موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- عِندَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ


ذكاءُ وفِطنةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في جِدالِه حتَّى بَهَتَ خَصمَه وقَطَع حُجَّتَه:
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258] .
قال السَّعديُّ: (قال ذلك الجبَّارُ مباهِتًا: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ وعنى بذلك أنِّي أقتُلُ من أردتُ قَتلَه، وأستبقي من أردتُ استبقاءَه، ومن المعلومِ أنَّ هذا تمويهٌ وتزويرٌ، وحَيدةٌ عن المقصودِ، وأنَّ المقصودَ أنَّ اللهَ تعالى هو الذي تفرَّد بإيجادِ الحياةِ في المعدوماتِ، ورَدِّها على الأمواتِ، وأنَّه هو الذي يميتُ العبادَ والحيواناتِ بآجالِها، بأسبابٍ ربطَها وبغيرِ أسبابٍ، فلمَّا رآه الخليلُ مُموِّهًا تمويهًا ربما راج على الهمَجِ الرَّعاعِ، قال إبراهيمُ مُلزِمًا له بتصديقِ قَولِه إن كان كما يَزعُمُ: فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي: وَقَف، وانقَطَعت حجَّتُه، واضمحَلَّت شبهتُه، وليس هذا من الخليلِ انتقالًا من دليلٍ إلى آخَرَ، وإنَّما هو إلزامٌ لنُمرودَ، بطَردِ دليلِه إن كان صادقًا، وأتى بهذا الذي لا يقبَلُ التَّرويجَ والتَّزويرَ والتَّمويهَ) [7523] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 955). .
فِطنةُ وذَكاءُ إسماعيلَ عليه السَّلامُ:
- قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فجاء إبراهيمُ بعدَ ما تزوَّج إسماعيلُ يطالِعُ تَرِكتَه [7524] تَرِكَتَه، أي: وَلَدَه الذي ترَكَه هناك. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 92). فلم يجِدْ إسماعيلَ، فسأل امرأتَه عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثمَّ سألها عن عَيشِهم، وهيئتِهم فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضِيقٍ وشِدَّةٍ! فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجُكِ فاقرَئِي عليه السَّلامَ، وقولي له يُغَيِّرْ عَتبةَ بابِه! فلمَّا جاء إسماعيلُ كأنَّه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحَدٍ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسَأَلَنا عنك فأخبَرْتُه، وسألني كيف عَيشُنا، فأخبَرْتُه أنَّا في جَهدٍ وشِدَّةٍ، قال: فهل أوصاك بشَيءٍ؟ قالت: نعم، أمَرَني أن أقرَأَ عليك السَّلامَ، ويقولُ: غَيِّرْ عَتَبةَ بابِك، قال: ذاك أبي، وقد أمَرَني أن أفارِقَكِ، الحَقي بأهلِك)) [7525] رواه البخاري (3364) مطوَّلًا. .
فِطنةُ وذَكاءُ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ:
- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كانت امرأتانِ معهما ابناهما، جاء الذِّئبُ فذهب بابنِ إحداهما، فقالت صاحِبَتُها: إنَّما ذهَب بابنِك، وقالت الأُخرى: إنَّما ذهَب بابنِك، فتحاكَمَتا إلى داودَ، فقضى به للكُبرى، فخرجَتَا على سُلَيمانَ بنِ داودَ، فأخبَرَتاه، فقال: ائتوني بالسِّكينِ أشُقَّه بَيْنَهما، فقالت الصُّغرى: لا تفعَلْ يرحمُك اللهُ، هو ابنُها، فقضى به للصُّغرى)) [7526] رواه البخاري (3427) واللفظ له، ومسلم (1720). .
قال ابنُ الجوزيِّ: (أمَّا داودُ عليه السَّلامُ فرأى استواءَهما في اليَدِ، فقدَّم الكُبرى لأجْلِ السِّنِّ، وأمَّا سُلَيمانُ عليه السَّلامُ فرأى الأمرَ مُحتَمِلًا، فاستنبَطَ فأحسَنَ، فكان أحَدَّ فِطنةً من داودَ، وكِلاهما حكَم بالاجتهادِ؛ لأنَّه لو كان داودُ حَكَم بالنَّصِّ لم يَسَعْ سُلَيمانَ أن يحكُمَ بخِلافِه، ولو كان ما حَكَم به نصًّا لم يخْفَ على داودَ، وهذا الحديثُ يدُلُّ على أنَّ الفِطنةَ والفَهمَ مَوهِبةٌ لا بمقدارِ السِّنِّ) [7527] ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (3/510). .
نماذِجُ من الفِطنةِ والذَّكاءِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قال القاضي عِياضٌ: (أمَّا وُفورُ عَقلِه، وذَكاءُ لُبِّه، وقُوَّةُ حواسِّه، وفصاحةُ لِسانِه، واعتدالُ حَرَكاتِه، وحُسنُ شمائِلِه- فلا مِريةَ أنَّه كان أعقَلَ النَّاسِ وأذكاهم، ومَن تأمَّل تدبيرَه أمْرَ بواطِنِ الخَلقِ وظواهِرِهم، وسياسةَ العامَّةِ والخاصَّةِ، مع عجيبِ شمائلِه وبديعِ سِيَرِه، فضلًا عمَّا أفاضه من العِلمِ وقرَّره من الشَّرعِ، دونَ تعَلُّمٍ سَبَق، ولا ممارَسةٍ تقَدَّمَت، ولا مُطالعةٍ للكُتُبِ منه- لم يَمْتَرِ في رُجحانِ عَقلِه وثُقوبِ فَهمِه لأوَّلِ بديهةٍ، وهذا لا يحتاجُ إلى تقريرِه لتحَقُّقِه) [7528] ((الشفا)) (1/161-162). .
- وقد جاء في صِفةِ خَلقِه وشمائِلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما فيه إشارةٌ إلى فِطنتِه وذَكائِه:
فقد جاء في وَصفِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (كان ضَخْمَ الرَّأسِ واليدينِ والقَدَمَينِ) [7529] أخرجه البخاري (5907) دون قوله: (ضَخْمَ الرَّأسِ). وقولُه: (ضَخْمَ الرَّأسِ). أخرجه الترمذي (3637)، وأحمد (1053) من حديثِ علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذيِّ: (لم يكُنْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالطَّويلِ ولا بالقصيرِ شَثْنَ الكفَّين والقَدَمينِ، ضَخْمَ الرَّأسِ ...). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (6311)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3637)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (4194). .
(ضَخْمَ الرَّأسِ: أي: عظيمَه؛ لأنَّه يدُلُّ على قوَّةِ الحواسِّ والذَّكاءِ والفِطنةِ) [7530] ((منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول)) لعبد اللهِ بن سعيد المراوعي (1/ 211). .
وقال عامِرُ بنُ واثِلةَ: (رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما على وَجهِ الأرضِ رجُلٌ رآه غيري، قال: فقُلتُ له: فكيف رأيتَه؟ قال: كان أبيضَ مَليحًا مُقَصَّدًا) [7531] أخرجه مسلم (2340). .
(يُقالُ: رجُلٌ مُقَصَّدٌ، أي: متوسِّطٌ، كما يُقالُ: رَجُلٌ قَصْدٌ، أي: وَسَطٌ... والمرادُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متوسِّطٌ بَيْنَ الطُّولِ والقِصَرِ، وبَينَ الجَسامةِ والنَّحافةِ، بل جميعُ صِفاتِه على غايةٍ من الأمرِ الوَسَطِ؛ فكان في لونِه وهيكَلِه وشَعرِه وشَرعِه مائلًا عن طرَفَي الإفراطِ والتَّفريطِ. وأمَّتُه وَسَطٌ بَيْنَ الأمَمِ، وكان في قُواه كذلك؛ فكان معتَدِلَ القُوى، واعتِدالُها: ألَّا يخرُجَ إلى حَدِّ الإفراطِ والتَّفريطِ، ألا ترى أنَّ اعتدالَ قُوى العَقلِ يُعَبَّرُ عنه بالفِطنةِ والكَياسةِ) [7532] ((منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول)) لعبد اللهِ بن سعيد المراوعي (1/ 260). .
- وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بالُ أقوامٍ يتنَزَّهون عن الشَّيءِ أصنَعُه؟! فواللهِ إني لأعلَمُهم باللهِ وأشَدُّهم له خَشيةً)) [7533] أخرجه البخاري (6101) واللفظ له، ومسلم (2356) من حديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها .
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (إنما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلَمَ النَّاسِ باللهِ؛ لِما خصَّه اللهُ تعالى به في أصلِ الخِلقةِ من كَمالِ الفِطنةِ، وجودةِ القريحةِ، وسَدادِ النَّظَرِ، وسُرعةِ الإدراكِ، ولِما رفَع اللهُ عنه من موانِعِ الإدراكِ) [7534] ((المفهم)) (6/150). .
- عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لمَّا قَدِمْنا المدينةَ أصَبْنا من ثمارِها فاجتَوَيناها، وأصابَنا بها وَعْكٌ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتخبَّرُ عن بدرٍ، فلمَّا بلَغَنا أنَّ المُشرِكين قد أقبلوا سار رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بَدرٍ -وبدرٌ بِئرٌ- فسبَقَنا المُشرِكون إليها، فوجَدْنا فيها رجُلَينِ منهم؛ رجلًا من قُرَيشٍ، ومولًى لعُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، فأمَّا القُرَشيُّ فانفَلَت، وأمَّا مولى عُقبةَ فأخَذْناه، فجعَلْنا نقولُ له: كم القومُ؟ فيقولُ: هم -واللهِ- كثيرٌ عَدَدُهم، شديدٌ بأسُهم، فجعل المُسلِمون إذ قال ذلك ضربوه، حتى انتَهَوا به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له: كم القومُ؟ قال: هم -واللهِ- كثيرٌ عَدَدُهم، شديدٌ بأسُهم. فجَهَد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخبِرَه: كم هم؟ فأبى، ثم إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سأله: كم يَنحَرون من الجُزُرِ [7535] الجُزُرُ: جَمعُ جَزورٍ، وهو البعيرُ ذَكَرًا كان أو أنثى. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير(1/266). ؟ فقال: عَشرًا كُلَّ يومٍ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: القَومُ ألفٌ، كُلَّ جَزورٍ لمائةٍ وتَبَعِها) [7536] رواه أحمد (948)، وابن أبي شيبة (37834)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (3/62) مطوَّلًا. صحَّحه الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (311)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/193)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (948)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/78): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ، غيرَ حارثةَ بنِ مُضَرِّبٍ، وهو ثِقةٌ. .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يشكو جارَه، فقال: اذهَبْ فاصبِرْ، فأتاه مرَّتينِ أو ثلاثًا، فقال: اذهَبْ فاطرَحْ متاعَك في الطَّريقِ، فطرح متاعَه في الطَّريقِ، فجعَل النَّاسُ يسألونه فيُخبِرُهم خَبَرَه، فجعل النَّاسُ يَلعَنونه: فَعَل اللهُ به، وفَعَل وفَعَل، فجاء إليه جارُه فقال له: ارجِعْ، لا ترى مني شيئًا تكرهُه)) [7537] أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (5153) واللفظ له، وابن حبان (520)، والحاكم (7302) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5153)، وصحَّح أسانيدَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/594). .
- عن وائلِ بنِ حُجْرٍ قال: ((إنِّي لقاعِدٌ معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاء رجُلٌ يقودُ آخَرَ بنِسْعةٍ [7538] النِّسْعةُ: سَيرٌ مَضفورٌ، يُجعَلُ زِمامًا للبعيرِ وغيرِه. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/ 48). ، قال: يا رسولَ اللهِ، هذا قتَل أخي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أقتَلْتَه؟، فقال: إنَّه لو لم يعترِفْ أقمْتُ عليه البيِّنةَ، قال: نعَم قتَلْتُه، قال: كيف قتَلْتَه؟ قال: كنْتُ أنا وهو نختبِطُ [7539] أي: نجمَعُ الخَبَطَ، وهو وَرَقُ الثَّمَرِ بأن يُضرَبَ الشَّجَرُ بالعصا فيَسقُطَ ورَقُه فيَجمَعَه. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 172). مِن شَجرةٍ، فسبَّني، فأغضَبني، فضرَبْتُه بالفأسِ على قَرنِه فقتَلْتُه. فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل لك من شيءٍ تؤَدِّيه عن نفسِك؟ قال: ما لي مالٌ إلَّا كِسائي وفأسي. قال: فترى قومَك يشترونَك؟ قال: أنا أهونُ على قومي من ذاك. فرمى إليه بنِسعةٍ. وقال: دونَك صاحِبَك. فانطَلَق به الرَّجُلُ. فلمَّا ولَّى قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنْ قَتَله فهو مِثلُه. فرجع فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّه بلغني أنَّك قُلتَ: إنْ قَتَله فهو مِثلُه. وأخَذْتُه بأمرِك! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَا تريدُ أن يبوءَ بإثمِك وإثمِ صاحِبِك؟ قال: يا نبيَّ اللهِ -لعَلَّه قال- بلى. قال: فإنَّ ذاك كذاك. قال: فرمى بنِسْعَتِه، وخلَّى سبيلَه)) [7540] رواه مسلم (1680). .
قال ابنُ قُتَيبةَ: (لم يُرِدْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه مِثلُه في المأثمِ واستيجابِ النَّارِ إنْ قَتَله، وكيف يريدُ هذا وقد أباح اللهُ عزَّ وجَلَّ قَتْلَه بالقِصاصِ، ولكِنْ كَرِه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقتَصَّ، وأحَبَّ له العفوَ، فعَرَّض تعريضًا أوهمَه به أنَّه إن قتَلَه كان مِثلَه في الإثمِ؛ ليعفوَ عنه، وكان مرادُه: أنَّه يَقتُلُ نفسًا كما قَتَل الأوَّلُ نَفسًا، فهذا قاتِلٌ، وهذا قاتِلٌ؛ فقد استَوَيا في قاتِلٍ وقاتلٍ، إلَّا أنَّ الأوَّلَ ظالمٌ، والآخَرَ مقتَصٌّ) [7541] ((الأذكياء)) لابن الجوزي (ص: 22). .
- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، فقال المُشرِكون: إنَّه يَقدَمُ عليكم وقد وَهَنهم حُمَّى يَثرِبَ، فأمَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَرمُلوا الأشواطَ الثَّلاثةَ، وأن يمشُوا ما بَيْنَ الرُّكنينِ، ولم يمنَعْه أن يأمُرَهم أن يَرمُلوا الأشواطَ كُلَّها إلَّا الإبقاءُ عليهم)) [7542] أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266). .
(جاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سنةَ سِتٍّ من الهجرةِ إلى مكَّةَ مُعتَمِرًا، ومعه كثيرٌ من أصحابِه. فخرج لقتالِه وصَدِّه عن البيتِ كُفَّارُ قُرَيشٍ، فحصل بَيْنَهم صُلحٌ، من موادِّه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه يَرجِعون هذا العامَ، ويأتون في العامِ القابِلِ معتَمِرين، ويُقيمون في مكَّةَ ثلاثةَ أيَّامٍ. فجاؤوا في السَّنةِ السَّابعةِ لعُمرةِ القضاءِ. فقال المُشرِكون بعضُهم لبعضٍ تشَفِّيًا وشماتةً: إنَّه سيَقْدَمُ عليكم قومٌ وقد وَهَنَتْهم وأضعفَتْهم حمَّى يثرِبَ. فلمَّا بلغ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَتُهم، أراد أن يَرُدَّ قولَهم ويَغيظَهم؛ فأمَرَ أصحابَه أن يُسرِعوا إلَّا فيما بَيْنَ الرُّكنِ اليمانيِّ والرُّكنِ الذي فيه الحَجَرُ الأسوَدُ، فيَمْشُوا؛ رِفقًا بهم وشَفَقةً عليهم، حين يكونون بَيْنَ الرُّكنينِ لا يراهم المُشِركون الذين تَسَلَّقوا جَبَلَ "قُعَيقِعانَ" لينظُروا إلى المُسلِمين وهم يطوفون، فغاظهم ذلك) [7543] ((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)) للبسام (ص: 395). ، وهذا من ذكاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفِطنتِه.

انظر أيضا: