موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: أنواعُ السِّرِّ والكِتمانِ وأقسامُهما


أنواعُ السِّرِّ:
قال الرَّاغِبُ الأصفَهانيُّ: (السِّرُّ ضَربانِ؛ أحَدُهما: ما يُلقي الإنسانُ من حديثٍ يُستكتَمُ، وذلك إمَّا لفظًا، كقَولِك لغيرِك: اكتُمْ ما أقولُ لك، وإمَّا حالًا، وهو أن يتحرَّى القائِلُ حالَ انفرادِه فيما يورِدُه، أو يخفِضَ صَوتَه، أو يُخفيَه عن مُجالِسيه؛ ولهذا قيل: إذا حَدَّثَك الإنسانُ بحديثٍ فالتَفَت، فهو أمانةٌ.
والثَّاني: أن يكونَ حديثًا في نفسِك بما تَستقبِحُ إشاعتَه، أو شيئًا تريدُ فِعلَه...
وكِتمانُ النَّوعِ الأوَّلِ من الوَفاءِ، ويختَصُّ بعامَّةِ النَّاسِ، والثَّاني من الحَزمِ والاحتياطِ، وهو مختَصٌّ بالملوكِ وأصحابِ السِّياساتِ... والسَّبَبُ في أنَّه يَصعُبُ كِتمانُ السِّرِّ هو: أنَّ للإنسانِ قوَّتينِ؛ آخِذةٌ، ومعطيةٌ. وكلتاهما تتشوَّفُ إلى الفِعلِ المختَصِّ بها، ولولا أنَّ اللهَ تعالى وَكَّل المعطيةَ بإظهارِ ما عندَها لَما أتاك بالأخبارِ مَن لم تُزَوِّدْه، فصارَت هذه القُوَّةُ تتشوَّفُ إلى فِعلِها الخاصِّ بها؛ فعلى الإنسانِ أن يُمسِكَها ولا يُطلِقَها إلى حيثُ ما يجِبُ إطلاقُها، ولا يخدَعَنَّك عن سَرِّك قولُ مَن قال: وأكتُمُ السِّرَّ فيه ضربةُ العُنُقِ.
وقولُ مَن يُنشِدُك:
ويكاتِمُ الأسرارَ حتَّى كأنَّه
ليَصونُها عن أن تَمُرَّ ببالِهِ
فذلك قولُ مَن يَستَنزِلُك عمَّا في قَلبِك، فإذا استَفرَغَ ما عندَك لم يَرْعَ فيه حَقَّك؛ فقد قيل: الصَّبْرُ على القَبضِ على الجَمرِ أيسَرُ من الصَّبرِ على كِتمانِ السِّرِّ. وما أصدَقَ من أنبَأَ عن حقيقةِ حالِه؛ حيثُ قال له صديقُه: أريدُ أن أُفشِيَ إليك سِرًّا تحفَظُه عَلَيَّ، فقال: لا أريدُ أن أوذِيَ قلبي بنَجْواك، وأجعَلَ صَدري خِزانةَ شَكواك؛ فيُقلِقَني ما أقلَقَك، ويُؤَرِّقَني ما أرَّقَك، فتَبيتَ بإفشائِه مُستريحًا، ويَبيتَ قلبي بحَرِّه جريحًا!) [7912] يُنظَر: ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 212، 213). .
ويمكِنُ أن تُقَسَّمَ الأسرارُ إلى قِسمَينِ؛ الأوَّلُ: أسرارٌ خاصَّةٌ، وتشمَلُ الأسرارَ الشَّخصيَّةَ الخاصَّةَ، وأسرارَ الغَيرِ.
والقِسمُ الثَّاني: الأسرارُ العامَّةُ، وهي التي تخُصُّ الهيئاتِ والمُؤَسَّساتِ المملوكةَ للدَّولةِ، وهي أسرارٌ تحظى بالرِّعايةِ والأهمِّيَّةِ بما يوجِبُ حِفظَها وعَدَمَ نَشْرِها [7913] يُنظَر: ((كتمان السر وإفشاؤه في الفقه الإسلامي)) لشريف بن أدول (ص: 27). .
أنواعُ الكِتمانِ:
الأوَّلُ: الكِتمانُ المحمودُ، وهو ضَربٌ من الأمانةِ، ونوعٌ من الوفاءِ، وعلامةٌ على الوَقارِ، وهو كِتمانُ سِرِّ الغيرِ أو النَّفسِ، وهو مَناطُ هذه الصِّفةِ ومَعقِدُها.
الثَّاني: الكِتمانُ المذمومُ، وهو على ضربَينِ أيضًا:
أ- كِتمانُ الشَّهادةِ: وقد ذمَّه المولى عزَّ وجَلَّ في قولِه: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] .
ب- كِتمانُ ما أنزَل اللهُ: وقد أخَذ اللهُ عزَّ وجَلَّ العهدَ على الأنبياءِ والمُرسَلين بألَّا يكتُموا ممَّا أُوحيَ إليهم شيئًا، وتوعَّد مَن يفعَلُ ذلك بذُلِّ الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ، فقال عزَّ مِن قائِلٍ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 174] ، وقال أيضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] [7914] يُنظَر: ((نضرة النعيم)) (8/ 3205، 3206). .

انظر أيضا: