موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- قِصَصٌ ونماذِجُ مِن صُوَرِ الفِطنةِ والذَّكاءِ عِندَ الصَّحابةِ


فِطنةُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن ثابتٍ عن أنسٍ قال: (لمَّا هاجر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يركَبُ وأبو بَكرٍ رَديفُه [7544] رديفُه: أي راكِبٌ خَلْفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 226). ، وكان أبو بكرٍ يُعرَفُ في الطَّريقِ لاختِلافِه إلى الشَّامِ، وكان يمُرُّ بالقومِ، فيقولون: مَن هذا بَيْنَ يديك يا أبا بكرٍ؟ فيقولُ: هادٍ يَهديني) [7545] رواه أحمد (12234) مطوَّلًا واللفظ له، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (165) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/94) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه على شرط مسلم: الوادعي في ((الصحيح المسند)) (133)، وصحَّح إسنادَه على شرط مسلم: شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19/ 264)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/62): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. .
- وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((خطَب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ، وقال: إنَّ اللهَ خَيَّر عبدًا بَيْنَ الدُّنيا وبَيْنَ ما عندَه، فاختار ذلك العَبدُ ما عِندَ اللهِ! قال: فبكى أبو بكرٍ! فعَجِبنا لبكائِه أن يخبِرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عبدٍ خُيِّر! فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المُخَيَّرَ، وكان أبو بكرٍ أعلَمَنا)) [7546] رواه مطوَّلًا البخاري (3654) واللفظ له، ومسلم (2382). .
قال ابنُ الجوزيِّ: (هذا الحديثُ قد دَلَّ على فِطنةِ أبي بَكرٍ؛ إذ عَلِم أنَّ المخيَّرَ هو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [7547] ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (3/ 146). .
فِطنةُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه:
- عن أسلَمَ عن أبيه قال: (قَدِمَتْ على عُمَرَ بنِ الخطَّابِ حُلَلٌ من اليمَنِ، فقَسَمَها بَيْنَ النَّاسِ، فرأى فيها حُلَّةً رديئةً، فقال: كيف أصنَعُ بهذه؟! إذا أعطيتُها أحدًا لم يقبَلْها إذا رأى هذا العَيبَ فيها، قال: فأخذَها فطواها، فجعَلَها تحتَ مَجلِسِه، وأخرج طَرفَها، ووضَعَ الحُلَلَ بَيْنَ يَدَيه، فجعَلَ يَقسِمُ بَيْنَ النَّاسِ، قال: فدخل الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ، وهو على تلك الحالِ، قال: فجعل ينظُرُ إلى تلك الحُلَّةِ، فقال له: ما هذه الحُلَّةُ؟ قال عُمَرُ: دَعْ هذه عنك. قال: ما هِيَهْ؟ ما هِيَهْ؟ ما شأنُها؟! قال: دَعْها عنك! قال: فأعطِنِيها. قال: إنَّك لا ترضاها! قال: بلى، قد رَضيتُها. فلمَّا توثَّق منه واشترط عليه أن يقبَلَها ولا يَرُدَّها، رمى بها إليه، فلمَّا أخذها الزُّبَيرُ ونَظَر إليها إذا هي رديئةٌ! فقال: لا أريدُها. فقال عُمَرُ: هيهاتَ! قد فرَغْتُ منها، فأجازها عليه، وأبى أن يَقبَلَها منه) [7548] ((الأذكياء)) لابن الجوزي (ص: 23). .
- وعن جريرٍ: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ قال له، والنَّاسُ يتحامَون العراقَ وقِتالَ الأعاجِمِ: سِرْ بقَومِك، فما غلَبْتَ غَدًا عليه فلك رُبُعُه، فلمَّا جُمِعَت الغنائِمُ -غنائِمُ جَلُولاءَ- ادَّعى جريرٌ أنَّ له رُبُعَ ذلك، فكتب سَعدٌ إلى عُمرَ بنِ الخطَّابِ بذلك، فكَتَب إليه عُمَرُ: صَدَق جَريرٌ، قد قُلتُ ذلك له، فإن شاء أن يكونَ قاتَلَ هو وقومُه على جُعلٍ فأعطُوه جُعْلَه، وإن يكُنْ إنَّما قاتَلَ للهِ ولرَسولِه ولِدينِه وحَسَبِه، فهو رجُلٌ من المُسلِمين؛ له ما لهم، وعليه ما عليهم! وكتب عُمَرُ بذلك إلى سَعدٍ، فلمَّا قَدِم الكتابُ على سعدٍ دعا جريرًا فأخبره ما كتَبَ به إليه عُمَرُ، فقال جريرٌ: صَدَق أميرُ المُؤمِنينَ، لا حاجةَ لي به، بل أنا رجُلٌ من المُسلِمين؛ لي ما لهم، وعَلَيَّ ما عليهم) [7549] رواه ابنُ سعد في ((الطبقات الكبرى)) الجزء المتمم للطبقات (1/826) (401) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (72/81). .
فِطنةُ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن خَنبَشِ بنِ المُعتَمِرِ: (أنَّ رَجُلين أتيا امرأةً من قُرَيشٍ فاستودعاها مائةَ دينارٍ، وقالا: لا تدفَعيها إلى واحدٍ مِنَّا دونَ صاحِبِه حتى نجتَمِعَ، فلَبِثا حولًا، فجاء أحدُهما إليها فقال: إنَّ صاحبي قد مات، فادفعي إليَّ الدَّنانيرَ، فأبت وقالت: إنَّكما قُلْتُما لا تدفَعيها إلى واحدٍ مِنَّا دونَ صاحِبِه، فلستُ بدافِعَتِها إليك، فثَقُل عليها بأهلِها وجيرانِها فلم يزالوا بها حتى دفعَتْها إليه، ثمَّ لَبِثَت حولًا، فجاء الآخَرُ فقال: ادفَعي إليَّ الدَّنانيرَ. فقالت: إنَّ صاحِبَك جاءني فزعم أنَّك مُتَّ، فدفَعْتُها إليه! فاختصما إلى عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، فأراد أن يقضِيَ عليها، فقالت: أَنشُدُك اللهَ أن تقضيَ بَينَنا، ارفَعْنا إلى عَليٍّ، فرفعهما إلى عليٍّ، وعرف أنَّهما قد مَكَرا بها، فقال: أليس قد قُلْتُما: لا تدفعيها إلى واحدٍ منَّا دونَ صاحِبِه؟ قال: بلى. قال: فإنَّ مالَكَ عندنا، فاذهَبْ فجِئْ بصاحبِك حتَّى ندفَعَهما إليكما) [7550] ((الأذكياء)) لابن الجوزي (ص: 25). .
فِطنةُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما:
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ من الشَّجَرِ شَجَرةً لا يسقُطُ وَرَقُها، وإنَّها مِثلُ المُسلِمِ، فحَدِّثوني ما هي؟ فوقع النَّاسُ في شَجَرِ البوادي، قال عبدُ اللهِ: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلةُ، فاستحَيَيتُ. ثمَّ قالوا: حَدِّثْنا ما هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: فقال: هي النَّخلةُ. قال: فذَكَرْتُ ذلك لعُمَرَ، قال: لأن تكونَ قُلتَ: هي النَّخلةُ، أحَبُّ إليَّ مِن كذا وكذا)) [7551] رواه البخاري (61)، ومسلم (2811) واللفظ له. .
ذكاءُ وفِطنةُ حذيفةَ بنِ اليَمَانِ:
عن محمَّدِ بنِ كَعبٍ القُرَظيِّ قال: ((قال فتًى منَّا من أهلِ الكوفةِ لحُذَيفةَ بنِ اليمانِ: يا أبا عبدِ اللهِ، رأيتُم رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَحِبتُموه؟! قال: نعَمْ يا ابنَ أخي، قال: فكيف كنتُم تصنَعون؟ قال: واللهِ لقد كُنَّا نَجهَدُ، قال: واللهِ لو أدرَكْناه ما ترَكْناه يمشي على الأرضِ، ولجعَلْناه على أعناقِنا! قال: فقال حذيفةُ: يا ابنَ أخي، واللهِ لقد رأيتُنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالخَندَقِ، وصلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ اللَّيلِ هَوِيًّا، ثمَّ التَفَت إلينا فقال: مَن رجُلٌ يقومُ فينظُرُ لنا ما فَعَل القومُ -يَشرِطُ له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه يرجِعُ- أدخَلَه اللهُ الجنَّةَ؟ فما قام رجُلٌ، ثمَّ صلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَوِيًّا من اللَّيلِ، ثمَّ التَفَت إلينا فقال: مَن رجُلٌ يقومُ فيَنظُرُ لنا ما فعَلَ القومُ ثمَّ يرجِعُ -يشرِطُ له رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرَّجعةَ- أسألُ اللهَ أن يكونَ رفيقي في الجنَّةِ؟ فما قام رجُلٌ من القومِ مع شِدَّةِ الخوفِ، وشِدَّةِ الجوعِ، وشِدَّةِ البَردِ، فلمَّا لم يقُمْ أحدٌ دعاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يكُنْ لي بدٌّ من القيامِ حينَ دعاني، فقال: يا حُذَيفةُ، فاذهَبْ فادخُلْ في القومِ فانظُرْ ما يفعلون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئًا حتَّى تأتيَنا، قال: فذهَبْتُ فدخَلْتُ في القومِ، والرِّيحُ وجُنودُ اللهِ تَفعَلُ ما تفعَلُ لا تُقِرُّ لهم قِدْرًا ولا نارًا ولا بناءً، فقام أبو سُفيانَ بنُ حَربٍ، فقال: يا مَعشرَ قُرَيشٍ، لِيَنظُرِ امرُؤٌ مَن جَليسُه، فقال حُذَيفةُ: فأخذْتُ بيَدِ الرَّجُلِ الذي إلى جَنبي، فقلتُ: من أنت؟ قال: أنا فلانُ بنُ فُلانٍ. ثمَّ قال أبو سفيانَ: يا معشَرَ قُرَيشٍ، إنَّكم واللهِ ما أصبَحْتُم بدارِ مُقامٍ؛ لقد هَلَك الكُراعُ، وأخلفَتْنا بنو قُرَيظةَ، وبلَغَنا عنهم الذي نكرَهُ، ولَقِينا من هذه الرِّيحِ ما تَرَونَ، واللهِ ما تَطمَئِنُّ لنا قِدرٌ، ولا تقومُ لنا نارٌ، ولا يستمسِكُ لنا بناءٌ، فارتَحِلوا فإنِّي مرتَحِلٌ، ثمَّ قام إلى جَمَلِه وهو معقولٌ فجلس عليه، ثمَّ ضَرَبه فوَثَب على ثلاثٍ، فما أطلَقَ عِقالَه إلَّا وهو قائِمٌ، ولولا عهدُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تُحدِثْ شَيئًا حتى تأتيَني»، ثمَّ شِئتُ لقتَلْتُه بسَهمٍ! قال حُذَيفةُ: ثمَّ رجَعْتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو قائِمٌ يُصَلِّي في مِرطٍ لبَعضِ نسائِه مُرَحَّلٍ، فلمَّا رآني أدخَلَني إلى رَحلِه، وطرَحَ عليَّ طَرَفَ المِرْطِ، ثمَّ ركَع وسَجَد وإنَّه لفيه، فلمَّا سلَّم أخبَرْتُه الخَبَرَ. وسَمِعَت غَطَفانُ بما فَعَلت قُرَيشٌ، فانشَمَروا إلى بلادِهم)) [7552] أخرجه أحمد (23334) واللفظ له، ومحمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (215)، والطبري في ((التفسير)) (20/215). صحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (38/ 359). .
ذكاءُ وفِطنةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((أرسل أزواجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زينبَ بنتَ جَحشٍ، زوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي التي كانت تُساميني [7553] تُساميني: أي: تعادِلُني وتضاهيني في الحَظوةِ والمنزلةِ الرفيعةِ، مأخوذٌ من السُّمُوِّ، وهو الارتفاعُ. يُنظَر: ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (15/ 206). منهنَّ في المنزِلةِ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم أَرَ امرأةً قَطُّ خيرًا في الدِّينِ مِن زَينبَ، وأتقى للهِ، وأصدَقَ حَديثًا، وأوصَلَ للرَّحِمِ، وأعظَمَ صَدَقةً، وأشَدَّ ابتذالًا لنَفْسِها في العَمَلِ الذي تَصَدَّقُ به، وتَقَرَّبُ به إلى اللهِ تعالى، ما عدا سَورةً مِن حِدَّةٍ كانت فيها، تُسرِعُ منها الفَيئةَ، قالت: فاستأذَنَتْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع عائشةَ في مِرْطِها على الحالةِ التي دخَلَت فاطمةُ عليها وهو بها، فأذِنَ لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ أزواجَك أرسَلْنَني إليك يسأَلْنَك العَدلَ في ابنةِ أبي قُحافةَ! قالت: ثمَّ وقَعَت بي، فاستطالت عَلَيَّ [7554] أي: أكثَرَتْ عليها من القَولِ والعَتْبِ. يُنظَر: ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (6/ 326). ، وأنا أرقُبُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأرقُبُ طَرْفَه: هل يأذَنُ لي فيها. قالت: فلم تَبرَحْ زينبُ حتَّى عرَفْتُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَكرَهُ أن أنتَصِرَ، قالت: فلمَّا وقَعْتُ بها لم أنشَبْها [7555] لم أنشبَهْا: أي: لم أمهِلْها . يُنظَر: ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (15/ 207). حتَّى أنحَيتُ [7556] أي: قصَدْتُها واعتمَدْتُها بالمعارضةِ. يُنظَر: ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (15/ 207). عليها، قالت: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وتبسَّمَ-: إنَّها ابنةُ أبي بَكرٍ)) [7557] أخرجه مسلم (2442). .
قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّها ابنةُ أبي بَكرٍ)) معناه الإشارةُ إلى كَمالِ فَهمِها وحُسنِ نَظَرِها [7558] ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (15/ 207). . وقال ابنُ الجوزيِّ:
(أي: هذه الفَصاحةُ والفِطنةُ من ذاك) [7559] ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (4/ 345). .
ذكاءُ وفِطنةُ أُمِّ سُلَيمٍ رَضِيَ اللهُ عنها:
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، يقولُ: قال أبو طَلحةَ لأمِّ سُلَيمٍ: ((لقد سمعتُ صَوتَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضعيفًا أعرِفُ فيه الجوعَ، فهل عندكِ مِن شيءٍ؟ قالت: نعم، فأخرَجَتْ أقراصًا من شعيرٍ، ثُمَّ أخرَجَتْ خِمارًا لها، فلفَّت الخُبزَ ببَعْضِه، ثُمَّ دسَّته تحت يَدي ولاثَتْني ببَعْضِه، ثُمَّ أرسلَتْني إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فذهبتُ به فوجدتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجِدِ ومعه النَّاسُ، فقمتُ عليهم، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرسلك أبو طلحةَ؟ فقلتُ: نعم. قال: بطعامٍ؟ قلتُ: نعم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمن معه: قوموا، فانطلَقَ وانطلقتُ بَينَ أيديهم حتى جئتُ أبا طلحةَ فأخبَرْتُه. فقال أبو طلحة: يا أُمَّ سُليمٍ، قد جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ وليس عندنا ما نُطعِمُهم! فقالت: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، فانطَلَق أبو طلحةَ حتى لَقِيَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقبل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو طلحةَ معه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هلمَّ يا أُمَّ سُلَيمٍ ما عندكِ، فأتت بذلك الخُبزِ، فأمَر به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ففُتَّ، وعَصَرَت أمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً فأدَمَتْه، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه ما شاءَ اللهُ أن يقولَ، ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَذِنَ لهم فأكلوا حتى شَبِعوا، ثُمَّ خرجوا، ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَكل القَومُ كُلُّهم حتى شَبِعوا، والقومُ سبعون أو ثمانون رَجُلًا)) [7560] أخرجه البخاري (5381) واللفظ له، ومسلم (2040). .
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (فيه فَضلُ فِطنةِ أمِّ سُلَيمٍ؛ لحُسنِ جوابِها زَوجَها حينَ شكا إليها كثرةَ من حَلَّ به مع قِلَّةِ طعامِه! فقالت له: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، أي: لم يأتِ بهم إلَّا وسيُطعِمُهم) [7561] ((التمهيد)) (1/ 291). .
فِطنةُ وذَكاءُ وابِصةَ بنِ مَعبَدٍ:
عن وابِصةَ بنِ مَعبَدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أريدُ ألَّا أدَعَ شيئًا من البِرِّ والإثمِ إلَّا سألتُه عنه، وإذا عنده جَمعٌ، فذهَبْتُ أتخطى النَّاسَ، فقالوا: إليكَ يا وابصةُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إليك يا وابِصةُ! فقُلتُ: أنا وابصةُ، دعوني أدنو منه؛ فإنَّه من أحَبِّ النَّاسِ إليَّ أن أدنوَ منه، فقال لي: ادْنُ يا وابصةُ، ادْنُ يا وابصةُ! فدَنَوتُ منه حتَّى مَسَّت رُكبتي رُكبَتَه، فقال: يا وابِصةُ أخبِرُك ما جئتَ تسألُني عنه، أو تسألُني؟ فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ فأخبِرْني، قال: جئتَ تسأَلُني عن البِرِّ والإثمِ؟ قلتُ: نعم، فجَمَع أصابعَه الثَّلاثَ فجَعَل يَنكُتُ بها في صدري، ويقولُ: يا وابِصةُ استَفْتِ نفسَك، البِرُّ ما اطمأَنَّ إليه القَلبُ، واطمأنَّت إليه النَّفسُ، والإثمُ ما حاك في القَلبِ، وتردَّد في الصَّدرِ، وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوك)) [7562] أخرجه أحمد (18001) واللفظ له، والدارمي (2533) مختصرا، وأبو يعلى (1586) باختلافٍ يسيرٍ. حسَّنه النووي في ((الأذكار)) (504)، والشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/284)، وحسَّنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1734)، وحسَّن إسنادَه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/23). .
قال ابن حجر الهيتمي: (وفي جوابِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لوابصةَ بهذا إشارةٌ إلى متانةِ فَهمِه، وقوَّةِ ذَكائِه، وتنويرِ قَلبِه؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحاله على الإدراكِ القَلبيِّ، وعَلِم أنَّه يُدرِكُ ذلك من نفسِه؛ إذ لا يدرِكُ ذلك إلَّا من هو كذلك، وأمَّا الغليظُ الطَّبعِ الضَّعيفُ الإدراكِ فلا يجابُ بذلك؛ لأنَّه لا يتحصَّلُ منه على شيءٍ، وإنَّما يُفَصلُ له ما يحتاجُ إليه من الأوامِرِ والنَّواهي الشَّرعيَّةِ، وهذا من جميلِ عادتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع أصحابِه؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يخاطِبُهم على قَدْرِ عُقولِهم) [7563] ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) (ص: 365). .

انظر أيضا: