن كنْتَ تُريدُ المالَ فسَلْ تُعطَ منه ما شِئْتَ، فترَكه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى إذا كان الغدُ، ثُمَّ قال له: ما عِندك يا ثُمامةُ؟ فأعاد مِثلَ هذا الكلامِ، فترَكه حتَّى كان بَعدَ الغدِ فذكَر مِثلَ هذا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أطلِقوا ثُمامةَ، فانطلَق إلى نَخلٍ قريبٍ مِن المسجدِ، فاغتسَل فيه، ثُمَّ دخل المسجدَ، فقال: أشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عَبدُه ورسولُه، يا محمَّدُ، واللهِ ما كان على الأرضِ وَجهٌ أبغَضَ إليَّ من وَجهِك، فقد أصبح وجهُك أحبَّ الوُجوهِ إليَّ، واللهِ ما كان من دينٍ أبغَضَ إليَّ من دينِك، فأصبح دينُك أحَبَّ الدِّينِ إليَّ، واللهِ ما كان من بَلَدٍ أبغَضَ إليَّ من بلَدِك، فأصبح بلَدُك أحبَّ البلادِ إليَّ، وإنَّ خيلَك أخذَتْني وأنا أريدُ العُمرةَ، فماذا ترى؟ فبَشَّرَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمَرَه أن يعتَمِرَ، فلمَّا قَدِم مكَّةَ قال له قائِلٌ: صَبَوتَ؟! قال: لا، ولكِنْ أسلَمْتُ مع محمَّدٍ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا واللهِ لا يأتيكم من اليمامةِ حَبَّةُ حِنطةٍ حتى يأذَنَ فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [8475] أخرجه البخاري (4372) واللفظ له، ومسلم (1764). . والأمثلةُ كثيرةٌ جِدًّا، وفيما ذكَرْنا كفايةٌ.

انظر أيضا: