موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نماذِجُ من الفِطنةِ والذَّكاءِ عِندَ السَّلَفِ والعُلَماءِ وغَيرِهم


فِطنةُ كَعبِ بنِ سُورٍ:
أتت عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه امرأةٌ فشَكَرت عندَه زَوجَها وقالت: (هو من خيرِ أهلِ الدُّنيا؛ يقومُ اللَّيلَ حتى الصَّباحِ، ويصومُ النَّهارَ حتى يمسيَ، ثمَّ أدركها الحياءُ، فقال: جزاكِ اللهُ خيرًا؛ فقد أحسَنْتِ الثَّناءَ. فلمَّا وَلَّت قال كَعبُ بنُ سُورٍ: يا أميرَ المُؤمِنين، لقد أبلَغَت في الشَّكوى إليك! فقال: وما اشتَكَت؟ قال: زوجَها. قال: علَيَّ بهما. فقال لكَعبٍ: اقْضِ بَيْنَهما، قال: أقضي وأنت شاهِدٌ؟ قال: إنَّك قد فَطِنْتَ إلى ما لم أفطِنْ له...) [7564] ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 24). .
فِطنةُ القاضي إياسِ بنِ مُعاويةَ:
القاضي إياسٌ يُضرَبُ بفطنتِه وذكائِه المثَلَ، وإيَّاه عنى أبو تمَّامٍ الطَّائيُّ الشَّاعِرُ بقولِه:
إقدامُ عَمرٍو في سماحةِ حاتِمٍ
في حِلمِ أحنَفَ في ذكاءِ إياسِ [7565] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (3/ 298). .
تحاكَمَ إليه رجُلانِ، فقال أحَدُهما: إني نزلتُ إلى النَّهرِ لأستَحِمَّ، ولي قطيفةٌ خَضراءُ جديدةٌ وضَعْتُها على جانِبِ النَّهرِ، وجاء هذا، وعليه قطيفةٌ حَمراءُ عتيقةٌ، فوَضَعها ونَزَل الماءَ، ولمَّا طلَعْنا سبقني وأخذ القطيفةَ الخَضراءَ، فقال: ألكما بَيِّنةٌ؟ فقالا: لا. فأمَرَ بمُشطٍ فحَضَر فمشَطَهما به، فلمَّا فعَلَه خرج الصُّوفُ الأخضَرُ من رأسِ صاحِبِ القطيفةِ الخَضراءِ، فأمَرَ له بها [7566] ((الوافي بالوفيات)) لصلاح الدين الصفدي (9/262). .
- وكان يومًا في بَرِّيَّةٍ فأعوَزَهم الماءُ، فسَمِع نُباحَ كَلبٍ، فقال: هذا على رأسِ بِئرٍ! فاستَقْرَوا النُّباحَ، فوَجَدوه كما قال، فسألوه عن ذلك، فقال: لأني سَمِعتُ صوتَه كالذي يخرُجُ من بئرٍ [7567] ((الوافي بالوفيات)) لصلاح الدين الصفدي (9/262). .
فِطنةُ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديُّ:
يُقالُ: إنَّه كان عِندَ رجُلٍ دواءٌ لظُلمةِ العينِ، ينتَفِعُ به النَّاسُ، فمات، وأضَرَّ ذلك بمن كان يستعمِلُه، فقال الخليلُ بنُ أحمَدَ: أله نُسخةٌ معروفةٌ؟ قالوا: لا.
قال: فهل له آنيةٌ كان يعمَلُه فيها؟ قالوا: نعم، إناءٌ كان يجمَعُ فيه الأخلاطَ.
فقال: جيئوني به، فجاؤوه به، فجَعَل يَشَمُّه، ويخرِجُ نوعًا نوعًا، حتى ذَكَر خمسةَ عَشَرَ نوعًا، ثمَّ سأل عن جميعِها ومِقدارِها، فعَرَف ذلكم من يعالِجُ مِثْلَه، فعَمِله وأعطاه النَّاسَ، فانتفعوا به مِثلَ تلك المنفَعةِ، ثمَّ وُجِدَت النُّسخةُ في كُتُبِ الرَّجُلِ، فوجدوا الأخلاطَ سِتَّةَ عَشَرَ خِلطًا، كما ذكَر الخليلُ، لم يَفُتْه منها إلَّا خِلطٌ واحِدٌ [7568] ((الوافي بالوفيات)) لصلاح الدين الصفدي (13/242). !
فِطنةُ أبي حازمٍ:
جاء رجُلٌ إلى أبي حازمٍ، فقال له: (إنَّ الشَّيطانَ يأتيني، فيقولُ: إنَّك قد طلَّقْتَ زوجتَك، فيُشَكِّكُني، فقال له: أو لَيس قد طلَّقْتَها؟ قال: لا. قال: ألم تأتِني أمسِ فطَلَّقْتَها عندي. فقال: واللهِ، ما جِئتُك إلَّا اليومَ، ولا طلَّقْتُها بوجهٍ من الوجوهِ. قال: فاحلِفْ للشَّيطانِ إذا جاءك، كما حَلَفْتَ لي، وأنتَ في عافيةٍ!) [7569] ((الأذكياء)) لابن الجوزي (ص: 80). .
فِطنةُ وذَكاءُ أحمدَ بنِ طُولونَ:
 (ذُكِر عن أحمدَ بنِ طُولونَ أنَّه بينما هو في مجلِسٍ له يتنَزَّهُ فيه، إذ رأى سائلًا في ثوبٍ خَلَقٍ، فوضَع دجاجةً في رغيفٍ وحلوى وأمَرَ بعضَ الغِلمانِ بدفعِه إليه، فلمَّا وقع في يَدِه لم يَهَشَّ، ولم يعبَأْ به! فقال للغلامِ: جِئْني به، فلمَّا وقف قُدَّامَه استنطَقَه، فأحسَنَ الجوابَ، ولم يضطَرِبْ من هيبتِه، فقال: هاتِ الكُتُبَ التي معك، واصدُقْني مَن بَعَثك؛ فقد صَحَّ عندي أنَّك صاحِبُ خَبَرٍ. وأحضر السِّياطَ، فاعتَرَف! فقال بعضُ جُلَسائِه: هذا واللهِ السِّحرُ! قال: ما هو بسِحرٍ، ولكِنْ فِراسةٌ صادقةٌ، رأيتُ سُوءَ حالِه، فوجَّهتُ إليه بطعامٍ يَشرَهُ إلى أكلِه الشَّبعانُ، فما هَشَّ له، ولا مَدَّ يَدَه إليه، فأحضَرْتُه فتلقَّاني بقوَّةِ جأشٍ، فلمَّا رأيتُ رَثاثةَ حالِه، وقوَّةَ جأشِه، عَلِمتُ أنَّه صاحِبُ خَبَرٍ، فكان كذلك) [7570] ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 41). .
فِطنةُ وذكاءُ القاضي أبي بَكرٍ الباقِلَّانيِّ:
وقد كان في غايةِ الذَّكاءِ والفِطنةِ، ذَكَر غيرُ واحدٍ عنه أنَّ عَضُدَ الدَّولةِ بَعَثه في رسالةٍ إلى مَلِكِ الرُّومِ، فلمَّا انتهى إليه إذا هو يدخُلُ عليه من بابٍ قصيرٍ، ففَهِم أنَّ مرادَه بذلك أن ينحنيَ كهيئةِ الرَّاكِعِ للمَلِكِ، فدخَل البابَ بظَهرِه وجعل يمشي القَهقَرى إلى نحوِ الملِكِ! ثم انفَتَل فسَلَّم عليه، فعَرَف الملِكُ مكانَه من العِلمِ والفَهمِ؛ فعَظَّمَه.
ويُذكَرُ أنَّ المَلِكَ أحضَرَ إلى بَيْنِ يدَيه آلةَ الطَّرَبِ المُسَمَّاةَ بالأرغلِ؛ ليستَفِزَّ عقلَه بها، فلمَّا سمعها الباقِلَّانُّي خاف أن تظهَرَ منه حركةٌ ناقصةٌ بحَضرةِ المَلِكِ، فجعل لا يألو جُهدًا أن جَرَح رِجلَه حتى خرج منها الدَّمَ الكثيرَ، فاشتغل بالألمِ عن الطَّرَبِ، ولم يظهَرْ عليه شيءٌ من النَّقصِ والخِفَّةِ، فعَجِب المَلِكُ من كمالِ عَقلِه، ثمَّ استكشف المَلِكُ عن أمرِه، فإذا هو قد جَرَح نفسَه بما أشغله عن الطَّرَبِ، فتحقَّقَ وُفورَ عِلمِه وعُلُوَّ فهمِه.
وقد سأله بعضُ الأساقِفةِ بحَضرةِ مَلِكِهم، فقال: ما فعلَت زَوجةُ نَبيِّكم؟ وما كان من أمْرِها فيما رُمِيَت به من الإفكِ؟ فقال مجيبًا له على البديهةِ: هما امرأتانِ ذُكِرَتا بسوءٍ: مريمُ وعائشةُ، فبَرَّأَهما اللهُ عزَّ وجَلَّ، وكانت عائشةُ ذاتَ زَوجٍ ولم تأتِ بوَلَدٍ، وأتت مريمُ بوَلَدٍ ولم يكُنْ لها زوجٌ! يعني أنَّ عائشةَ أَولى بالبراءةِ من مريمَ -عليهما السَّلامُ- فإن تطَرَّقَ في الذِّهنِ الفاسِدِ احتمالٌ إلى هذه فهو إلى تلك أسرَعُ! وهما بحَمدِ اللهِ مبرَّأتانِ من السَّماءِ بوَحيٍ من اللهِ عزَّ وجَلَّ، رَضِيَ اللهُ عنهما [7571] ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/ 548). .
فِطنةُ وذَكاءُ أبي حامِدٍ الغَزاليِّ:
قال الذَّهبيُّ: (الشَّيخُ الإمامُ البَحرُ حُجَّةُ الإسلامِ، أُعجوبةُ الزَّمانِ...صاحِبُ التَّصانيفِ، والذَّكاءِ المُفرِطِ) [7572] ((سير أعلام النبلاء)) (19/323). .
وقال أحمَدُ بنُ صالحٍ الجيليُّ: (برَعَ في الفقهِ، وكان له ذَكاءٌ وفِطنةٌ وتصَرُّفٌ، وقدرةٌ على إنشاءِ الكلامِ، وتأليفِ المعاني، ودخَلَ في علومِ الأوائِلِ) [7573] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (19/330). .
فِطنةُ وذَكاءُ ابنِ تَيميَّةَ في صِغَرِه حتَّى أسلم يهوديٌّ على يَدَيه:
قال أبو حَفصٍ البزَّارُ: (أخبَرَني من أثِقُ به عمَّن حَدَّثه أنَّ الشَّيخَ رَضِيَ اللهُ عنه في حالِ صِغَرِه كان إذا أراد المضيَّ إلى المكتَبِ يعترِضُه يهوديٌّ كان منزِلُه بطريقِه، بمسائِلَ يسألُه عنها لِما كان يلوحُ عليه من الذَّكاءِ والفِطنةِ، وكان يجيبُه عنها سريعًا حتى تعجَّبَ منه، ثمَّ إنَّه صار كلَّما اجتاز به يخبرُه بأشياءَ ممَّا يدُلُّ على بُطلانِ ما هو عليه، فلم يلبَثْ أن أسلَمَ وحَسُن إسلامُه) [7574] ((الأعلام العلية)) (ص: 17). .
فِطنةُ وذَكاءُ ابنِ القَيِّمِ في مناظَرتِه لعالِمٍ من عُلَماءِ اليهودِ حتى أفحَمَه:
يقول ابنُ القَيِّمِ: (وقد جرت لي مناظَرةٌ مع أكبَرِ من تشيرُ إليه اليهودُ بالعِلمِ والرِّئاسةِ، فقُلتُ له في أثناءِ الكلامِ: أنتم بتكذيبِكم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد شتمتُم اللهَ أعظَمَ شَتيمةٍ، فعَجِبَ من ذلك! وقال: مثلكُ يقولُ هذا الكلامَ؟! فقلتُ له: اسمَعِ الآنَ تقريرَه، إذا قلتُم: إنَّ محمَّدًا مَلِكٌ ظالمٌ قَهَر النَّاسَ بسيفِه، وليس برسولٍ من عِندِ اللهِ، وقد أقام ثلاثًا وعشرين سنةً يدَّعي أنَّه رسولُ اللهِ أرسله إلى الخَلقِ كافَّةً، ويقولُ: أمرني اللهُ بكذا، ونهاني عن كذا، وأوحيَ إليَّ كذا، ولم يكُنْ من ذلك شيءٌ. ويقولُ: إنَّه أباح لي سَبْيَ ذراريِّ من كذَّبَني وخالفَني ونساءَهم، وغنيمةَ أموالِهم، وقَتْلَ رجالِهم، ولم يكُنْ من ذلك شيءٌ، وهو يدأبُ في تغييرِ دينِ الأنبياءِ ومعاداةِ أمَمِهم ونَسْخِ شرائِعِهم، فلا يخلو إمَّا أن تقولوا: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى كان يطَّلِعُ على ذلك ويشاهِدُه ويَعلَمُه، أو تقولوا: إنَّه خفيَ عنه ولم يعلَمْ به؛ فإن قُلتُم: لم يعلَمْ به، نسبتُموه إلى أقبَحِ الجَهلِ، وكان مَن عَلِم ذلك أعلَمَ منه! وإن قُلتُم: بل كان كُلُّه بعِلمِه ومشاهَدتِه واطِّلاعِه عليه، فلا يخلو: إمَّا أن يكونَ قادِرًا على تغييرِه، والأخذِ على يديه ومنْعِه من ذلك، أو لا، فإنْ لم يكُنْ قادِرًا فقد نسبتُموه إلى أقبَحِ العَجزِ المنافي للرُّبوبيَّةِ، وإن كان قادرًا وهو مع ذلك يُعِزُّه وينصُرُه ويوَدُّه، ويُعْليه ويُعْلي كَلِمتَه، ويجيبُ دعاءَه ويُمكِّنُه من أعدائِه، ويُظهِرُ على يديه من أنواعِ المعجِزاتِ والكراماتِ ما يزيدُ على الألفِ، ولا يَقصِدُه أحَدٌ بسُوءٍ إلَّا ظَفِر به، ولا يدعوه بدعوةٍ إلَّا استجابها له، فهذا من أعظَمِ الظُّلمِ والسَّفَهِ الذي لا يليقُ نسبتُه إلى آحادِ العقلاءِ فضلًا عن ربِّ الأرضِ والسَّماءِ! فكيف وهو يشهَدُ له بإقرارِه على دعوتِه وتأييدِه بكلامِه، وهذه عندكم شهادةُ زُورٍ وكَذِبٍ؟ فلمَّا سمع ذلك قال: معاذَ اللهِ أن يفعَلَ اللهُ هذا بكاذِبٍ مُفتَرٍ، بل هو نبيٌّ صادِقٌ، من اتَّبَعه أفلح وسَعِد. قلتُ: فما لك لا تدخُلُ في دينِه؟ قال: إنَّما بُعِث للأمِّيِّين الذين لا كتابَ لهم، وأمَّا نحن فعندنا كتابٌ نتَّبِعُه! قُلتُ له: غُلِبتَ كُلَّ الغَلَبِ؛ فإنَّه قد عَلِم الخاصُّ والعامُّ أنَّه أخبر أنَّه رسولُ اللهِ إلى جميعِ الخَلقِ، وإنَّ من لم يتَّبِعْه فهو كافِرٌ من أهلِ الجحيمِ، وقاتَلَ اليهودَ والنَّصارى وهم أهلُ كِتابٍ، وإذا صَحَّت رسالتُه وجَب تصديقُه في كُلِّ ما أخبَرَ به. فأمسك ولم يُحِرْ جَوابًا) [7575] ((هداية الحيارى)) (2/385). .

انظر أيضا: